كانت زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان لمصر زيارة تاريخية بحق، حيث كانت تهدف إلى تحقيق غايات ونتائج هامة ومهمة على المستوى السياسى الذى تمثل فى لقاء البابا والرئيس السيسى، حيث تم التوافق على القضايا التى تموج بها المنطقة والعالم كله، خاصة قضية الإرهاب الذى قد أصبح خطراً يهدد الجميع بلا استثناء. وعلى المستوى الحوارى الذى كان يتم بين الأزهر والفاتيكان وقد توقف نظراً لبعض مقولات وتصريحات البابا بندكتوس السادس عشر ضد الإسلام والمسلمين، خاصة محاولة تدخله فى الشأن المصرى بعد حدوث حادثة كنسية القديسين فى ديسمبر ٢٠١٠ حيث عاد الحوار مرة أخرى فى ظل ظروف ومتغيرات كثيرة منها مجىء البابا فرنسيس وما يحمله من شخصية محبة ومتواضعة ويحترم الآخر مهما كان هناك خلاف واختلاف.
كما أنه قد أعلن مراراً وتكرارا ضرورة عدم ربط الإرهاب بالإسلام، حيث إن الأديان جميعها تدعو فى قيمها ومقاصدها العليا إلى المحبة والسلام. ولذا كان لقاء البابا وشيخ الأزهر فى مؤتمر الأزهر العالمى للسلام والذى حضره ممثلون لكل الأديان السماوية والوضعية وكانت كلماتهم الهامة تأكيداً لسلامية الأديان وبنية أساسية يجب البناء عليها لاستكمال الحوار الهادف والداعى لقبول الآخر. أما على مستوى الحوار بين الكنائس أن الحوار المسيحى - المسيحى فقد كان يجب ألا يكون نقلة نوعية وبداية صحيحة وموفقة لحصار المختلف عليه وتدعيم وتوسعة المتفق فيه. ونحن هنا وفى هذا المقال سنركز على ذلك الحوار بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية والذى قد وضعت وكانت بداياته تلك الزيارة التى قام بها البابا شنودة الثالث للفاتيكان مع البابا يوحنا السادس عام ١٩٧٣ ذلك الحوار الذى تواصل وكانت إحدى نتائجه تلك الوثيقة التى وقعت من البابا تواضروس والبابا فرنسيس حول ما يسمى توحيد المعمودية. وهنا نريد بهذا المقال أن تكون هناك ثقافة متبادلة بين أبناء الوطن من المسلمين والمسيحيين. فلا شك فالثقافة الإسلامية تمثل نسبة لا يستهان بها لدى المصريين المسيحيين، وأنا أعتز بثقافتى الإسلامية، حيث إن معرفة الآخر الدينى وغير الدينى وفى إطار المعلومات الصحيحة غير المزورة وغير المنحازة هى طريق ووسيلة لأرضية تخلق التوحد وقبول الآخر. ولذا وجدنا أن مناقشة هذه القضية، خاصة أنها طرحت إعلامياً أثناء زيارة بابا الفاتيكان ولازالت، بل قد أصبحت تمثل مسار خلاف قديم البعض يحاول أن يجدده، خاصة من ناحية ما يطلق عليهم بالسلفيين الأرثوذكس وبعض المتاجرين بالعقائد الذين يخلقون ويختلقون العدو حتى ولو كان عدواً وهمياً، حتى يستفذوا الأتباع ويكونوا أكثر تبعية وأكثر تسليماً لهؤلاء المتاجرين باسم صحيح الدين وهى وجهة نظر واجتهاد أشخاص مهما كانت قيمة هؤلاء الأشخاص، حيث إن اجتهاداتهم كانت تتوافق مع زمانهم ومكانهم وطبيعة معاركهم ومعارفهم وعلومهم السياسية قبل الدينية، فهل هناك خلاف بين الكنائس؟ نعم خلاف عقائدى كبير وعميق بين الكنائس، فقد كانت الكنائس لا خلاف بينها وقد عقدت مجامع مسكونية أى عالمية تضم جميع الكنائس فى البداية منذ عام ٣٢٥ ميلادية باسم مجمع نيقية ثم عقد مجمعين آخرين لم يصل فيهما الخلاف إلى نقطة النهاية، وكان مجمع خلقيدونية عام ٤٥١م هو المجمع الذى وضع وعمق الخلاف الحاد الذى لازال والذى جعل كل كنيسة تحرم الأخرى أى تكفرها وتمنعها من دخول السماء مبررين فساد عقيدة كل منهما وكأن كل كنيسة قد امتلكت الحقيقة المطلقة، وقد أمسكت بمفاتيح السماء وتُدخل من تريد وتُحرم من تشاء. وقد كانت تلك الكنائس تتمثل فى خمس كنائس رئيسية وهى كنيسة الإسكندرية القبطية وكنيسة روما وكرسى القدس وكنيسة أنطاكية وكنيسة القسطنطينية، وبالطبع هذا الخلاف العقيدى الذى يتطرق إلى قضايا عقيدية ولاهوتية لا نريد شغل القراء بها.
يعنى فى المجمل أن أتباع كل كنيسة يتمذهبون ويتحلقون وينحازون إلى كنيستهم ضد الأخرى حتى ولو لم يكن هذا التابع والمنحاز يدرك أسباب الخلاف، ولكنه الانتماء بالوراثة والانحياز للموروث وحفاظاً على الكيان الكنسى الذى يستمدون منه مكانتهم الروحية. حيث إنه فى الحقيقة هو خلاف فى التفسير والاجتهاد البشرى الذى يخضع للصواب والخطأ والذى لا يجب أن يصب فى خانة المقدس. كما أن هذا الخلاف كان ولازال يعتمد على النظرة الذاتية والمصلحة الخاصة التى لا علاقة لها بصحيح وقيم المسيحية التى تقبل الآخر وتحب العدو كما أن النص الإنجيلى واحد ولم يكن السيد المسيح أرثوذكسياً ولا كاثوليكياً بل كان هو السيد المسيح. فما هى حكاية المعمودية؟
المعمودية هى سر من أسرار الكنيسة السبعة التى تؤمن بها الكنيستان، تلك الأسرار هى أيضاً قد وضعت باجتهادات بشرية بالمجامع، فلم تكن المسيحية فى بدايتها ولا الكنائس تمارس هذه الأسرار السبعة، بل هى جاءت وأقرت تباعاً، فمثلاً سر الزواج الذى يتم عن طريق الكنيسة لم يكن موجوداً بصورته الحالية طوال الخمسة قرون الأولى من الميلاد. والمعمودية هى تغطيس الطفل فى جرن المعمودية ثلاث مرات إعلانا بولادة الطفل كمسيحى بعد ولادته الطبيعية من أمه. وبالطبع فالطفل الذى يُعمد أرثوذكسيا يصبح مسيحياً على العقيدة الأرثوذكسية وكذلك الكاثوليكي. وللخلاف القائم لا تعترف كل كنيسة بعماد الكنيسة الأخرى، فإذا انتقل شخص من الكنيسة إلى الكنيسة الأخرى يتم إعادة عماده فى الكنيسة التى انضم إليها، ويحدث هذا عند زواج أرثوذكسى من كاثوليكية لا يتم الزواج بغير عماد الزوجة أرثوذكسية والعكس صحيح، ما يتم فى الوثيقة التى وقعت بين البابا فرنسيس وتواضروس أثناء الزيارة هى وثيقة تلغى العماد للشخص الذى ينضم إلى الكنيسة الأخرى، وهذه الوثيقة وفى هذا الإطار تعتبر خطوة مهمة فى طريق الحوار بين الكنيستين وتأكيداً لما يطلق من تصريحات نظرية حول الحوار. فالحوار لا ولن يكون كلاماً ولا تصريحات ولا شعارات إعلامية ولكن الحوار هو معرفة الرأى الآخر وبحثه ومناقشته فى ظل عدم التمسك والتصور أن كل طرف يملك الحقيقة المطلقة فى مواجهة الآخر. والأهم أن تكون هناك نية وقناعة بهذا الحوار وأن تكون هناك قناعة بأنه لا مسلمات ولا ثوابت ولا حقائق مطلقة غير الله سبحانه وتعالى، وغير ذلك نسبى يخضع للصواب وللخطأ. وبعد توقيع الوثيقة ولأن هناك فى الكنيسة الأرثوذكسية من يتمادون فى السلفية ومن يتصورون أن التمسك بالتراث والموروث بدون فحص ولا تمحيص ولا مناقشة ولا إعمال للعقل هو غاية المنى. كما أن هؤلاء ولأنهم يمارسون أدوارهم كأوصياء على البشر عن طريق هذا الموروث يتصورون ويدركون أن مناقشة الموروث ومحاولة تصحيحه لمجاراة الواقع المعيش يفقدهم تلك الوصاية، لأنهم يعلمون أتباعهم أن وجود الكنيسة ووجودهم هم مرتبط بهذا الموروث وذاك التراث والتمسك به بلا نقاش أو مناقشة أو إعمالاً للعقل.
ولذ وجدنا بعض الأساقفة فى الكنيسة المصرية مثل الأنبا أغاثون والأنبا أرميا والأنبا بيشوى والأنبا روفائيل. لا يرتاحون إلى هذه الزيارة فى الوقت الذى كانت فيه الزيارة ذات آثار إيجابية ورائعة على كل المستويات. تصدر ذلك الترحيب بالزيارة من الأزهر وشيخه وعلمائه ومن الشعب المصرى مسلميه قبل مسيحييه نرى غير ذلك من رموز الكنيسة القبطية. بل كان الأدهى وهو قد مورست ضغوط من هذا اللوبى ضد البابا تواضروس الذى يريد الانفتاح ويمارس الحوار ويعى الواقع، حتى صار بيان يقول إن هذه ليست وثيقة لتوحيد المعمودية وليست قراراً، بل سعى فقط نحو الحوار. ولا نعلم هل طلب الحوار الذى يتم منذ ١٩٧٣ وهل قضية المعمودية التى يدور حولها الحوار بين الكنيستين، حيث إن هذا السعى الذى يقولون عنه قد تم فى عهد البابا شنودة الثالث وتحديداً فى يونيو ١٩٩٠ وبقرار من المجمع وتم قبول معمودية الكنيسة الكاثوليكية والاعتراف بها شريطة رشم المنضمين للأرثوذكسية بزيت الميرون، وهو تقليد كنسى، وذلك حدث بعد حوار مسكونى استمر عامين ثم بعد ذلك يقولون إن هذا سعى وليس قراراً؟ كما أن الأمر لم يقتصر على التحفظ على الوثيقة لإجراء هذا الحوار الذى يتقولون به، بل وجدنا بيانات تتحدث عن أن المعمودية الكاثوليكية غير صحيحة وباطلة، وأن المعمودية الأرثوذكسية هى الصحيحة وغير الباطلة!! فى الوقت الذى وجدنا فيه ترحيب الكنيسة الكاثوليكية بهذه الخطوة، حيث قال الأب سمير خليل أستاذ علم الإسلاميات فى المعهد الحبرى الشرقى فى إذاعة الفاتيكان فى إشارة إلى الاتفاق الذى تم بين الكنيستين بشأن سر المعمودية إنها خطوة مهمة إلى الأمام وقال إن البابا شاء أن يحمله هذه الرسائل إلى الشعب المصرى على اختلاف تنوعه ويتعين على الشعب أن يترجم هذه الدعوة فى الحياة اليومية. فماذا يعنى هذا؟ وهل هناك لهذا علاقة بتصحيح الفكر الدينى المسيحى الذى طالما نادينا وننادى به؟ وماذا يحدث فى كواليس الكنيسة المصرية بين البابا الذى يريد الانفتاح والتصحيح وبين هؤلاء المنغلقين الذين يعيشون مع أهل الكهف وكيف يكون هناك حوار حقيقى وترجمة فعلية على أرض الواقع لحوار مسيحى إسلامى فى الوقت الذى نرى فيه هذه السلوكيات وتلك الممارسات فى إطار الحوار المسيحى المسيحي؟ وهل الكنيسة الكاثوليكية التى عقدت المجمع الفاتيكانى الثانى والذى تم فيه تصحيح كثير من الأفكار والممارسات، بل العقائد خاصة فيما يخص الآخر غير المسيحى، بل غير المتدين كانت قد خانت عقيدتها وتناقضت مع القيم العليا للمسيحية؟ أم أن هذا هو طبيعة الأشياء ومضمون التطور الذى أراده الله للإنسان، بل للكون كله. التغيير سنة الحياة والتطور طبيعة الأمور والآن غير الأمس وغير الغد. فمن له أذنان للسمع فليسمع وكفى.. ولا أزيد.