د. شيرين الملواني,
الأدب الفلسطيني الذي تميز بالبعد عن البكائيات أو الاستغاثات؛ محتويًا أغلب الموضوعات الإنسانية رغم حجم المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ أمْد، هذا الأدب بشقيه البارزين - أدب الشتات وأدب الأرض المُحتلة - ظهر كرواية ونثرا وشعراً فعليًا ببصمته منذ 1948 ولمْع بعد نكسة 1967، حيث شكل الاحتلال والتهجير إطاره وسماته التي تَكمُن في اختلافات واضحة مُتعلْقة بالزمان والمكان ولهجة الخطاب والقضية السياسية السائدة.
ويَكمُن سمو ذلك النوع من الأدب فى الترفع عن الازدراء والعنصرية لشخصية اليهودى التى تم تناولها فى الأعمال بصورة عادلة ولم يواجهها الأديب الفلسطينى فى كتاباته مُعتبِرًا المُحتَل كتلة مريضة جاءت مُشرْدة من العالم لتغتصب أرضه؛ وليس أدل على ذلك من نموذج شخصية اليهودية ( مريم ) فى رواية (عائد إلى حيفا) لغسْان كنفانى حيث صورها إنسانة تكره ظلم بنى عرقها للعرب، عكس الروايات الإسرائيلية التى تفننت فى تصوير العرب كجهلة مُخادعين، بدو رُحل بلا أصل أو حضارة كما فى روايات (يائيل دايان) أو ( ليون أوريس).
ولعل أول إشارة للشخصية اليهودية ظهرت فى رواية (الوريث) لخليل بيدس عام 1920 وصورها من منظور نظرة العالم لليهودى كمبتز مُحِب للمال مُقتبسًا الفكرة من تاجر البندقية لشكسبير؛ صورها فى هيئة الراقصة مصْاصة الدماء التى تتعيش من أموال المُهاجرين الشباب، ولا يختلف عن هذا إسحق موسى الحسينى فى روايته (مذكرات دجْاجة) الصادرة عام 1943 والتى كُتبت على خطى كليلة ودمنة رغم أن اليهودى أحد أبطالها إلا أنه كان من ضمن الشخوص فى الرواية ولم يختصْه بعداء.
ظل الكُتْاب الفلسطينيين بعيدين عن تيارات الفكر التى هبْت على العراق ولبنان من القاهرة، كانوا بمعزل عنها مما يُفسِر الجفاف فى الحياة الثقافية قبل 1948 حيث برْز بعدها إبراهيم طوقان، وأبو سلمى وتزامن معهم فى المكانة أديب الشتْات جبرا إبراهيم جبرا أما الأديبات فتربعت سميرة عزْام على عرش القصة القصيرة بمجموعتها الأشهر (أصوات الليل) وإنتاج أغزر لولا وفاتها كمْدًا عن عمر يناهز 42 عامًا بعد نكسة 1967 وظلمها النقد العربى بتكثيف اهتمامه على تتبْع تداعيات النكسة على الأدباء الرجال الذين منهم من صَمُت أو اكتئب أو انتحر ولم ينتبه النُقاد لإناث الأدب .
وفى الستينيات توازن الأدب الفلسطينى بظهور غسْان كنْفانى؛ فهو ابن النكْبة الذى صَور الشتْات وضياع الأحلام بحثًا عن فرص رزق فى الخليج برائعته (رجال فى الشمس) التى احتفى بها المشهد الثقافى العربى عام 1963، وكانت بداية تصنيفه من رواد الرواية وأغلب كتابات كنفانى تقطُر شعورًا بالذنب عند المثقف الفلسطينى لضياع وطنه وتشرْده حتى وقعت النكبة ناهيًا روايته بالصرخة الأشهر “لماذا لم تدقوا الخزان” فقد بقى الفلسطينى صامتًا فى الخزان لم يدقه ولم يهرب ولم يجتز الحدود.. ولم يقتصر نقد الذات على كنفانى بل برز عند الكثيرين مثل رواية جبرا (البحث عن وليد مسعود) عام 1978 و(عالم بلا خرائط) بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف.
وبداية من سبعينيات القرن العشرين برزت على الساحة الأدبية أصواتًا مميزة فى الرواية والقصة القصيرة مما وضع هذا الأدب على محك التماس مع الآداب الأخرى مع إتقان الكثير منهم للغات الأجنبية فتم نقْل صوت الإبداع الفلسطينى للعالمية مع بقاء القضية السياسية المحور الأهم بتنويعات مختلفة كما عند إبراهيم نصر الله والتى ظهرت فى روايته الثالثة "مجرد اثنين فقط" التى كتبها بلغة شاعرية عذبة يلوم فيها الأنظمة العربية ووسائل الأعلام العربي .
يعيش الأدب الفلسطينى أزهى عصوره فى تقويم إبداعه وامتلاك أدواته بعد أن ظل النقد العربى مدفوعًا بالعاطفة وبإحساس التقصير وعقدة الذنب تجاه القضية الفلسطينية لكونه لعقود ظل يربط الكتابة بالقضية السياسية ويعتبرها جواز سفر متسامح مع كثير من النصوص النثرية والشعرية مما خلق أزمة فى إبداع الأديب الفلسطينى هى فى أنه سواء كان من الفلسطينيين فى إسرائيل، أم فى الضفة الغربية وغزة أو من فى الشتات، فإنهم ملزمون بحكم هويتهم الفلسطينية ذاتها بأن يعيشوا حياة تتحكم فيها ظروف وأحداث نابعة من رفضهم للأسْر وضياع الوطن مثلما تتحكم فيها نوايا الآخرين فالكاتب الذى يُفكر فى التوجه منفصلًا عن السياسة ككاتب، يتنكر للواقع والتجربة والانغماس فى الحياة اليومية ويُصنْف مُقصْرًا فى نظر النقاد.
الأدب الفلسطينى مسموع الصوت ويحمل رسالة سامية وواجب وطنى قد تكون أقوى من المؤتمرات والمظاهرات لكن لابد من إفساح المجال له فى ميدان أكثر اتساعًا والا يكبل ويقصر فقط على القضية الفلسطينية.
نصر الله فلسطين وشعبها وزاد من مبدعيها .