رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حماس لا تكذب لكنها لا تتجمل

10-5-2017 | 12:45


بقلم –  سفير د. رضا شحاتة

لا شئ يحدث فى السياسة أو فى الخيارات الاستراتيجية فجأة وبلا مقدمات إذا كان الأمر يتصل بأقدار الشعوب ولعل الأخطر فى الخيار أن يكون القرار إما الحرب وإما السلام أو أن يكون البديل هو النصر أو النكسة وهكذا واجهت مصر وقيادتها مثل هذه الخيارات المفصلية فى تاريخها، فى حرب الخامس من يونيه ١٩٦٧ وكانت الحسابات قبلها وأثناءها ثم فى أعقابها هى خيارات القيادة التاريخية للزعيم عبد الناصر التى تحمل مسئوليتها كاملة فى خطابه التاريخى فى التاسع من يونيه، وهكذا كانت حسابات الزعيم السادات قبل وأثناء وفى أعقاب حرب ١٩٧٣ للإعداد للحرب والتوثيق التاريخى لقرار المعركة يوم السادس من أكتوبر.

 

ثم قراره المرحلى بعد عامين باعادة فتح قناة السويس عام ١٩٧٥، ثم قرار الدخول فى حرب دبلوماسية متواصلة المراحل حتى مبادرة السلام ١٩٧٧، بعد التمهيد لها باتفاقيتى فض الاشتباك عام ١٩٧٤، ١٩٧٥ فى خطوات محسوبة ومتدرجة حتى وصل إلى رفع الستار كاملاً عن استراتيجية جديدة للسلام بمبادرة زيارة القدس، والانتقال بمصر من استراتيجية الحرب والمواجهة العسكرية لاستراتيجية السلام والحوار واستعادة الروح القومية والنهضة الوطنية لمصر فى كل الاتجاهات هكذا كانت القرارات والخيارات التاريخية لا تحدد مصائر الزعماء ومكانتهم الريادية فحسب بل تحدد وإلى عقود تالية أقدار الشعوب صعوداً أو هبوطاً.

ـ قرار الأول من مايو منذ أيام قليلة من منظمة حماس ومن قائدها خالد مشعل من العاصمة القطرية الدوحة وتحت رعايتها، بتعديل ميثاق المنظمة الذى وضع منذ حوالى ثلاثة عقود (١٩٨٨) ، هل هو حقاً يمثل خطاباً سياسياً أو منظوراً استراتيجياً جديداً لإدارة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، أم هو طرح مختلف وبشكل جذرى للحل أو للتسوية السياسية السلمية بين إسرائيل والفلسطينيين ـ ثم ما هى الدوافع وما هى المحركات والمتغيرات البطيئة المتراكمة عاماً بعد عام وأزمة بعد أزمة، ومواجهة إثر مواجهة تمخضت فى نهاية المطاف عن هذا (التحول) وهل هو تحول أم مجرد حركة (دوران) حول نفس (المحور) أو المرتكزات الأساسية لايديولوجية الحركة؟ وماذا تعنى مراجعة (الميثاق) وهى مجرد تغيير مطالب الحد الأقصى (إزالة اسرائيل) والاكتفاء بمطالب (الحد الأدنى) (حدود ١٩٦٧) والاعتراف ضمنا(ودون التصريح مباشرة بدولة اسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية فى قطاع غزة والضفة الغربية، وعاصمتها القدس)، مع الإبقاء على هدف التحرير الاستراتيجى (التحرير من النهر إلى البحر).

ـ العودة قليلاً إلى السياق التاريخى لظهور تلك الحركة الإسلامية (التابعة فكرياً وتنظيمياً) للتنظيم الأم ـ (تنظيم حركة الإخوان المسلمين فى مصر) فى منتصف الثمانينيات تكشف عن كثير، هذا الظهور استهدف فى الاستراتيجية الإسرائيلية العلياـ إزاحة القوى الفلسطينية الوطنية التاريخية، فتح، ومنظمة التحرير الفلسطينية التى تمثل القاعدة الأشمل لكافة الفصائل بزعامة مفجر هذه حركة التحرير الفلسطينية منذ نكسة (١٩٦٧) الزعيم الراحل ياسر عرفات، بالتخطيط لإزاحة المنظمة وتفتيت قواعدها وتبديد انتماءاتها بين انتماءات إسلامية عبر وطنية وانتماءات قومية فى صراع متعسف وغير مبرر بين تيارين (حتى وان كان هدفها الظاهرى متفقا عليه أى مقاومة الاحتلال الاسرائيلى، فيما بين التيار الإسلامى بايديولوجية عبر وطنية ـ وإيديولوجية قومية تنطلق من الهوية الوطنية الفلسطينية وتستنصر بالشرعية الدولية والدعم العربى خاصة بعد أن خرجت منظمة التحرير من القيود المشددة (الميثاق الوطنى المكتوب عام ١٩٦٤) بقرار تعديل الميثاق الوطنى ١٩٨٨،) وخطت أولى خطوات كسر الحصار الإسرائيلى (خاصة بعد الانتفاضتين ١٩٨٧ و ٢٠٠٠ ، وهيأت لها المتغيرات الإقليمية العربية (حرب تحرير الكويت ١٩٩٠) ثم المتغيرات الدولية (مؤتمر مدريد ١٩٩١ والقبول بقرار مجلس الأمن ٢٤٢ ) ، حيث تحولت الاستراتيجية الفلسطينية إلى الخيار السياسى العربى بعد تعديلات أعمق ١٩٩٦ بعد مدريد وأسلو) وصولاً إلى (مبادرة السلام العربية ٢٠٠٢ والخيار الدولى (حل الدولتين).

ـ العودة قليلاً إلى الوراء تدفعنا لنستذكر وقائع ذات دلالات كبرى منذ حوالى عشر سنوات حين صرح الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر فى أبريل ٢٠٠٨ أن حماس على استعداد والقبول بحق إسرائيل فى العيش كإحدى (الدول) المجاورة، وكان كارتر قد أفصح عن ذلك فى القدس بعد أن كان قد التقى مع قادة حماس فى دمشق عام ٢٠٠٨ وأعقاب زيارته لمنظمة الشرق الأوسط، وإن كانت إسرائيل قد وصفت تصريحات كارتر بأنها تشجع المتطرفين الفلسطينيين.

ـ بل إن أوراق التاريخ الأقدم قليلاً (فبراير٢٠٠٦) تروى لنا أن إسرائيل قد رحبت بما كان قد صرح به عندئذ رئيس الوزراء (المرشح) بعد النجاح الساحق فى الانتخابات فى غزة فى ٢٥ يناير ٢٠٠٦) إسماعيل هنية للاعتراف بإسرائيل إذا ما قبلت إسرائيل بكامل الحقوق الفلسطينية وبدولة فلسطينية فى الأراضى المحتلة (ورد تصريح إسماعيل هنية فى صحيفة الواشنطن بوست) قد أكد استعداد حماس للدخول فى مباحثات مع إسرائيل إذا انسحبت إسرائيل من الضفة الغربية والقدس الشرقية واعترافاً بعد العودة للاجئين الفلسطينيين حتى أن الوزير الإسرائيلى (مائير شتريت) قال فى حديث لراديو إسرائيل أتمنى أن تغير (حماس) مواقفها ، ويبدو أنها (حماس) قد بدأت تتحدث، ويقول الوزير الإسرائيلى (عام ٢٠٠٦) «لو أن حماس قبلت بشروط إسرائيل واعترفت بها وتخلت عن العنف، فلن تكون هنالك أى مشكلة فى الحديث مع حماس والتوصل إلى تسوية»( أعقب ذلك حرب إسرائيل ضد حماس فى غزة سميت بسحب الخريف).

ـ تصريحات (هنية) منذ عشر سنوات قالت وبالحرف إذا انسحبت إسرائيل إلى حدود (١٩٦٧) ـ نفس لغة وعبارات (الميثاق المعدل) أى القبول بحدود ١٩٦٧ فسوف نتوصل إلى السلام تدريجيا أو على مراحل وأن حماس سوف تحترم الاتفاقيات التى تضمن إنشاء دولة فلسطينية عاصمتها القدس بحدود ١٩٦٧ وأضاف نحن لا نكن شعوراً عدائياً ضد اليهود، ولا نسعى لإلقائهم فى البحر ( ثم تكرر الصدام بين إسرائيل وحماس بعد عامين «الشتاء الساخن عام ٢٠٠٨ حتى حرب الرصاص المسكوب ٢٠٠٩».

ـ وإذا عدنا لأوراق تاريخية أحدث قليلاً لقرأنا نفس المفردات ونفس لغة الخطاب السياسى المتغير فى الألفاظ، لا فى المضمون فى يناير ٢٠١٠ حيث بدأ المسئولون فى حماس يرددون علناً أنهم يسعون لان يكونوا جزءا من الحل للصراع الفلسطينى الإسرائيلى لا جزءا من المشكلة، وبدأ هذا الخطاب الجديد ينعكس فى خطابهم الدينى فى المساجد بالمقارنة بين تجربة القائد العربى المسلم صلاح الدين الأيوبى بعد استعادته مدينة (القدس) من الصليبيين ثم بقوله التعايش مع غير المسلمين «اليهود» فى رقعة صغيرة من الأرض والشريط الساحلى لفلسطين) وأصبح قادة (حماس) يسقطون هذا المضمون فى خطابهم السياسى والدينى على إمكانيات التعايش (مع الدولة اليهودية) وسط الفلسطينيين إلى جوارهم بهدف إضفاء الشرعية الدينية على خياراتهم السياسية.

ـ يحاول الخطاب السياسى الدينى لحماس عندئذٍ «٢٠١٠» ـ ربما كان يحاول٢٠١٧ استعادة أحداث تاريخية وإسقاطها على الحاضر، ولعل حماس قبل الربيع العربى بعام واحد وفشل أنظمة عربية داعمة (سوريا وحربها الأهلية) كانت تهيئ الأرضية السياسية الداخلية والإقليمية للانتقال فى لحظة مواتية لها لتلبية «متطلبات» لا يقال صراحة أنها شروط اسرائيلية بالاعتراف بالدولة اليهودية مقابل القبول بالاستمرارية (فى حكم غزة) وفى أن يكون لها مكان فى التسويات المحتملة بين الإرادات الدولية والإقليمية.

ـ لكن التحول باتجاه عملية السلام بعد رفض (أوسلو) ـ ومن قبل إدانة كامب ديفيد ـ كان بطيئاً ومتدرجاً مشروطاً متمثلاً فى القبول بحل الدولتين ـ الذى يكاد يتحول إلى سراب مراوغ ، رغم ان «خالد مشعل» زعيمها قد اعترف مراراً بأنهم «واقعيون» وأن حماس قد تغيرت وتحولت فعلاً بعد أن وافقت على المواثيق الوطنية باقامة دولة فلسطينية فى حدود ٦٧ ثم المشاركة فى انتخابات ٢٠٠٦ (القائمة على أساس اتفاقيات «اوسلو») ـ التى سبق أن رفضتها وشجبتها حماس.

ـ واذا ابتعدنا قليلاًعن شهادات التاريخ القريب والأبعد قليلاً عن مضمون الخطاب السياسى لحماس بدلالاته لرأينا أن حماس فى خطابها فى ظل ظروف الحرب الساخنة (٢٠٠٨) (٢٠٠٩) وفى ظل حصار القطاع المدمر لسكانها واقتصادها وبنياتها الأساسية، وفى ظل العقوبات الأوربية والأمريكية وفى ظل توصيفها بالتنظيم الارهابى وفى ظل انتمائها التنظيمى والأيديولوجى لتنظيم الإخوان المسلمين فى مصر، لرأينا أيضاً أنه اذا كان هذا الخطاب السياسى اليوم قد ظهر منه ما كان مستتراً ولو قليلاً فان قراءة الوثيقة الجديدة والميثاق القديم تكشف عن خطوط متوازية ومتداخلة ومتقاطعة (فما سميت بوثيقة المبادئ والسياسات العامة التى أعلنت فى مؤتمر الدوحة، أوعند المقارنة بين نصوص ومواد ميثاق الثمانينات لرأينا مدى الاتساق والتوافق فى المضمون والمحتوى وإن تغيرت الألفاظ وان حذفت بعض الإشارات والإيحاءات بقوة المتغيرات المحلية التى فرضتها طبيعة العلاقة المتغيرة مع موازين القوى فى مصر وقيادتها بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين فى ثورة ٣٠يوليو ٢٠١٣ .

ـ ربما كان هذا هو المتغير الأول المباشر وراء تحفيز حركة المراجعة أو حركة التصحيح وان كان التعبير الدقيق هو الاطاحة بمؤامرة اختطاف الثورة المصرية فى ٢٥ يناير ٢٠١١ على يد جماعة الإخوان المسلمين، بفضل وعى وإرادة شعبية جامعة مانعة فى الثلاثين من يونيه ٢٠١٣، ربما كان هذا هو المتغير المباشر الأول وراء تحرك قيادة حماس رغم عمق ارتباطاتها التاريخية والأيديولوجية التنظيمية بالجماعة وحتى الآن، لمحاولة تفكيك بعض ارتباطها بهذا التنظيم العالمى للحركة أو على المستوى القطرى فى مصر على الأقل.

ـ ربما كان هذا هو أول الدوافع وأكثرها قوة بحكم التأثير الحاسم لمصر ولجيشها وقواها البشرية والجيوستراتيجية فى العلاقات مع الفلسطينيين بشكل عام وبقطاع غزة بشكل خاص فى ظل الحصار الخانق اقتصادياً وانسانياً وسياسياً، (والذى لم تسع قيادة حماس إلى قطع شعرة معاوية مع قيادة مصر الجديدة بعد ٣٠ يونيه رغم التورط فى كثير من التطورات على صعيد سيناء (بما يسمى بولاية سيناء أو خلافة سيناء أو تنظيم جند الله أو غيرها) أو رغم تورطات لم يزل القضاء المصرى ينظر فيها فى أحداث ارهاب كبرى داخل مصر.

ـ برغم ذلك لم تسع حماس إلى قطع شعرة معاوية (ولا سعت مصر الى ذلك أيضاً) ادراكاً منها أن علاقاتها الاستراتيجية بفلسطين وبشعبها ومستقبلها أكبر بكثير من علاقاتها ـ حتى لو توترت بإحدى الفصائل الفلسطينية.

ـ أما المتغير الاقليمى وكما سبقت الإشارة فهى تطورات وعواقب ما سمى (بالربيع العربى) وما آلت إليه مصائر دول عربية فاشلة أو دول لم تزل فى طريقها الى الفشل التام بانهيار جيوشها وتفكك نسيجها الوطنى واستنزاف قدراتها البشرية والمادية (ليبيا ـ سوريا ـ اليمن ـ العراق ) التى لم تزل تقاتل صفوف الارهاب داخل أهم بقاع أراضيها فيما أدى إلى حرمان حماس دون شك من بيئة جيوسياسية لها خاصة فى إطار التحرك الإقليمى، هذا بالإضافة إلى واحد من أحدث المتغيرات الاقليمية وأبعدها أثراً فى موازين القوى الإقليمية ذلك هو الاتفاق النووى الإيرانى الأمريكى فى يوليو ٢٠١٥ وبلورة ملامح مختلفة فى السياسة الإقليمية لإيران انعكست فى تقديرات وتوجهات مغايرة فى سلوكها وتحالفاتها الإقليمية بشكل عام.

ـ وبرغم ذلك يظل المتغير الدولى هو العامل الذى حسم ولوقت سوف يطول نسبياً ـ خيارات حماس وتحولاتها ما بين رؤية الخيار العسكرى والمقاومة والتحرير من البحر إلى النهر خيار الثمانينات إلى خياراتها المتحولة فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، بعد سقوط الرهان على (أوسلو ومن قبل سقوط الرهان على مدريد، وسقوط خيارات (اللجنة الرباعية) الأمم المتحدة ـ الاتحاد الأوربى ـ (بريطانيا ، فرنسا ـ الولايات المتحدة، روسيا ) وتآكل الأرض الفلسطينية أمام انتشار المستوطنات داخل الضفة الغربية وتحول خيار حل الدولتين إلى ما يشبه الوهم أو المستحيل لعدم قابليته للتطبيق وطرح خيارات الدولة الواحدة ذات القوميتين ثم طرح بدائل لحل إشكاليات حقوق الإنسان والمواطنة والحقوق المدنية فى تلك الدولة الواحدة (إسرائيل)ثم الطرح وبقوة لخيار (الدولة اليهودية) الذى لابد من قبوله والاعتراف به كشرط مسبق حتى قبل بدء التفاوض، لا بل حتى وقبل القبول بوقف المستوطنات، حتى تحولت خيارات السلام إلى «اللاخيارات» أمام صانع القرار الفلسطينى سواء كان (أبومازن) رئيس السلطة الفلسطينية رغم لقائه الهام بالرئيس الأمريكي ترامب فى البيت الأبيض منذ أيام، حتى إعلان خالد مشعل فى الدوحة فى الأول من مايو، الذى ما كان ينبغى أبداً أن يفاجئ الجميع إذ سبقته نذر وبوادر ومقدمات قبل ذلك بسنوات ترفع الستار عنه درجة بعد درجة حتى إنه لم يجد ثمة مجالا للانتظار بعد أن تبددت كل الخيارات حتى خيار الاعتراف ذاته) فالاعتراف بإسرائيل فقط حتى لو طرحته حماس على إسرائيل لم يعد كافياً، بل الاعتراف بالدولة اليهودية وطناً للشعب اليهودى ـ وهذا يعنى نسيان (حق العودة) لأرض (فلسطين التاريخية)، وقد يكون فى ذلك شبه انتحار سياسى للحركة.

ـ ربما كان سجل حماس ونشاطات (الجناح العسكرى) لكتائب عز الدين القسام وعملياتها، وما نفذته فى السنوات السابقة وربما ما أنجزته من عمليات عسكرية أثناء الحروب وما أطلقته من صواريخ على المستوطنات، وربما ما كانت تمثله من قدرات خاصة فى المقاومة غير المتكافئة خلال عملية (الرصاص المسكوب)عام ٢٠٠٩ ما يؤكد إرادة الصمود أمام شراسة القوة العسكرية ولا إنسانية الاحتلال الإسرائيلى، ربما كان ذلك كله صحيحاً، لكنه فى النهاية كان دليلاً على محدودية خيار القوة سواء فى الفعل أو رد الفعل، فاستعدادات الحرب من جانب حماس حتى وإن كانت قد استمرت فى شكل تهريب السلاح، حفر الأنفاق والامتداد حتى إلى الضفة الغربية وعمليات التفجير والقنص وتصنيع الذخائر، لم تغن مطلقاً عن طرح خيار (الحوار) والتفاوض من خلال تدشين حركة المراجعة والتصحيح ـ على غرار ما فعلته وتفعله (حركات ثورية مسلحة) الكبرى مثلما راجع قادة الصهيونية ومؤسسو إسرائيل استراتيجيتهم ـ بعد تأسيس إسرائيل فيما سمى بحركة التصحيح أو المراجعة للتاريخ الصهيونى (حركة المراجعين الجدد أو المؤرخين الجدد) أو حتى مع الفارق بعد مراجعة مفكرى الاشتراكية بعد سقوط الماركسية اللينينية، أو حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتى ١٩٩١ واعادة النظر تاريخياً فى الفلسفة الماركسية (والمادية الجدلية)

كل الحركات الثورية تراجع الاستراتيجيات وكل العقائد والايديولوجيات السياسية تراجع نفسها وتصحح سياساتها، حين تفرض عليها المتغيرات (المستقلة وغير المستقلة) داخلياً واقليمياً ودولياً ـ بعد ما تفرض عليها أن تقدم على مثل هذه الخطوة التى لا يمكن أن تأتى مفاجاة بل تأتى نتيجة التراكم الكمى والكيفى تماماً كما حدث لحماس ولقيادتها.

ـ وعلى الجانب الآخر وحتى نكثف حديثنا عن حماس ـ محلياً فلنلق نظرة خاطفة على المتغير المصرى الذى دفع بحماس لأن تقدم اليوم على الإعلان عن هذا التحول فرغم لغة الحوار (البرجماتية) التى اتبعتها قيادة حماس فى القطاع وخارجه مع مصر بعد ثورة ٣٠ من يونيه مع «حتمية» العلاقات بين القطاع ومصر أمنياً وإنسانياً وسياسياً مهما كانت الظروف، فإن حماس ظلت وثيقة الصلة واقعياً مع القوى الإسلامية (كتنظيم سياسى إسلامى كجناح لتنظيم الإخوان المسلمين فى غزة ) وكذلك مع العناصر المنتمية للتنظيمات الإسلامية ثم خلاياها الإرهابية فى سيناء، وكثيراً ما كانت قنوات التهريب، للمال والسلاح والذخائر والبشر من خارج القطاع وإليه عبر (مسارات حماسية) وكثيراً ما كانت العوائد (المالية) تجد طريقها إلى عناصر حماسية لعلاقاتها بتنظيم الدولة الإسلامية (تهريب السلاح خاصة) وفرض الضرائب، بل والسماح لتلك الخلايا بالبث التليفزيونى من قنوات تطلق من قطاع غزة حيث تعلن خلايا تسمى نفسها (بالجهادية) عن أعمالها الإرهابية ومسئوليتها عنها، بل كثيراً ما استقبلت مستشفيات حماس فى غزة جرحى ومصابى الإرهابيين الفارين من سيناء.

ـ هذه العلاقة التنظيمية والعملياتية بين حماس (فى غزة) وامتدادها من خلايا (إرهابية فى سيناء) حقائق موثقة لا يقدم فيها ولا يؤخر توافق أو تناقض بين (وثيقة حماس) فى الثمانينات، ووثيقة معدلة ومصححة لحماس فى ٢٠١٧، وثيقة كانت تتحدث لغة القوة الصلبة كما يقال (الجهاد والمقاومة وحرب التحرير) ضد العدو الصهيونى، ولغة (القوة الناعمة) التى تدرك أن العلاقة مع الإخوان المسلمين هى علامة موصومة بالاتهام بالإرهاب من دول رائدة لها صوتها وقوة تأثيرها ودورها الفاعل فى الحديث عن أى تسوية، سياسية محتملة على المستوى الدولى مع القوى الكبرى أو على المستوى الإقليمى مع إسرائيل، هذه القوى الرائدة الفاعلة هى مصر والسعودية والإمارات التى أدانت حركة الإخوان المسلمين (الإرهابية) ووصفتها بنفس الوصف وجرمت تنظيمها لتعاونها مع الهجمات الإرهابية على أراضيها.

ـ ولعل ما جاء فى الوثيقة التصحيحية الجديدة من قول من أن حماس تؤمن بقيم التعاون وترحب بمواقف الدول والمنظمات والمؤسسات التى تدعم حقوق الشعب الفلسطينى (اشارة مستترة وعلى استحياء إلى أنها لم تسقط تماماً تعاونها مع (جماعة الإخوان) المسلمين وإن لم تذكرها بالاسم ـ حرصاً على علاقاتها بالدول العربية الثلاث) لكنها فى الحقيقة تسعى اليوم لاستعادة قدر لم يزل مفقوداً فى (شرعيتها الدولية) بعد ما قوبلت بإدانة قاطعة من دول أوربية ومن الولايات المتحدة (لعدائها لإسرائيل وللصهيونية العالمية).

وثيقة حماس المعدلة محاولة ـ لم تزل مجهولة النتائج لطرح صورة معتدلة لجماعة اعتنقت إيديولوجية دينية رفضت خيار السلام عقوداً طويلة وإن مارست (خيار الحوار) كمسار بديل فى بعض الأوقات، ثم تعود اليوم إليه بحكم المتغيرات الإقليمية والدولية لإفساح مكان لها فى تسويات ربما تبدو اليوم غير مستبعدة وإن كان ذلك فى ظل مناخ تسوده محاولات استعادة الوحدة الفلسطينية رغم الانقسام وصراعات القوى الداخلية (جناحا دحلان وأبو مازن) ثم تولى زعيم الجناح العسكرى لكتائب عز الدين القسام مكان القيادة بديلاً عن إسماعيل هنية.

ـ برغم هذا الطرح التصحيحى الأقرب إلى البراجماتية الشكلية تجاه إسرائيل والدول العربية وتجاه المجتمع الدولى، فلم يزل الموقف الجوهرى المبدئى لحماس تجاه إسرائيل سواء كان (الدولة اليهودية) أو (الدولة المحتلة) وسواء كان إزاء خريطة الدولة الفلسطينية فى حدود ١٩٦٧ أو فى حدود فلسطين التاريخية من (النهر إلى البحر) وسواء كان فى إطار (حل الدولتين) أو فى إطار الدولة الواحدة (ذات القوميتين) فإن موقف حماس سوف يظل فى تقديرى يجمع بين خطين متوازيين فى المسار يتقدمان معاً وقد لا يلتقيان، الخيار العسكرى، خيار القوة الصلبة (القوة العسكرية) والخيار السياسى (القوة الناعمة) تبعاً للمتغيرات والتطورات سلباً وإيجاباً وحقيقة الأمر فى النهاية أن تنظيم حماس فى تحولها الأخير، لا تكذب ولكنها أيضا لا تتجمل .