رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


ابتسامة تكشف المستقبل

16-5-2021 | 18:47


منير عامر,

يظل محمود السعدني تلخيص الحلم فى حياة الضائقة لكل سكان الخريطة المسماة مصر.

عرفت محمود السعدنى، أثناء لهث الممثل يحيى شاهين خلفه عندما أذاقه لسان السعدنى كرابيج الاعتراض على المبالغة فى أداء أحد أفلامه، فتوقف السعدنى أمام مكتبى فى الدور الثانى بمبنى روزاليوسف المتهالك بشارع محمد سعيد وهو يقول له : الأداء التمثيلى العظيم يحتاج إلى البساطة لا إلى الافتعال.

وكأنه كان يلقى إليه بحكمة حياته كلها، الحياة وسط الأهوال ببساطة وعدم افتعال.

تمر الأيام وتنتقل روزاليوسف من المبنى المتهالك بشارع محمد سعيد لتصبح منارة شارع قصر العينى، وتأتى تجربة انفصال مصر عن سوريا كأول إطلالة لانكسار الأحلام الكبيرة، وكان اللقاء المباشر بينى وبينه حين دخل مكتبى قائلاً: "عرفت أنك قد تزوجت وبعد ذلك وقتك صار ملكا لموهبتك، ولن تأخذ كل الوقت للبحث عن تجربة عاطفية" ضحكت قائلاً: أنا غلبان قال: لكن سطورك وكلماتك قالت لى إنك موهوب وأستاذك صلاح عبدالصبور يحكي كثيراً عن موهبة اكتشافك للأعماق التى تخوضها عبر تجربة اكتشافك للنفس البشرية، ابتسمت قائلا: أنا تحت أمرك وكان معه قرار تعيينه كرئيس تحرير لمجلة "صباح الخير".

قال لي: سيكون مكتبك بجانب حجرة رئيس تحرير "صباح الخير" لتتسلم تحقيقات وأخبار ومقالات الزملاء ثم نجلس معا أنا ولويس جريس وأنت لنقوم بترتيب العدد الذى سوف يصدر وسيكون عندك إجازة من الحضور للمجلة الاثنين والثلاثاء لتحقق التحقيقات الصحفية التى سأطلبها منك؛ وسيكون كل ذلك مقابل مكافأة تعيينك على تحمل مسئولية رعاية طفلك الوليد، طلب منى أن أقابل كبار قامات الصحافة فى زماننا، محمد التابعي، أحمد الصاوي محمد، كامل بك الشناوي وكان له معرض خلال ثلاثة أيام.

ابتسم وهو يقرأ الخناقة بين الأستاذ محمد التابعى وخادمة المنزل التى لم تدقق جيدا فى فاتورة المشتريات، وفى نفس الوقت كان يملي بالتليفون قائمة طلبات المكسرات "الفستق وعين الجمل ولب أبيض إضافة إلى صندوق الكريز"، وكل تلك كانت ممنوعات تقريبا من السوق المصرى ولكنها كانت موجودة عند محل واحد بالإسكندرية وسيرسلها المحل من محطة الرمل إلى الزمالك.

كنت مندهشا لأن تلك الأشياء لا توجد بالأسواق لعموم المصريين، ولقد نبهت الأستاذ التابعى إلى أن ما يطلبه ليس موجودا بالأسواق نظر إلى سجادة معلقة على الحائط كأنها لوحة فنية قائلا: وهذه السجادة أيضا لا يوجد مثيل لها على حوائط البيوت المصرية.

أما لقائي مع كامل بك الشناوي قد بدأ بكلمات كامل بك الشناوي... لم يكن محمود السعدنى يرسل لى شخصا غير موهوب ليسألنى، شكرت كامل بك الشناوي متسائلا كيف عرفت أننى موهوب؟ قال: محمود السعدنى لا يقبل العمل إلا مع مواهب حقيقية.

عندما عدت من لقاء كامل بك الشناوى قال لى محمود السعدنى: ستكون سكرتير تحرير صباح الخير ومعنى ذلك أن تتواجد بالمجلة بعضًا من ساعات النهار وبعضًا من ساعات الليل، وحدث ما أمر به محمود السعدني وقد كان صاحب هيبة وكلمات فى مؤسسة روزاليوسف.

ثم جاء قرار السماء بصعود روح جمال عبدالناصر إلى بارئها وأطل السؤال الصعب، كيف كان جمال عبدالناصر يحكم مصر؟ وكانت إجابات أغلب المسئولين المرافقين لجمال عبدالناصر عن هذا السؤال الصعب.

لن أنسى قول محمود السعدنى لشعراوى جمعة وزير الداخلية الأشهر: "لماذا لا تقبض على أنور السادات وتريحنا من أن يحكمنا من الذى يسوق البلاهة على الشيطنة"؟

وعرفت بعد ذلك أن شعراوي جمعة قد قال له: الرجل من اختيار جمال عبدالناصر ولا يمكن أن نجعل من مصر سوريا أخرى يقوم فيها انقلاب كل ثلاثة أيام.

وجاء الأول من مايو عام 1971، ليقيل أنور السادات الشوكة التى تقف فى حلقه واسمها "علي صبرى" نائب رئيس الجمهورية، وجاء إلى مكتبي علي السمان الذى كان يعمل مندوبا عن وكالة الشرق الأوسط بباريس وكنا نعرف عمق صلته السرية والعلنية مع أجهزة المخابرات المختلفة، قال علي السمان: ما إن لم يقم شعراوي جمعة باعتقال أنور السادات فأنور السادات سيعتقل كل أطراف مساعدى جمال عبدالناصر، وقلت لعلي السمان لماذا تبلغنى أنا بذلك أجاب.. أنا أقدم لك ولشعراوى جمعة خدمة جليلة، أخذته من يده ليقول نفس الكلمات أمام محمود السعدنى وتركنى لأذهب أنا والسعدني إلى مكتب شعراوى وطلبنا منه أن ينزل إلى الفناء الموجود أمام وزارة الداخلية، فقال محمود السعدنى لشعراوى جمعة رسالة علي السمان،  ابتسم شعراوي جمعة وطلب منا أن نصعد معه لمكتبه ليسمعنا تسجيلا بين علي السمان ومحمود أبو وافية عديل السادات الذى يقول له ما لم يقم السادات بالقبض على أنصار عبدالناصر فسوف يعتقلونه ويقدمونه للمحاكمة.

عدنا إلى أعمالنا لنجد أخبارا باعتقالات فريق العمل مع جمال عبدالناصر بأكمله بداية من شعراوى جمعة وعلي صبرى وسامى شرف ومحسن عبدالنور وكل من له صلة مباشرة بعبدالناصر.

وكان على مجلة "صباح الخير" أن تصدر لمَ كانت المباحث العامة تبحث عن محمود السعدنى.

لا أنسى صوت اللواء سيد زكى مدير مباحث الصحافة وهو يسألنى عن مكان محمود السعدنى فهو يبحث عنه منذ يومين ولا يعرف مكانه، فأجبته هل مطلوب من سكرتير تحرير صباح الخير منح طريق تعتقل من خلاله رئيس التحرير، وأنهيت المكالمة، لأعلم بعد ذلك أن محمود السعدنى ذهب بنفسه لمقر وزارة الداخلية ليسلم نفسه.

وكان علينا أن نعيش عاما وعدة شهور قبل أن تصافح عيوننا ملامح محمود السعدنى بعد أن خرج من المعتقل، وكنت أول من زاره بالمنزل سائلا إياه متى يعود للكتابة فى صباح الخير؟

قال لن يسمح السادات بذلك، وتمر الأيام وألتقي به بعد شهور فى بيروت سافر إليها باحثاً عن موقعه فى الصحافة العربية.

لا أنسى وقوفنا فى شرفة حجرته بالفندق بشارع الحمراء ببيروت وكان فى الشارع سيدتان تلتحفان بالسواد تعرضان بعضًا من السلع للبيع، قال لي محمود السعدنى هؤلاء من أهل الجنوب اللبنانى الذى سيذيق العالم العربي الويل نتيجة غياب الاهتمام به بعد رحيل جمال عبدالناصر، هذا الذى كان حريصا كل الحرص على العناية بأهل جنوب لبنان ليدمجهم فى النسيج اللبنانى وكان يحلم بهدم الجدار الفاصل بين "الشيعة" "والسنة" وهو أمر لا تتمناه إسرائيل أو أمريكا أو الكثير من العواصم العربية التى تقتات من الخلافات العربية.

وما هي إلا عدة أشهر حتى أرسل لي برقية من أبوظبى أحضر الفيزا بالمطار وكانت زوجتي مريضة فحدثته تليفونيا بأنى أحتاج لبعض الوقت لترتيب أموري للسفر إليه حيث كان يستعد لإصدار صحيفة أسبوعية من أبوظبى بتكليف من صديقه الذى أحب كلماته كثيرا الشيخ زايد.

سافرت إليه وبدأنا العمل لإصدار الصحيفة، وجمعنا بعض الموهوبين من الشباب العربي لتصدر الفجر بعد عدة أسابيع.

ومن العجيب أنها كانت تطبع بالكويت لأن أبو ظبى كلها عبارة عن عدة أحياء متناثرة على خريطة صحراوية لا تملك هذا التحضر الذى تملكه حاليا ولكنه كان موجودا فى خيال الشيخ زايد.

فزايد بن سلطان هو أحد الحكام القلائل الذى استطاع أن يترجم أحلامه لواقع،

فصارت الإمارات كما هى حاليًا، درة آسيا المطلة على الخليج العربي. لم أستطع تحمل الحياة فى ظل الرطوبة التى تكتم على صدرى، فطلبت من محمود السعدنى أن يتركنى لأعود إلى القاهرة بعد 50 يوما من إصدار خمسة أعداد من جريدة الفجر، وسمح لى بذلك.

 قالى لي وهو يودعنى: كنت أعلم أنك لن تتحمل الحياة بعيدًا عن القاهرة.

بكرم معهود عن محمود السعدنى أجزل لى العطاء مكافأة نهاية الخدمة ثم سافر إلى لندن ليصدر مجلة  23يوليو ولم تفتر علاقتى بهذا الساخر الجميل إلى أن أزالت الأيام الفصل بينه وبين التواجد بالقاهرة فقد تم اغتيال السادات وتولى حسنى مبارك الحكم وعاد محمود السعدنى ليضيء دار الهلال من الصفحة الأخيرة بمجلة المصور.

كل السطور السابقة تحكى ملامح من محبة محمود السعدنى لهذا البلد ولن أستطيع أن أوفّي الرجل حقه فى ما أعطاه، فقد كانت خطواته على أرض مصر قبلات على خريطة عشقها بلا نهاية.

أرجو لقارئ هذه السطور التماس عجزي عن التعبير عن عشق محمود السعدني  لأهل مصر والعروبة.

أعطى الرجل ولم يسأل يوماً عن ثمن.