د. علي عبدالنبي ,
تأسست استراتيجية الأمن القومى الإسرائيلى على نهج دفاعى، لكنها على الطبيعة استراتيجية هجومية، طبقاً لمبدأ "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، فلن تستطيع هزيمة العدو، وأنت فى موقف دفاع.
استراتيجية الأمن القومى الإسرائيلى، هدفها ضمان وجود دولة إسرائيل، وهذا يتطلب حمايتها من التهديدات الخارجية، سواء كانت من الدول أو تحالفات من الدول المحيطة بإسرائيل، أو من إيران، أو من الكتائب والميليشيات والحركات والمنظمات الغير حكومية المعادية، وجميعهم يهدف إلى تدمير دولة إسرائيل.
إذن على أعداء إسرائيل، ألا يفكروا لحظة واحدة فى الهجوم على إسرائيل، وهذا لن يحدث إلا من خلال "الردع". و"الردع" يتطلب حشد القوة العسكرية والأمنية – والتفرد بالقوة النووية فى المنطقة – والاستعداد لمواجهة أى احتمال من العدو للهجوم على إسرائيل. ثم إن هناك ضربات استباقية عسكرية وسياسية، لشل وتدمير أى قدرات عسكرية متنامية فى المنطقة.
الضربات العسكرية الاستباقية، تحتاج لقراءة أفكار العدو مسبقاً، والحصول على معلومات مؤكدة بما يكنه فى نفسه، وكذلك معرفة كل ما يدور بخاطره، وبما يخطط له، وبقدراته العسكرية. وهنا يتضح أن التدابير الهجومية الاستباقية، تعتمد على معلومات استخباراتية عالية الدقة.
طالما "الردع" سوف يمنع العدو من مهاجمة إسرائيل، فهناك فترة سماح طويلة من الهدوء، تمكن دولة إسرائيل من تطوير القدرات العسكرية، وازدهارها فى المجالات الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، وتسمح بإعادة توجيه الموارد، نحو التعليم والعلوم والمجالات المدنية الأخرى، لتعزيز الإمكانات الشاملة للدولة.
خلال فترة الهدوء، تستطيع إسرائيل تطوير الجيش وتحديث معداته، وتطوير قوات الأمن، لتظل استراتيجية "الردع" مصدر الرعب للأعداء، وتتحطم معنوياتهم، ويسيطر عليهم اليأس، ويصبح حصول الشعب الفلسطينى على حقه عن طريق المقاومة المشروعة، شىء "لا" و"لن" يمكن تحقيقه، ويقبل شعب فلسطين أن يعيش ذليلاً، ويقبل بما تمن عليه دولة إسرائيل، من فتات ورشفات تسد حاجته لكى يعيش فقط، ولا يحلم، وتنتهى وتتحطم آماله، بل ويعيش مرتعداً.
لن نقوم بمقارنة ميزان القوى، بين كتائب المقاومة فى قطاع غزة، وفى جنوب لبنان، وبين إسرائيل، فمن المعلوم أن ميزان القوى أو بالمعنى الأصح "القوة النيرانية" الإجمالية (لجميع الأسلحة)، هى فى صالح إسرائيل بآلاف المرات.
أصبح أمامنا الآن عنصران مهمان، من العناصر التى تعتمد عليها استراتيجية الأمن القومى الإسرائيلى، وهما، "الردع" و "التفوق الاستخباراتى" الذى يمكن أن يوفر إنذاراً مبكراً لإحباط نية العدو بشكل استباقى للهجوم على إسرائيل، مما يوفر وقتاً كافياً للرد، وجمع معلومات كافية ودقيقة عن قدرات العدو العسكرية.
بجانب تعزيز وتقوية استراتيجية "الردع"، تقوم إسرائيل بتقوية معاهدات السلام مع جيرانها، حتى تضمن فترات سماح طويلة من الهدوء. لكنها فى الوقت نفسه، نجدها تستند إلى استراتيجية أمنية، تقوم على الافتراض الدائم بأن معاهدات السلام والردع للدولة، يمكن أن تنهار فى أى وقت، فهى تسير كما يقول القول المأثور "إذا كنت تريد السلام، فاستعد للحرب".
للوفاء بمسئوليتها فى الدفاع وتأمين وجودها فى المنطقة، تقوم سياسة إسرائيل على الحفاظ على نطاقات أمنية واسعة، واستعدادها المستمر لإحتمال تصاعد العمليات العسكرية فى أى وقت، وفى خلال فترة زمنية قصيرة. كما يهمها كسب جميع الحروب، فهو عامل نفسى مهم جدا ليهود إسرائيل، حتى تمنع الهجرة العكسية، من إسرائيل إلى الدول الأوروبية وأمريكا.
يقع معظم سكان إسرائيل والبنى التحتية الحيوية، داخل الشريط الضيق من السهل الساحلى. هذا، وهو الجزء الأكثر أهمية من أراضى الدولة، وإسرائيل تعلم، أن صواريخ "أرض-أرض"، تشكل تهديدا للمراكز السكانية، والمواقع الاستراتيجية فى البلاد. فهى قادرة على تعطيل قدرة إسرائيل على استدعاء قوات الجيش الاحتياطى، وتحريك القوات إلى جبهات مختلفة. وكذلك تشل القدرات الجوية الإسرائيلية، نتيجة الأضرار الجسيمة التى قد تلحق بقواعد القوات الجوية، وتدمر المنشآت الحيوية بشكل مباشر، مثل المطارات والموانئ البحرية، ومنصات الغاز الطبيعى فى البحر المتوسط، ومحطات وشبكات الكهرباء، الخ.
لذلك، فإن السعى إلى تأخير الحروب قدر الإمكان، والرغبة فى عدم القتال، هما من المبادئ الأساسية للأمن القومى الإسرائيلى، لأن إسرائيل تضع نصب أعينها، الحفاظ على شعب إسرائيل، وهو هدفها الأسمى، ثم يأتى الحفاظ على الأسلحة والحفاظ على البنية التحتية الحيوية، داخل الشريط الضيق من السهل الساحلى. لذلك تسعى أسرائيل إلى نقل المعركة إلى أراضى العدو، والتقليل من مدة القتال، أى تحقيق الأهداف القتالية فى أقصر وقت ممكن، وتسعى جاهدة إلى تحقيق النصر فى الحروب التى تخوضها.
لذلك، نجد أن الحرب الوحيدة التى خاضتها إسرائيل داخل فلسطين وعلى حدود فلسطين، هى حرب 1948. لكن باقى الحروب "حرب 56 وحرب 67 وحرب 73"، كانت خارج الأراضى الفلسطينية.
عندما تفوقت إسرائيل فى عمليات الاستخبارات، قامت بضربات استباقية فى حرب 56 وحرب 67، ونجحت فى نقل المعركة خارج أراضى فلسطين، ونفذت العمليات القتالية فى مدة قصيرة، وحققت النصر فى هذه الحروب.
وعندما فشلت إسرائيل فى عمليات الاستخبارات، وتفوقت استخبارات مصر على استخبارات إسرائيل، فى حرب 73، نفذت مصر ضربة استباقية، ونفذت العمليات القتالية "دمرت خط بارليف، والقوات المصرية عبرت القناه" فى مدة قصيرة جدا "6 ساعات"، وحققت النصر.
"الردع"، ضمن لإسرائيل فترات سماح طويلة من الهدوء، والفترات هى من 48 إلى 56، ومن 56 إلى 67، ومن 67 إلى 73. ولا ننسى أن جميع الحروب التى خاضتها إسرائيل، كانت خارج أراضى فلسطين، ولم يتضرر الشعب الإسرائيلى ولا ممتلكاته، ولا البنية التحتية لدولة إسرائيل بشئ. المرة الوحيدة التى تم فيها مهاجمة البنية التحتية لدولة إسرائيل، كانت بواسطة صواريخ "سكود" العراقية، حيث بدأ قصف الصواريخ يوم 17 يناير 1991، واستمر حتى يوم 25 فبراير 1991، حيث اطلقت العراق 43 صاروخا فى 19 هجوما، كان من نصيب "تل أبيب" 26 صاروخا، و"حيفا" 6 صواريخ، وصحراء النقب فى اتجاه "مفاعل ديمونة" 5 صواريخ، واعترضت إسرائيل باقى الصواريخ.
حينما يفشل "التفوق الاستخباراتى" الإسرائيلى، فى جمع معلومات كافية ودقيقة عن قدرات العدو، يرتعد "الردع". وهذا ما حدث، فقد فشل "التفوق الاستخباراتى" الإسرائيلى، فى جمع معلومات عن الأنفاق التى حفرتها فصائل المقاومة على عمق 20 مترا تحت أرض قطاع غزة، والتى تصل إلى "خان يونس" و "جباليا" و "مخيم الشاطئ"، فهى تتفرع إلى مئات الكيلومترات تحت قطاع غزة – 500 كيلومتر – وهناك توقعات إلى امتدادها حتى إلى داخل إسرائيل، حتى أن إسرائيل رصدت 250 مليون دولار، لحل معضلة الأنفاق، واصفة إياها بالأولوية الرئيسية فى استراتيجية "التفوق الاستخباراتى".
ارتعدت استراتيجية "الردع" الإسرائيلية، عندما فشل "التفوق الاستخباراتى" الإسرائيلى، فى جمع معلومات كافية ودقيقة عن تطور القدرات الصاروخية لفصائل المقاومة. ففى 11 مايو 2021، كان بداية أكبر عملية قصف صاروخى، تشنها فصائل المقاومة من قطاع غزة، والذى طال عمق إسرائيل. فى هذا اليوم، بدأت السماء تمطر الصواريخ على مدن إسرائيل... 130 صاروخا نحو "تل أبيب"... 137 صاروخا نحو "عسقلان وأسدود"، خلال 5 دقائق كان الرعب يدب فى كل مكان داخل إسرائيل. 11 يوما والصواريخ تنهمر من السماء، فقد طالت المطارات، وخطوط أنابيب الوقود. وكانت الصدمة عندما ظهرت الطائرات المسيرة الانتحارية، التى انقضت على منصة استخراج الغاز الطبيعى، فى عرض البحر الأبيض المتوسط. ثم تعلن الفصائل عن المفاجأة، بإطلاقها صاروخا ذا قوة تدميرة كبيرة، ومداه 250 كيلومترا، وهو صاروخ "عياش 250".
إطلاق الصواريخ استمر 11 يوما، أطلق فيها 4300 صاروخ، بينما أطلقت المقاومة من قطاع غزة، 4000 صاروخ على اسرائيل، خلال 51 يوما فى عام 2014. هذا يوضح التطور الرهيب فى قدرات المقاومة الصاروخية، والتى فشلت إسرائيل فى جمع المعلومات عنها بواسطة "التفوق الاستخباراتى".
ارتعدت استراتيجية "الردع" الإسرائيلية خلال فترة الـ 11 يوما، عندما أصيب شعب إسرائيل بالرعب، وأصبح 7 ملايين إسرائيلى، إما حبيسي الملاجئ المحصنة، أو فى الغرف المحصنة. والأدهى من ذلك، يتمثل فى خوف جيش إسرائيل من اجتياح قطاع غزة بريا، والجنود الإسرائيليين المسلحين فى كامل عتادهم، ظهر خزيهم، وأصيبوا بالهلع، وقضوا هذه الفترة منبطحين على الأرض فى الطريق العام، خوفاً من الصواريخ القادمة من قطاع غزة.