رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أمل دنقل.. شاعر قدس القومية وقرر تطويرالموروث

21-5-2021 | 19:14


الشاعر امل دنقل

مريانا سامي

قال الشاعر الكبير أمل دنقل في حوار صحفي له، إن التراث جزء هام من تطوير القصيدة العربية بل ويلعب دوراً هاماً في الحفاظ على انتماء الشعب لتاريخه، ولكن يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لايجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل به إلى الحاضر واستشراف للمستقبل.

لقد تأثرتُ في بداية حياتي بالتراث الإغريقي، وكتبتُ أيضاً قصائد استلهمت فيها التراث الفرعوني، لكن تواصلي مع الناس لم يبدأ إلا عندما استخدمت التراث العربي.

كان أمل دنقل مولعًا بالتراث العربي والسير الشعبية والأساطير، مولعًا بها حد الغوص فيها بتعمق ودراسة،  فقد  كبر على قراءة شعر الرواد وساعده في ذلك كينونته الثقافية ووجوده في منزل أبيه الذي كان شاعرًا وعالمًا، فقرأ التراث العربي في وقت مبكر وحين كبر أعاد القراءة مرات عديدة ليصل إلى عمق الموروث وجوهره فيوظفه فيما بعد في قصائده.  

لم يكن فقط شاعرًا يقرأ ليوظف التراث من الناحية الفنية لكنه كان باحثًا ومنظرًا فيه، فقد كتب في حياته بحثًا تاريخيًا بعنوان "قريش عبر التاريخ"، كان بحثًا جريئًا ورفضت وقتها الأهرام نشره.

تميز أمل عن باقي الشعراء في إصراره الشديد على إعادة تدوير الموروث العربي بشكل خاص فقد قّل استخدامه للموروثات الغربية بشكل ملحوظ، ربما لإنه أراد أن يصل إلي الجماهير العربية من خلال أبطال وقصص تعرفهم ويعرفونها، كذلك إعادة تدوير الموروث بما يناسبه في عرض أفكاره وقضاياه وهو الأمر الذي جعله يضفي على الموروث والأسطورة العربية روح الثورة، فلم يأخذها كما هي بدون إضافة لكنه أتخذها كقناع شعري لما يود أن يقوله في المناخ السياسي أنداك، وهو الأمر الذي يُحسب لأمل دنقل فقد برع فيه براعة خالصة.  

ويذكر في دراسة بحثية إنه على صعيد توظيف التراث في النص الدنقلي، يقول الشاعر أمل دنقل في هذا السياق" إن استلهام التراث في رأيي ليس فقط ضرورة فنية، ولكنه تربية للوجدان القومي أيضًا ولم يلجأ أمل دنقل للتراث فقط؛ الأسباب فنية تثقل كاهل القصيدة دون جدوى منها، بل دافعه الأساسي والأقوى هو القيم الوجدانية القومية، التي أصيبت في مقتل بعد نكسة العرب وهزائمهم المتكررة، واتفاقية كامب ديفيد التي كانت بمثابة الضربة القاضية والغادرة في ظهر شاعرنا والأحرار من الشعوب العربية، لذلك كتب نصه الشهير "لا تصالح"، الذي كان يعد وثيقة تمثل رفض الشارع العربي للمصالحة والتطبيع مع العدو الذي سلب الأرض، لقد عبر عن الرؤية العربية وليس رؤيته الخاصة فقط، فكان النص يحمل نبوءة بغد قاتم الملامح.

وفي هذا الصدد تؤيد الباحثة حلماء قدسي الرأي ذاته فتقول، إن توظيف الرموز والعناصر التراثية يساعد علي تخفيف الغنائية والذاتية في الشعر العربي المعاصر ويبتعد القصيدة من البيان الخطابي والتعبير المباشر. يشدد أمل دنقل في استخدامه للتراث علي توظيف التراث العربي والاسلامي واستمداد الشخصيات والرموز التراثية منه هادفاً إلي إيقاظ وتربية الحس القومي والوطني.  إن معظم الشخصيات والرموز والوقائع والأحداث المستدعاة في دواوين الشاعر ينتمي إلي شخصيات المتمردين والرافضين. منها شخصيات سبارتاكوس، شيطان، سيزيف.  

إن أمل دنقل يعبر من خلال أصوات تراثية مختلفة ومتنوعة في قصيدة واحدة. ولكن هذه الشخصيات تتآزر جيمعاً في بيان موقف الشاعر وتعدد هذه الأصوات يتوفر الإمكانيات التي تبرز في القصيدة المعاصرة، وهي المونولوج والحوار والمشهد المسرحي.

واستلهم أمل التراث ليحقق مآرب جمالية وسياسية، إذ يرجع استخدامه للرمز التراثي زمنيا إلى الفترة الواقعة ما بين 1960م إلى 1961م، عند حضوره إلى القاهرة، قال:" اكتشفت أن هناك شيئا اسمه الاعتقال السياسي، وأن الكتاب والشعراء ممكن أن يدخلوا السجون. ولم يكن ممكنا التعبير عن هذه الصدمة بالمباشرة التي أكتب بها عن الظواهر الاجتماعية الأخری من هنا اهتديت إلى ضرورة الرمز.  وظف أمل دنقل التراث بصور متنوعة فها هو يستخدم الشخصيات التاريخية ك صلاح الدين الأيوبي والمتنبي و عمر بن عبدالعزيز وغيرهم.

في قصيدة "خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين" نجد أمل دنقل يحاور ذاته المتمردة فيخبر صلاح الدين الأيوبي عن حال العرب - وهو واحد منهم- وعن هزائمهم وانكساراتهم، فقد تناص مع شخصية صلاح الدين لقوة الشخصية تاريخيًا وأرتباطها بالأمجاد العربية والنصر، ولم تكن القصيدة مجرد رثاء لماضي العرب المليئ بالانتصارات، لكنه كان صفعة مدوية وفضح للواقع المرير أنداك.

فيقول أمل : نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الورودُ..  كَالمِظَلَيين! وَنَحْنُ سَاهِرُونَ في نَافِذةِ الحَنِينْ نُقَشّرُ التُفاحَ بِالسِكـِّينْ وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَةْ'! فَاتِحَة: آمِينْ.

وفي دراسة بحثيه يقول الدكتور محمد هندي : شكّل صلاح الدين بنية محورية في قصيدة أمل دنقل المعنونة بـ"خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين"، حيث يظهر صلاح الدين في هذه القصيدة في هيئتين: الأولى ذاتية تتمثل في رؤية أمل دنقل الخاصة، واعتزازه بشخصية صلاح الدين الواقعية، والأخرى تتمثل في هيئة العرب الغرقى (كما أسماهم في قصيدته) الذين يبحثون عن مخرج، وغد أفضل، والذين وضعهم في صورة تقابلية استنكارية مع صلاح الدين.

ومن خلال هاتين الهيئتين تتشكل الرؤية العامة للشاعر في علاقته بـصلاح الدين، أو (الحلم المنتظر).

أما في قصيدة أخرى كقصيدة "من مذكرات المتنبي" لم يستخدم أمل ضمير المخاطبة لكنه أرتدى قناع المتنبي نفسه وتكلم هو معبرًا عن أفكاره وروح الأحداث التي يعيشها، فتخيل حوارً بينه وبين كافور الأخشيدي.

توغل أمل دنقل في نفس المتنبي مثله مثل باقي الشخصيات التراثية التاريخية التي غاص فيها أمل، كانت تجربة المتنبي تشبه بنسبة كبيرة تجربة أمل دنقل فالمتنبي كان من الشعراء القليلين الذين أمتلكوا رؤية فذه كانت في الوقت نفسه هي القضية والموقف، كذلك كانت شخصية المتنبي شخصية مملوءة بالدلالات والأبعاد أوضحهم البعد السياسي فأستعاره أمل دنقل ليعبر من خلال قناعه عن مايؤمن به، كانت القصيدة تمثل خط الوصل بين ماضي العرب وحاضرهم وما يمكن أن يحدث مستقبلاً.

ويقول محمد علي عزب في دراسة له :عن تقنية القناع الشعرى المستخدمة في قصيدة المتنبي اٍن الشاعر يتقمّص الشخصية التاريخية لا يتكلم بلسانها ولكنه يعطيها وعيه ورؤيته المعاصرة للواقع، حيث تمتزج ذات الشاعر بهذه الشخصية التاريخية فى موقف أو حالة أو ملمح ما، ونتيجة لهذا الاٍمتزاج تظهر ذات شعرية جديدة تتحدث فى القصيدة بضمير المتكلم، كما فى قصيدة " من مذكرات المتنبّى فى مصر"، فالقناع الشعرى الذى استخدمه أمل دنقل هنا هو شخصية "المتنبّى" الشاعر العربى الكبير الذى زار مصر فى فترة حكم كافور الاٍخشيدى " 292 ـ 357 هجرية / 905 ـ 968م"، العبد الأسود الذى اشتراه " محمد بن طغج الاٍخشيدى " وقرّبه منه عندما لمح فيه الذكاء والفروسية فأصبح بعد وفاة سيّده حاكما على مصر وحافظ على بقاء الدولة الاٍخشيدية فى مصر حتى وفاته، وقد واستقر " المتنبى" فى قصر " كافور" ومدحه فى شعره ثم انقلب عليه بعد ذلك وهجاه هجاءا جارحا حادا، ودون الدخول فى تفاصيل أسباب انقلاب " المتنبى " على " كافور" وهل كان السبب فى المدح والهجاء يتعلّق بالمال ورغبة " المتنبى" فى الحصول على عطايا كافور؟!، أم أن كافور كان يستحقّ هذا الهجاء ؟! بالرغم من أن الكثير من المصادر التاريخية المعتبرة مثل " النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة " لابن تغرى بردى، و" كتاب العبر" لابن خلدون،  و" وفيات الأعيان " لابن خلكان قد أشادت بعدالة وحسن سياسة وفروسية " كافور"، فاٍن هذه التفاصيل ليست خادمة للقصيدة.

 فالمتنبّى هنا قناع شعرى تراثى و" كافور" رمز شعرى تراثى وفى استحضار الشاعر أمل دنقل لهما فى هذه القصيدة جرّد كل شخصية من بعض صفاتها وملامحها الدالة ووظفها فى نصّ شعرى معاصر لتعبرعن دلالات جديدة خاصة بسياق النصّ الشعرى المعاصر.

 حيث قال أمل دنقل فى هذه القصيدة :

أمثل ساعة الضحى بين يدي كافور ليطمئن قلبه... فما يزال طيره المأسور لا يترك السجن ولا يطير أبصر تلك الشفة المثقوبة  ووجهه المسود والرجولة المسلوبة أبكي على العروبة ! وظف أيضًا الأسطورة في التراث فنجده مثلاً يحاور زرقاء اليمامة في قصيدته الشهيرة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة".

 ليبدأ كالتالي، أيتها العرافة المقدسه. . جئت اليك مثخنا بالطعنات والدماء.. أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسه..  منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء. أسأل يازرقاء. عن فمك الياقوت، عن نبوءة العذراء عن ساعدي المقطوع.. وهو مايزال ممسكا بالراية المنكسه.

حاور أمل دنقل زرقاء اليمامه يبث إليها شكواه من حال العربى الذي حملوه بسلاح فاسد وجروه إلى ساحة حرب تاركينه يواجه موته بمفرده حتى وهو بلا ساعد بلا قوة وإرادة.  

أيتها النبية المقدسة لا تسكتي فقد سكت سنة بعد سنه لكي أنال فضلة الأمان قيل لي أخرس فخرست وعميت وائتممت بالخصيان ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان أجتز صوفها أرد نوقها أنام في حظائر النسيان طعامي الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسه.

في هذا المقطع الشعري يستكمل أمل دنقل ثورته يجسد ذاته الرافضة الثائرة على تكميم الأفواه من حوله، فيترجى زرقاء اليمامه كل لا تسكت، تثور وتتكلم ولا يرهبها شيئ فإنهم قد سكتوا من أجل الأمان وإذا بهذا الأمان يشنقهم جميعًا، يطعنهم ويتركهم قتلى في الساحات أو رعاة في الحظائر، هكذا عبر أمل عن واقع العربي المسلوبه حقوقه وانسانيته.  

ويختم أمل قصيدته بقوله، ها أنت يا زرقاء وحيدة عمياء وما تزال أغنيات الحب والأضواء والعربات الفارهات والأزياء فأين أخفي وجهي المشوها  كي لا أعكر الصفاء الأبله المموها في أعين الرجال والنساء وأنت يا زرقاء وحيدة عمياء وحيدة عمياء.

وعن توظيف الموروث الديني في شعر أمل دنقل فلن نجد مثال أوضح من ديوانه "العهد الأتي" أنضج أعمال أمل الذي فيه خلق عهدًا جديدًا على غرار تقسيم الكتاب المقدس إلى العهد القديم والعهد الجديد، فجاء أمل بالعهد الأتي، الذي قسم فيه القصائد إلى أسفار واصحاحات.

فبدأ ديوانه بصلاة وقال : أبانا الذي في المباحث. نحن رعاياك باق لك الجبروت وباقٍ لنا الملكوت وباقٍ لمن تحرس الرهبوت.  وهنا استخدم أمل دنقل الصلاة الربانية في الكتاب المقدس ومشى على نهجها تمامًا لكنه غير ما تحويه سيسها وجعلها أكثر ثورية ومعارضة ووصف للواقع المعاش.

فتقول الصلاة الربانية : أبانا الذي في السموات ليتقدس أسمك ليأتِ ملكوتك لتكن مشيئتك ويستكمل أمل ديوانه بسفر التكوين على غرار اسم التكوين في التوراة ويقسمه إلى اصحاحات كل إصحاح فكرة.

فيبدأ الاصحاح الأول، "في البدء كنت رجلًا وامرأة وشجرة" ، ويستكمل في باقي الاصحاحات "قلت فليكن الحب في الأرض لكنه لم يكن أصبح الحب ملكًا لمن يملكون الثمن ورأى الرب ذلك غير حسن" ، وهكذا لم يوظف أمل دنقل أبدًا أي موروث كما أستلمناه لكنه كان حريصًا كل الحرص على تثوير هذا الموروث بما يتلائم مع طبيعة الزمان الذي يحيا فيه، بما يتفق مع أفكاره وقضاياه التي يدافع عنها، وكان حريص أكثر على استخدام الموروث العربي كي يكون أكثر قربًا من الجماهير فتصل فكرته بسرعة وبوضوح.