رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (16)

22-5-2021 | 12:08


د. محمد أبو الفتوح,

رأس الملكة «تي» في متحف برلين

اشترى هذه الرأس عالم الآثار الألماني "لودفيج بورشاردت" من تاجر آثار بالقاهرة عام 1905 لحساب جامع التحف الألماني جيمس سيمون، ومن خلال البحث والتحري، عرف بورشاردت أن مصدر هذا الرأس مدينة غراب، حيث تمَّ العثور عليها مع عدد من القطع الأخرى من الخشب والعاج، وهو موقع قديم عند مدخل واحة الفيوم، في مواجهة اللاهون، عرف هذه المنطقة قبل عصر الدولة الحديثة.

وفي هذا الموقع عثر على العديد من القطع الأثرية التي تعود إلى عصر الملك رمسيس الثاني، كما يوجد بالموقع بقايا لأطلال معبدين كبيرين من عهد الملك تحتمس الثالث.. والرأس إحدى أهم مقتنيات متحف برلين، يصل ارتفاعها 27.4 سم، ومن المرجح أنها نزعت أو أزيلت من جسد تمثال.

مرَّت الرأس بمرحلتين قديماً حتى وصلت إلينا في صورتها المعروضة عليها في متحف برلين الآن، المرحلة الأولى أو القديمة منهما من المرجح أنها كانت في السنوات الأخيرة من حكم أمنحوتب الثالث، حوالي عام 1355 ق.م، حيث أنتج الفنان وجهًا واقعيًا يجسد شخصية الملكة تي (تاي- تيي): الذكية الحازمة الجادة، وجميع الصفات التي تتجلى أيضًا من خلال المصادر التاريخية والأدبية والنسخة المعدَّلة الأحدث أو الأخيرة التي تبدو عليها الآن.

 وكان غطاء الرأس الأصلي مصنوعاً من صحائف من الفضة مع الصل (ثعبان الكوبرا) الملكي الذهبي.. وتمَّ إعادة صياغة الرأس، بعد وفاة أمنحوتب الثالث في حياة "تي"، حيث تمت إضافة تاج حتحور-إيزيس ذي الريش المزدوج بشكل منفصل في فترة لاحقة من حياة ابنها الملك أمنحوتب الرابع (اخناتون).. وبإضافة هذا التاج إلى التمثال، رفع أخناتون والدته، في حياتها، إلى عالم الإلهة، فعادة ما يتم ارتداء هذا النوع من التاج من قبل الآلهة أو الملكات المؤلَّهات.

يصور الرأس، التي نحتت من خشب داكن، ربما لتتناسب مع لون بشرة الملكة، صورة شخصية لامرأة ملكية ناضجة مسنَّة، تتسرب التجاعيد إلى وجهها، ذي الملامح الدقيقة المنمَّقة. فالأنف دقيق، والذقن أنيق، والعينان متيقظتان تظلهما حواجب محددة مقوسة، والوجنتان ناعمتان منزلقتان، والشفتان رقيقتان مكتنزتان، وان افتقرتا إلى ابتسامة تبعث الوهج فيهما، جميعها ملامح تعطي انطباعاً عن شخصية جادة متيقظة.

 ولعل هذه الجدية، أو الصرامة البادية في ملامحها، التي نقلها لنا الفنان بمهارة كبيرة، ربما كان مبعثها الانشغال بالحفاظ على ملك عريق موروث، ومملكة مترامية الأطراف، ومتاعب داخلية وخارجية لا تكف عن الضجيج.. تبدو الملكة في هيئة صارمة ذات هيبة ووقار، كإلهة ترتدي غطاء رأس من الخرز الأزرق يمثل السماء (تبدو بعض الخرزات الزرقاء أسفل الغطاء البني في خلفية الرأس)، وقرون بقرة تمثِّل المعبودة حتحور أم الملوك المصريين، والقرص الشمسي الذي يمثِّل ولادة الشمس عند شروق الشمس وريشتين رمزا للحياة الأبدية، وهي الهيئة التي من المرجح أن الملكة كانت تحافظ عليها خلال اللقاءات الرسمية، والاجتماعات المهمة، والمناسبات الدينية الخاصة وفي الاحتفالات العامة.

من المرجح أن الرأس كانت في يوم من الأيام جزءًا من تمثال صغير يتكون من الخشب، وما نراه اليوم هو تطور عن الرأس القديمة، التي صنعت في عهد أمنحوتب الثالث، بعد أن خضعت لتغيير واسع النطاق لاحقاً في عهد ابنه اخناتون.

ويبدو أن الوجه والرقبة فقط كانا يحتفظان بحالتهما السليمة التي كانا عليها من النسخة القديمة ولم يتعرضا لتغيير، وقد كشف الفحص الميكروسكوبي للرأس أن العنق والوجه منحوتان من قطعة واحدة من الخشب، ينتهي الجزء العلوي منها بلسان مقبب غير مرئي واصل بينها وبين الجزء العلوي من الرأس والمصنوع من خشب السنط المصري.. وأن خشب السنط تم تغطيته بصحائف من الفضة المطروقة؛ وتم تثبيت صحائف الفضة عليه بمسامير ذهبية. وكان غطاء الفضة هذا يغطي الشعر بالكامل ويتساقط من الجانبين خلف الأذنين؛ حيث جمع طرفه الخلفي وربط خلف الرأس بشكل غير محكم بين لوحي الكتف. هذا الغطاء الفضي، الذي من المرجح أنه يمثل غطاء الرأس المسمى "الخات"، لا يزال معظمه محفوظًا تحت الغطاء الكتاني البني الذي يغطيه الآن، وهو ما كشف عنه الفحص العلمي الدقيق للرأس، وهناك آثار صغيرة من الفضة يمكن تمييزها في أعلى الرأس.. كما تظهر حافة غطاء الرأس الفضي فوق الجبهة بلون أسود نتيجة تعرض الفضة للتآكل، وتحولها في الغالب إلى مركب كبريتيد الفضة الأسود، ذي اللون الرمادي أو الأسود؛ بسبب تلف الغطاء الكتاني البني، وتأثير ما كان فيه من مواد عضوية كالشموع والغراء على الفضة.. وقد كسر الطرف المجمع لغطاء الرأس في الخلف عندما تم إزالة الرأس من الجسد ولم يعثر عليه.

وقد تم تزيين غطاء رأس الملكة المصنوع من الفضة الثمينة بشريط ذهبي عريض على طول الجبهة، بقيت قطع منه على كلا الجانبين كانت مطوية جزئياً تحت الفضة، وطبقة من المادة اللاصقة الصفراء المستخدمة لتثبيت الشريط فوق الجبهة.

ولا تزال أجزاء من جسدي اثنتين من الكوبرا المذهبة تبرز من الغطاء البني أعلى وسط الجبهة، ويتسبب ذيلهما في انبعاج الغطاء على طول الجزء العلوي من الرأس، ربما كانت الأجزاء الأمامية من أجسام ورؤوس هذه الكوبرا مطعمة بالزجاج أو الأحجار الكريمة، قد تمَّ ربطها مرة واحدة عن طريق الفتحتين في الغطاء الفضي. وهناك فتحة مركزية أعلى الجبهة تم إغلاقها وظيفتها غير معروفة.

كما كان يزين الرأس حلي للأذن (حلق) من الذهب واللازورد أضافت إلى رأس الملكة مزيداً من الزينة والثراء. ويتكون الحلق من حلقات ذهبية مسننة تحيط بأطواق عريضة من الذهب واللازورد، مزودة بشكلين صغيرين للكوبرا من الذهب أيضاً.

يبرز الوجه تحت هذه المجموعة الغنية من الذهب والفضة، وقد تم تحديد الحواجب، والعينين، والفم، بلون بني داكن، وربما تكون قرنية العين من المرمر الأبيض، بينما البؤبؤ من حجر الأوبسيديان الأسود أو الزجاج الصخري الأسود، والشفاه مطلية باللون الأحمر الخافت.. وفي الجزء السفلي من العنق توجد بقايا لسان آخر كان يستخدم لتثبيت الرأس في الجسد. لا يزال حدود العنق تظهر أن الملكة من المرجح كانت ترتدي طوقاً عريضاً لا شك سيكون مطعماً بثراء.

كان الشكل الأصلي لغطاء الرأس الفضي مع الزخارف الذهبية والمرصعة شيئاً مدهشًا بلا شك، قبل إضافة الغطاء البني الخارجي من الكتان والشمع والغراء، الذي أخفى غطاء الرأس الفضي، وزخارفه، وأجساد الكوبرا، وربما أخفي حلية الأذن اليمنى أسفله أيضاً. ولعله وضِع لتثبيت الخرز الأزرق فوقه كغطاء جديد في التعديل الجديد الذي طرأ عليه في عهد إخناتون هذا الخرز الذي تبدو بقايا منه في جزء أعلى الرأس من الخلف. فقد مرَّت الرأس بمرحلة جديدة، في عهد إخناتون، تمثَّلت في تغطية بقية الغطاء بطبقة من الخرز الزجاجي الأزرق الصغير، والتي تم تثبيتها بالغراء الرطب، وبدلاً من اللمعان الفضي والذهبي، غطى الرأس غطاء من الكتان المشبع بالغراء والشمع، وتم تثبيت خرز أزرق فيه لتبدو الرأس كتلة زرقاء برَّاقة؛ وتم تغيير التوازن النسبي أيضًا من خلال الريش العالي للتاج المصنوع من الخشب المغطى بطبقة رقيقة من الجص المطلي بالذهب، الذي زين به الجزء العلوي من الرأس؛ مما جعل الرأس نفسها تبدو أصغر، ولكنه أكسبها هيبة ووقاراً

وهذا الجزء الأخير المتمثل في التاج العلوي، الذي يتكون من قرون البقر، وقرص الشمس، والريش، كان قد وجد ضمن مجموعة الأشياء التي عثر عليها مقترنة بالرأس، وقام متحف برلين بوضعها فوقها، بعد أن ثبت ارتباطها به، فبدت في صورتها الكاملة كما هي معروضة الآن في المتحف، وتهفو إليها أنظار آلاف الزائرين.

يظل هذا الرأس شاهداً على عصر من الفن، والحكم والسياسة، والاجتماع، والشخصية الفريدة لصاحبته. ويظل أحد أهم الأعمال الفنية المصرية القديمة من عصر الدولة الحديثة، والأسرة الثامنة عشر، وأحد أهم المقتنيات المصرية الأثرية في متحف برلين، ولا ينافسه فيه إلَّا التمثال النصفي للملكة نفرتيتي.