من قيم التأسيس.. رؤية لتنشئة الأجيال (3) آداب الصحبة
د. أسامة فخري الجندي,
من المعلوم أن للصحبةِ الصالحةِ أثرًا عظيمًا في سلوك الفرد ومن ثمّ المجتمع، ومن هنا فلا بد من مصاحبةِ مَنْ له فضلٌ في العلمِ والدِّينِ والأخلاقِ؛ ذلك لأن للمصاحبة تأثيرًا في اكتساب الأخلاق، وتناول القيم، وتعبئة المعارف، وتشكيل الثقافة، وبناء العقل والفكر، فكل صاحبٍ تنطبع نفسه بما يراه من تصرفاتٍ وسلوكٍ وأفعالٍ لصاحبه، فيأخذ عنه، ويتأثر به؛ وبناء على ذلك فإنه تصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح، وتفسد بمصاحبة أهل الفساد، فالصحبة الصالحة إذن طريق رئيس ورصين لصناعة الجمال في المجتمع ومن ثم في الكون.
وإذا أردنا أن نؤسس لمفهومٍ دقيقٍ للصحبة من خلال أصل الكلمة (صحب)، سنجد أن لها معانيَ كثيرة ومتعددة، فالصحبة تدل على المقاربة والملائمة، والمجالسة والمؤانسة، والألفة والرفقة، والتجاذب والاقتران، والمداخلة والملازمة؛ مما يؤكد على أنها تعني الارتباط والتلازم والإيناس، وذلك كله في غير مصلحة أو حاجة أو انتفاع أو غاية شخصية .
فلا شك إذن أن من أجمل العلاقات في الحياة (علاقة الصحبة)، والتي هي قائمة على غرس أسباب التعاطف والتآلف والود والقرب، البعيدة عن الأغراض الهابطة والأسباب الرخيصة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ) [أبو داود والترمذي[.
فالصحبة والصداقة عزيزة، وأعجز الناس مَنْ عجز عن اكتسابها، وأعجز منه مَنْ ضيّع من ظفر بها، فللصحبة الصالحة مزيد النفع وعظيم الخير والفضل؛ ولذلك قال جعفر بن محمد: (لَقَدْ عَظُمَتْ مَنْزِلَةُ الصَّدِيقِ عِنْدَ أَهْلِ النَّارِ أَلَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ: { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100-101]) [الآداب الشرعية لمحمد بن مفلح المقدسي ].
ولأن الإسلام أولى الإنسانَ أهميةً كبرى؛ حيث جعل بناءَ الإنسان مقدّمًا على البنيان، فقد جاء بقوانين وضوابط تُنَظّمُ حياةَ الإنسان باعتباره فردًا أو مجتمعًا أو أمة، وحتى نصل إلى هذه الصحبة الصادقة في الدنيا وثمرتها المرجوّة في الآخرة، فهناك قِيَمٌ وآدابٌ هي في ذاتها معايير للسلوك الإنساني في طريق الصحبة لا يمكن الاستغناء عنها، وبقدر وجودها تدوم الصحبة أو تنعدم، ومن جملة هذه القيم والآداب:
المحبة والتودد في طريق الصحبة : فالمحبة والتودد من الأمور الواجب توافرها في طريق الصحبة، بحيث يقوم الإنسانُ بما يُحَقّق التواصلَ والترابطَ والتراحمَ والتعاونَ وقِيَمَ الوفاء، وكلَّ ما يُؤكّد السَّكَنَ النفسي، ويؤدي إلى فعلِ البر والخير، حتى يصل الأمر إلى أن يجعلَ صاحبَه كأنه جزء منه، فلا يُمَيّز نفسَه عنه، كما أنه لا يرضى له بما هو أقل منه، وإنما يريد ويحب له ما يحبه لنفسه تمامًا، وتلك سمة رئيسة من سمات كمال الإيمان التي أخبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله : (لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ) [البخاري ومسلم].
ومن الأمور التي تؤسس للمودة والمحبة في طريق الصحبة الصادقة ما أخبر عنه سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بقوله : (ثَلَاثٌ يُصَفِّينَ لَكَ وُدَّ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوَسِّعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ) [إحياء علوم الدين ].
فالصاحب إذن هو من يحب لصاحبِه الخيرَ ويُزَكّيه بسائر الفضائل من الخصال الحميدة، وإذا كان حبُّ الشيء يستلزم بغضَ ما يناقِضُه، فإن من الآدابِ الإيمانيةِ الواجبة في طريق الصحبة أن يبغضَ الصاحبُ لصاحبِه كما يبغضُ لنفسه من الشر، وإن وقع في زللٍ فعليه أن يعذرَه فيه، وقد قال أَبُو الْعَتَاهِيَةِ : أُحِبُّ الْفَتَى يَنْفِي الْفَوَاحِـشَ سَمْعَهُ ... كَانَ بِهِ عَنْ كُلِّ فَاحِشَـةٍ وَقْـــرًا
سَلِيمُ دَوَاعِي النَّفْسِ لَا بَاسِطٌ أَذًى ... وَلَا مَانِعٌ خَيْرًا وَلَا قَائِلٌ هَجْرًا
إِذَا مَــا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَكَ زَلَّةٌ ... فَكُنْ أَنْتَ مُحْـــتَالًا لِزَلَّتــــِهِ عُذْرًا [أدب الدنيا والدين]
فالحب الخالص إذن من أقوى دلالات قوة الصحبة؛ لأنه أداة تحقيق الروابط الإنسانية التي تعمل على تزكية العَلاقات وتنمية مشاعر الإخاء والود، ومن كان صادقًا في حبه وإخلاصه لأصدقائه شديد المودة والألفة لهم، كان أفضلَ عند الله تبارك وتعالى، فعن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : (مَا تَحَابَّ اثْنَانِ فِي اللَّهِ إِلَّا كَانَ أَعْظَمُهُمَا أَجْرًا أشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ) [ابن حبان والبيهقي] .
وهذه المحبة وثقافة الود والألفة تجعل كلًّا من الصاحبين مُنَقًّى من الأنانية، ومُطَهَّرًا من الرذائلِ النفسية والآفاتِ السيئة، ومن ثم تَتَلاقى المعاني والمُثُلُ النبيلة، فيلزم عن ذلك ثباتُ واستمرارُ العطاء في طريق الصحبة بالخير والفضيلة والقيم الرائدة، فلا تتغير العَلاقة بتغيّر الأحوال أو النِعَم، ولا يتصور أبدًا ما من شأنه أن يُفْسِدَ العَلاقَةَ بينهما .
ومعلوم أن الله عز وجل قد رفع من درجة المتحابين فيه حتى إنهم يكونون في ظلِّ الله يوم لا ظل إلا ظله، وهذا ما عبّر عنه النبي (صلى الله عليه وسلم) بقوله : (وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ) [البخاري ومسلم].
ولا ننسى أن نشيرَ إلى أن هذه العَلاقة (المحبة والتودد) في طريق الصحبة، والتي هي ليست من أجل أرحامٍ تربطها، أو متعددة الأغراض والمصالح، بل يملؤها قيم الحب الصافي في الدنيا، تؤدي في الآخرة إلى مثوبةٍ وعطاءٍ ما أجمله؛ حيث يغبطهم الأنبياءُ والشهداءُ يومَ القيامة لمكانهم من الله، ومن هنا كان وصف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لهم بقوله : (هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ) [سنن أبي داود] .
ومن الآداب في طريق الصحبة: (بُشْرَى الخَيْر) وهو ما يسمى بالفأل الحسن، فالصاحب الفطن هو الذي يساعد الجانب النفسي عند صاحبه إن أصابه شيءٌ أو آلمه أمرٌ أو ضرّه شأنٌ، فيعمل على تقوية معنوياته، والتخفيف من آلامه، والتغيير من تجهّم وجه صاحبه، بالفأل الحسن، الذي هو الكلمة الطيبة الحسنة، فتعلو الجوانبُ المعنويةُ والوجدانيةُ، ومن ثمّ يحيا حياةً طيبةً كلها جدّ وعمل، وسعي وأمل، فيؤدي الصاحبُ هنا حقًّا من حقوق الصحبة وأدبًا رائعًا من آدابها وهو التعاطف والتآلف ونفيُ التطير والتشاؤم عن صاحبه؛ لأن مثل هذا التطيّر والتشاؤم يثبّط همةَ صاحبه ويجعله يعيش في مُنَغّصَاتِ الحياة، فيتعكر صفوُها، وقد قال (صلى الله عليه وسلم): (لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ») [ البخاري ومسلم] .
ولا شك أن هذا الأدبَ في طريق الصحبة يؤكد قيمَ الوفاء وفقهَ الشعور بالصحبة (فرحًا وترحًا)، وقد قال الناظمُ :
فإذا ظفرتَ بذي الــوفـــــ ...ــاء فحُط رحلكَ فـــي رِحابهْ
فأخوك مَن إن غاب عنـ ... ـك رعى ودادك فـــي غيابهْ
وإذا أصابك ما يســـــــوءُ ... رأى مصـــــابكَ من مــصابهْ
ونراه يَيْجَعُ إن شكــوتَ ... كأن مـــــا بك بعـض ما بـــهْ
ومن الآداب في طريق الصحبة : (ثقافة التبسم والوجه الطلق)، والذي هو عنوان للمودة والتواصل والمؤانسة، فالتبسم قيمة مثاليّة تُعبِّرُ عن الرضا والسرور والارتياح، فيها التأسيس لمعاني الأمان والاستقرار، وفيها تحقيق مؤانسة الجليس والصاحب، ولا شك أنه عندما تسودُ ثقافةُ الوجه الطلق بين الناس عامة، يحدث التواصلُ بصورة جادة، ويؤدي إلى المحبة والتعاون، والخير والبر، فكيف بها في طريق الصحبة ؟
فالابتسامة إذن تعبير يؤكد على صفاء ونقاء سريرة صاحبها، وهي أمر مندوب إليه؛ حيث من خلالها يُدخل كل من الصاحبين على قلب الآخر السرورَ والقبولَ، وهي في ذاتها دليل على الرحمة والرَّحابة وعدم القسوة والغلظة، بل إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد بيّن أن لصاحب الابتسامة أجرًا وفيرًا، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) [سنن الترمذي]، وهنا أمر دقيق نستنبطه من كلام سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ألا وهو أن التبسمَ لونٌ من ألوان الصدَقَة، فكما أن الفقير يحتاج إلى المال أو الطعام ما يسد به حاجته، فكذلك الإنسان في طريق الصحبة يحتاج إلى هذا النوع من التعبير والمقابلة التي تدخل عليه الفرحة والمؤانسة، بالإضافة إلى التبسم نوع من العبادات البدنية .
فبالتبسم قد يعالجُ الصاحبُ مع صاحبه ظنًّا من الظنون التي تعتريه، وقد يفتح به بابًا للأمل والتواصل، ولعل أول من حرص على هذا الأدب وحافظ على ملازمته هو أفضل خلق الله سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد قال : (إِنَّكُمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلْيَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ) [الحاكم] .
تلك هي الابتسامة التي جعلت سيدَنا جريرَ بنَ عبدِ الله البجلي (رضي الله عنه) ينتبه لها ويتذكرها ويكتفي بها هَدِيّةً من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فيقول: (مَا رَآنِي رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلاَّ تَبَسَّمَ فِي وَجْهِي) [البخاري ومسلم].
كما أن التبسمَ وطلاقةَ الوجهِ بين الصُّحبة يحمل معانيَ كثيرة، منها : تعبيرٌ عما بالداخل من عدم الغضب، ومنها : استئناس المواقف، ومنها : توجيه الصاحب إلى ما ينبغي أن يكون أو يفعل أو يقول .
ومن الآداب في طريق الصحبة : (الصفاء والنقاء)، وهو عبارة عن تصفية النفس من بواعث الحقد والحسد والبغض والكراهية، وكذلك من الظنِّ والتنافسِ السيء، والتأكيد على حبِّ الخير له والنعمة عنده، ولعل الصفاءَ والنقاءَ طريقٌ رئيسٌ في الصحبة الوثيقة وقوة الصلة، فكل ما يحول دونَ صفاءِ القلوب من الرذائل منهيٌّ عنه في طريق الصحبة، وقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) [البخاري ومسلم]
ومن الصفاء : قيمُ التسامح، والصفحُ، وحسنُ الظن وعدمُ اللوم أو الاتهام، وقبولُ المعذرة، فقد قال الخليل بن أحمد:(أَرْبَعٌ تَعْرِفُ بِهِنَّ الْأُخْوَةَ الصَّفْحُ قَبْلَ الِانْتِقَادِ لَهُ وَتَقْدِيمُ حُسْنَ الظَّنِّ قَبْلَ التُّهْمَةِ وَبَذْلُ الْوُدِّ قَبْلَ الْمَسْأَلَةِ وَمَخْرَجُ الْعُذْرِ قَبْلَ الْعَيْبِ، وَلِذَلِكَ نَقُولُ :
أَخُوكَ الَّذِي يُعْطِيكَ قَبْلَ سُؤَالِهِ ... وَيَصْفَحُ عِنْدَ الذَّنْبِ قَبْلَ التعتب
يقدم حسن الظَّن قَبْلَ اتِّهَامِـــهِ ... وَيَقْبَلُ عُـــذْرَ الْمَــرْءِ عِنْــــدَ جَهَالَتِـــهِ)[بهجة المجالس وأنس المجالس]
فالصفاء مفهومٌ دينيٌّ هام، يَسْعَدُ به كلُّ من اتصفه، ويُسْعِدُ مَنْ حوله مِنَ الناس ومَنْ يرافقهم ومَنْ يعمل معهم، فالصفاء يُضفي على الحياة كلها سعادة غامرة وطمأنينة وأمنًا وسلامًا، وهي من الأمور الواجبة في طريق الصحبة؛ لأنه إذا اتسمت علاقة الصحبة بالصفاء، انعكست معاني الرحمة والألفة والود عليها، فيحيا كلٌّ منهما في سعادة آمنين، وهذا ما أراد أن يؤسسنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو السبيل الرئيس لتحقيق أمة الجسد الواحد والبنيان المرصوص؛ ومن أجلِ ذلك كانت هذه الثمرة وهذا الفوز العظيم لمن اتسم بقيمة الصفاء - التي تؤكد مفهوم الوَحدة – ، والذي هو أدب من آداب الصحبة؛ حيث قال الله عز وجل : (وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلَّذِينَ يَتَصَافُّونَ مِنْ أَجْلِي) [مسند أحمد[
ومن الآداب في طريق الصحبة : (النصيحة)، وهي تُعَد من أهمِ سُبُلِ وواجباتِ الصحبة الرصينة؛ فمن خلالها التعبيرُ عن حبِّ الخير لصاحبِه، والابتعاد به عن مواطن الزلل أو الفساد، والتنزيه له عن الأعمال المنافية أو ارتكاب الرذائل، والأخذ بيده نحو طريق الاستقامة والرشد والصواب، فيكون الصاحب من خلال (النصيحة) سببًا رئيسًا في توجيه صاحبه نحو الإقدام على الحق والخير والفضائل، والرجوع عن الباطل والشر والرذائل .
نعم ... فهذه هي الصحبة الحقيقية التي لا ينتظر فيها الصاحبُ أن يطلبَ من صاحبِه شيئًا، بل هو الذي يبادر بالمساعدة فورًا .
ومن الأمور المندوب إليها والمستحية أيضًا في طريق النصح : أن يكون الصاحبُ في نُصحه رفيقًا، ليِّنّ القول، لطيفَ الفعلِ والتوجيه، وأن يتحرى ويتخيرَ الوقت المناسب الذي يدخل بنصحه من خلاله لصاحبه، وقد قال الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ – رحمه الله – : (مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ ) [شَرْحُ مُسْلِمٍ ]، وقد كان هذا هو عينه التوجيه الإلهي لنبيه موسى وأخيه هارون (عليهما السلام) حين بعثهما إلى فرعون، فأمرهما باللين في القول والنصيحة؛ حيث قال تعالى : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [ سورة طه 43-44]، فكيف بنصحٍ في طريق الصحبة ؟؟
وبالجملة فينبغي على كل صاحبٍ أن يتأدبَ بهذا الأدب الرائد (النصيحة) في طريق الصحبة؛ بحيث يكون أداةً من أدوات صناعة الجمال لصاحبه في الدنيا والآخرة ، فيترفع به عن الدنايا، وعن كل ما يعيبُ النفسَ ويجلبُ لها الذُّلَ والمهانةَ سواء كان ذلك بتفكيرٍ أو بفعلٍ أو بكلامٍ، فيكون بذلك حريصًا على صاحبه في كل أحواله وأفعاله وأقواله، ملزمًا صاحبَه بالعفة في سائر تصرفاته وسلوكه؛ حتى لا يصدر منه إلا ما هو نزيه، ولا يتكلم إلا بما هو جميل، ولا يفكر إلا في كل ما تسمو به النفس، فهذه هي ثمرة النصيحة في طريق الصحبة على التحقيق.
إن آدابَ الصحبة كثيرةٌ وفيرةٌ، غايتها أن تحفظ للصاحب حياتَه، وتحققَ له السعادةَ والطمأنينةَ والاستقرارَ، وتدفعَ عنه الظلمَ والجورَ، وتضبطَ حركتَه مع نفسه ومع بني جنسه ومع الكون كله. ومن جملة هذه الآداب أيضًا : الأمانة، والصدق، والتعاون، وحفظ السر، وعدم الاستغلال، والتماس الأعذار، وحسن الظن، والتزام أدب الحوار والاختلاف، وعدم الفرقة على الخلاف، وإرساء قيم الاحترام، والعفة في الأسلوب بحسن اختيار وصياغة الكلمات والعبارات وغيرها . ومن ثمّ فعلى الصاحب أن يتحلى بهذه الآداب مع غيرها؛ لنصل إلى مجتمع مترابط ٍ، نقيٍّ، زكيِّ النفسِ، طاهرِ السريرةِ، خالٍ من الفساد الأخلاقي والقِيَمي .
فهذا هو المجتمع الذي أراد رسول الله ((صلى الله عليه وسلم)) أن يؤسّسه مجتمعًا نظيفًا ونورانيًّا، من خلال ربطه بالتعاليم القرآنية والنبويّة، وترجمتها إلى برامج تطبيقية وخطط عمل حقيقية . وهذا بلا شك هو ثمرة حسن الاتباع، ومن هنا يروي لنا ابْنُ عَبَّاسٍ ((رضي الله عنه)ما), عَنِ النَّبِيِّ ((صلى الله عليه وسلم))، قَوله : (إِنَّ الْهَدْىَ الصَّالِحَ وَالسَّمْتَ الصَّالِحَ وَالاِقْتِصَادَ جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) [سنن أبي داود]. فما أجمل الهدي الصالح بحسن الاهتداء بالتعاليم الإيمانية والنبوية المشرفة.
ونهاية ... فإنه من المعلوم أن طفل اليوم تتكون منه أمةُ الغد، وعلى أي حال كان واقع الطفل وتربيته اليوم، سيكون وضعُ الأمةِ في المستقبل تبعًا لذلك، لقد جاء عن النبي ((صلى الله عليه وسلم)) قولُه : " أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم " [ابن ماجة] . وهي دعوة نبوية إلى الآباء والأمهات والمربين بأن يبادروا إلى الاهتمام بتربية الأبناء والسعي في إصلاحهم ما استطاعوا، ولا شك أن أعظم ما تتوجه إليه الجهود وتُنفق فيه الأموال إصلاح الأبناء، وهو ما يسمى بالاستثمار في البشر، فعلينا أن ننشئ الأجيال على هذه الآداب في طريق صحبتهم .