تابعنا جميعاً فى الأيام الماضية عن كثب معاناة أهالينا الفلسطينيين بحى الشيخ جراح بالقدس بعد إخراجهم من بيوتهم بقوة الاحتلال، واشتعل الموقف بعد ذلك إلى الأحداث التى نراها بأم أعيننا فى فلسطين كلها، والتى راح ضحيتها الكثير من الأبرياء.
بالطبع لا يوجد عربى أو مسلم لا يتعاطف مع القضية الفلسطينية بكل تاريخها المرير، كما يتعاطف مع كل أقطار الوطن العربى الجريح فى العراق وفى اليمن وفى ليبيا وفى لبنان.. إلخ.
غير أننا أمام مشهد معقد إذا ما قررنا اختيار الآلية والأسلوب المناسب لنصرة قضايا القدس وفلسطين، بعدما تواجد تجار الأزمات من جماعة الإخوان وذيولها فى كل أنحاء العالم الإسلامى للاستفادة من أزمات القدس فى جمع التبرعات وإعلان الجهاد باسم القدس وفلسطين، وتحويل تلك الإمكانيات نحو خصومهم السياسيين.
فنصرة فلسطين من وجهة نظر الجماعة تهييج الشباب وحشدهم، ثم بعد ذلك تحويلهم إلى مرتزقة ليقاتلوا فى ليبيا وسوريا ومصر، وقد حدث هذا من قبل مرات ومرات، ففى عام 2012 عندما أصدر بعض وعاظ الجماعة الإرهابية، ومنهم للأسف من ينتسب إلى الأزهر والأوقاف، أصدروا بيان الجهاد فى سوريا وأنه هو الفريضة العاجلة!.. ثم تحول الشباب المغفل الذين استجابوا لتلك الالاعيب القذرة باسم الله، تحولوا إلى مرتزقة استخدمهم النظام التركى فى حرب وكالة بسوريا وليبيا، ولم يكن للإسلام أو القدس ناقة أو جمل فى تلك الأحداث.
وهذا كله بالطبع لا يعفينا ولا يعذرنا من دعم القضية الفلسطينية ونصرة أهالينا فى القدس، لأنها قضية عادلة من جهة، ومن جهة ثانيةبواجب انسانى ودينى وعربى نشعر جميعا بمسؤلياتنا تجاه القدس وفلسطين، غير أن هذا الواقع المعقد يجعلنا نتحسس خطواتنا حتى تكون محسوبةً لنصرة قضايانا وليس للوقوع فى براثن تجار الأزمات وتجار الدين.
ولقد اعتاد الصهاينة من قديم الزمان اللعب مع العرب والمسلمين بأسلوب "لعبة ملك وكتابة"، وهى لعبة مشهورة كنّا نلعبها ونحن صغار، وفيها خياران فقط إما أن تختار وجه العملة المعدنية "ملك"، أو تختار الوجه الآخر "كتابة".
ولعبة "ملك وكتابة" على مستوى السياسة هى إرغامك عند الأزمات والتضييق عليك حتى لا يكون أمامك سوى خيارين فقط وخصمك هوالمستفيد فى كليهما.
فالكيان الصهيونى محترف جداً فى هذه اللعبة السياسية مع الأمة العربية طيلة السبعين عاماً الماضية، بحيث يوصلنا فى كل حدث إلى اختيار خيار من خيارين فقط مع ضمانه الكسب فى كلا الخيارين. مستغلا بالطبع حالة الضعف والوهن لدينا وموظفاً للخونة من الدول الداعمة للإرهاب والجماعات الإرهابية.
فإما أن تستجيب للتهيج والحشد العشوائى لقضية القدس وتجد نفسك فى مساحة أخرى غير التى خرجت لأجلها (هذا هو المطلوب من قبل الصهاينة وتجار الدين) وإن لم تستجب سيتهمونك بالخيانة ويسبونك على المنابر.
يقينى أن هذه الأزمة جزء من اللعبة السياسية المكشوفة التى تستهدف أوطاننا
وهذا بالطبع يجعلنا أكثر حذراً ووعياً، فلربما بسبب شعارات حق ونداء حق وقعت فى فخاخ ثعالب الاستخراب العالمى فجاهدت فى غير طريق الجهاد، وكافحت فى غير طريق الكفاح، ولربما يتم توظيف حماسة إيمانك ضد أمتك وضد بلادك، وهذا ما سماه القرآن الكريم "ضلال السعى".. قال تعالى "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا" (الكهف/ 103 – 105)
أما عن الحملة المدبرة ضد مصر مع سبق الإصرار كمثيلاتها فى كل الأزمات الفلسطينية واتهام مصر بالتقاعس فإليكم بعض الحقائق والتوصيات:
1- مصر هى البلد الوحيد الذى خاض كل حروبه ضد الكيان الصهيونى، وفقد مائة ألف شهيد من عام 1948 وحتى الآن، وتلقى الطعنات من أشقائه على غرار، (آكل طعامك وأكسر طبقك، وأنت تموت دفاعاً عنى، وألعنك فى كل موقف وأتهمك بالتقاعس، وأعيش أنا اتنعم وأشاهدك من بعيد)
2- مصر هى التى تزعمت إجراءات دبلوماسية مهمة جدا فى 14 أكتوبر 2016 نتج عنها اعتراف رسمى من منظمة اليونيسكو لأول مرة بأن مدينة القدس إسلامية.
فقد اتخذت لجنة البرامج والعلاقات الخارجية فى المجلس التنفيذى لمنظمة اليونيسكو قرارًا جاء فيه: أن المنظمة تعتبر المسجد الأقصى أحد المقدسات الإسلامية، بدون ذكر وجود أى علاقة تاريخية بين اليهود والمسجد، ومستنكرة اقتحامه المتكرر من قبل بعض المتطرفين الإسرائيليين ومن قبل الجيش الإسرائيلي. وجاء هذا القرار استجابةً لمشروع تم تقديمه من قبل مصر وبعض الدول العربية وقد رحبت عدة منظمات وهيئات إسلامية بالقرار وفى مقدمتها منظمة التعاون الاسلامى إلى جانب الحكومة والفصائل الفلسطينية. بالمقابل، قالت مصادر إسرائيلية إن الحكومة تسعى إلى تليين قرار اليونيسكو سالف الذكر، وأن إسرائيل تجرى اتصالات دبلوماسية للتنصل من نص القرار.
وقد ذهب بعض المحللين إلى أن هذا القرار يعتبر تأكيداً دولياً أن القدس منطقة محتلة، وعلى إسرائيل التفاوض بشأنها.
3- تقوم مصر فى كل أزمة فلسطينية بالتدخل فوراً لإنهائها، حتى الأزمات الفلسطينية الفلسطينية والتى أفقدت القضية قوتها.
والعالم كله يشهد بذلك. فدعم مصر فى إجراءاتها لنصرة القضية الفلسطينية هو الطريق الآمن لوصول تعاطفنا ودعمنا للقدس وفلسطين، ودعم جيش مصر الآن هو جزء من إعداد القوة للمستقبل، لأن مصر هى القوة الباقية من هذه الأمة.
4- من واجبات الوقت الآن وفرائض الكفاح والجهاد فى سبيل الله لنصرة الأمة والمقدسات إفشال مخططات الاستخراب العالمى وذيوله من كلاب سكك الأرض (الدول الداعمة للإرهاب والجماعات الإرهابية) فى إسقاط مصر والدول العربية.
وقد سجلت مصر بحربها وانتصارها على الإرهاب انتصاراً تاريخياً سيكتب التاريخ عنه أنه من أعظم التحولات فى تاريخ أمتنا العربية والإسلامية.
وكان هذا استنقاذاً للأمة بأسرها وليس لمصر فقط.
وقد استنقذت مصر أمتها كثيراً فى التاريخ. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا فتحتم مصر فاتخذو منها جندا كثيفاً فإن جندها خير أجناد الأرض، قالو ولماذا يا رسول الله؟ قال: لأنهم هم وأزواجهم وذراريهم فى رباط إلى يوم القيامة.
5- دعم القدس الآن على مستوى الأفراد بتدريس تاريخ المدينة المقدسة للأجيال، ونشر الوعى بين الشباب والترويج على مستوى شعوب العالم لقرار منظمة اليونسكو أن القدس محتلة، ونشر جرائم الكيان الصهيونى بكل اللغات والوصول إلى كل فئات شعوب العالم. وهذا يلزم خطة عمل بين المؤسسات الثقافية والإعلامية فى الدول العربية والإسلامية.
6- توعية الناس والتحذير من الأسلوب الخبيث الذى ينتهجه البعض فى إثارة عواطف الناس بنصرة الأقصى وتجنيدهم لصالح الإرهاب الذى هو بدوره أحد الأجنحة الرئيسية للكيان الصهيونى.
وقد حدث هذا كثيرا فى تجنيد الشباب للجهاد وتطبيق الشريعة وتوريطهم بعد ذلك فى الالتحاق بداعش والمنظمات الإرهابية. وقد سمعنا فى وسائل الإعلام عن شباب تم توريطه ولم يستطع الخروج من المنظمات الإرهابية إلا بالهروب.
7- ربط عواطف الشباب بالأبطال الحقيقيين الذين ضحو بأرواحهم للدفاع عن أوطانهم وأعراضهم ومقدساتهم.. وما أكثرهم.
وأتمنى من المؤسسات التعليمية تدريس التاريخ بصورة تتناسب مع تشكيل وعى الأجيال الصاعدة (تاريخ الأوطان - تاريخ الأبطال - تاريخ المقدسات)
8- نشر خطط حروب الجيل الرابع ضد بلداننا واستهداف أوطاننا ومقدساتنا بالوسائل والآليات الحديثة للحروب على كل المستويات، والتحذيرمنها وتوعية الشباب بآليات ووسائل تتناسب مع هذه الحروب.
9- معاملة العدو بنقيض قصده.
وهذا مبدأ تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحروب. فكثيراً ما تمنى أهل الجاهلية فى مكة المكرمة جر النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه المستضعفين إلى حربٍ غير متكافئة. ثلاثة عشر عاماً يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالصبر على ايذاء الكفار لهم. ولما تمت الهجرة وتم الإعداد المناسب شرّع الله الجهاد فى سبيل الله فى السنة الثانية للهجرة للدفاع عن النفس والعرض والمساجد والبِيع إلخ.
قال تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَادَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)" (سورة الحج).
وقصد الأعداء اليوم جر الشعوب العربية والإسلامية بخبث شديد للاستنفار العشوائى ثم توجيههم ضد بلدانهم تحت شعارات حق يراد بها باطل.
وكنا نرى جمع تبرعات فى كل أنحاء العالم لتحرير القدس، وكان المسلمون يتبرعون بالمليارات ظناً منهم ان هذه الأموال ستدعم القضية الفلسطينية وتحرر القدس، وللأسف ذهبت هذه التبرعات التى تجاوزت عشرات المليارات دعماً للجماعات الإرهابية لاستهداف أوطاننا بمباركة من المحتلين للمسجد الأقصى!
ورأينا قبل ذلك من يشعل الحماسة الإيمانية عند الناس بشعار على القدس رايحين شهداء بالملايين ثم وجهوهم إلى القتل والدمار داخل المجتمعات الإسلامية والعربية.
فاحذروا هذه الوسائل الخبيثة.
10- العمل والإنتاج والسعى ونشر الأمل لمواجهة الهزيمة النفسية التى أُصبنا بها خلال الفترات الماضية.
هذا رأيى الذى أعتبره صواباً يحتمل الخطأ أو هو صوابُ فيه بعض الخطأ، وما أدين به لربى فى هذا الموضوع.
والله من وراء القصد وهو الهادى إلى سواء السبيل.