رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


20 عاماً من مصر التي لم أكن أعرفها

23-6-2021 | 12:30


مها محسن,

رافقت أسرتي في الخارج خلال فترات مختلفة من حياتي، أحدثهم كانت خلال فترة دراستي الجامعية في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة، وبضعة شهور بعد التحاقي بالعمل في العقد الأول من الألفية، كانت فترة أسميها بالميتة على مستوى تأثير القوى الناعمة المصرية، كان التأثير المصري قد بدأ في الأخذ بالتراجع بالفعل على عدة مستويات.

 

وكنت خلال تلك الفترة أبحث عن أي دواعم نفسية تحرك مياهي الوطنية الراكدة، ولاسيما تلك الفترة التي تلت أحداث 11 سبتمبر التي عاصرتها صدفة وأنا في ألمانيا وكان أحد أبطالها مصرياً يعيش بالمقربة من مكان إقامتي، فحدث بعدها وأن دُعيت هناك مرتين على فترات متباعدة لحضور عروضاً خاصة بأفلام مصرية من نوعية الجاسوسية، ومرة أخرى لمعرض أثري لمومياوات مصرية غير ملكية، أتذكر أنني خرجت مُحَمّلة بكل المشاعر السلبية من كل تلك المناسبات التي كان من المفترض أن تمنحني مشاعر فخرٍ وعزٍ، إلا أنني لم أشعر إلا بكل خيبة أمل وإحباط  منطقيين.  


كنت في كل مرة متشوقة لأن أشتم أي نسيم من رائحة الوطن، لأي داعم نفسي أو روحي يمنحني القوة ولو على سبيل الزور، كان أول تعويضاتي النفسية بعد أعوام في هذا الاتجاه إن صح التعبير هو "كأس الأمم الأفريقية عام 2006" ذلك الحدث الرياضي الاستثنائي الذي أتصور أنه أول حدث في العصر الحديث يلتف المصريون من حوله دون إيعاز أو توجيه مسبق، ولا حتى استغلال لاحق.
وذهبت تلك الأيام التي رأيت فيها العلم المصري لأول مرة يرتفع بين الأيادي، ويُهتف خلاله باسم مصر، ويتهافت الشباب على حماية الشابات، حتى أنني رأيت بعيني نظاماً غير معهوداً في طوابير دحول الاستاد، ثم حدثت فاجعة اختفاء العبّارة السلام 98 وظهر الخبر على شاشات الاستاد، وتحولت كل مشاعر الفخر والحماس الملتهب لحزن وحسرة وألم عميقين.


تلك الحقبة من الزمن تمثل فارقاً كبيراً في حياتي التي أرى أنها كانت بمثابة التأهيل الرباني لما هو قادم، كانت الخيبات تتوالى مرة بعد مرة، وحدثاً تلو الآخر، ومرارة بعد الأخرى، ما بين حوادث قطارات وطائرات وحتى عبّارات، وحوادث تمس الكرامة المصرية في الخارج، وما بين غلاء أسعار وتواضع دخول لا يقابلهم أي تحسن في مستوى الخدمات أو المرافق أو الطرق، لا بادرة عمل ولا بارقة أمل.


وهنا سَأُسقط عمداً تلك الفترة الخاصة بأحداث يناير 2011 وحتى يونيو 2013 لأن لها حسابات أخرى لا يمكن اختزالها في سطور أو ضمها للصورة الشاملة التي رغبت في عرضها في مقالي هذا، ففي عام 2014 صادف وأن كنت بمحطة قطار إحدى الدول الأوروبية أقوم بحجز تذكرة رجوعاً لدولة أخرى، وما أن أتى دوري ولاحظ عميل الشركة السياحية -المالكة للقطارات والذي قام بتولي الحجز لي- تلك الشارة على حقيبتي والتي تحمل علم مصر، وعلمه بجنسيتي وعملي الحكومي من خلال جواز سفري، حتى وأن بادر بسؤالي بخبث الأوروبيين "كيف حال الجنرال"؟ وهنا ولأول مرة ترتسم على وجهي ملامح الفخر العفوي لأنني أعلم خبث سؤاله وبديهية إجابتي، ذلك برغم أنه ليس من المعتاد ولا المعلوم في الغرب التلميح في السياسة أو الدين أثناء تأدية العمل، إلا أنني هممت بالرد عليه بابتسامة ثقة " هو ونحن في أحسن حال".  


وفي عام 2017 كنت في جولة بعدة دول أوروبية، كانت معظمها تعاني من أكثر من عمل إرهابي متتابع ما بين عمليات دهس وطعن وتفجير، كان التواجد الشرطي المكثف في العاصمة الإسبانية مدريد جلياً إلى الدرجة التي كانت فيها طائرات الهليكوبتر التابعة للشرطة منتشرة على مدار الساعة جنباً إلى جانب سيارات الشرطة، بالإضافة إلى الشرطة التي تعتلي ظهور الخيول المسؤولة عن تأمين المناطق الوعرة بمنطقة وسط البلد Sol ذات الكثافة السياحية العالية، وفي بروكسل لم يكن الحال بكثير الاختلاف، فمنطقة Grand Place التي يوجد بها مجلس المدينة كانت تضج بالشرطة بعد تحذيرات بتوقع حدوث عمليات إرهابية، حتى أن بعض الطالبات استوقفونا لسؤالنا كسائحين عن رأينا في مدى تأثير الإرهاب على مؤشرات السياحة بشكل عام وفي بلجيكا بشكل خاص ضمن استقصاء جامعي يقومون باستيفائه.


ومن بلجيكا انتقلت إلى باريس عاصمة النور التي امتلأت بعناصرالجيش في معظم الأحياء الهامة وبشكل خاص الأماكن السياحية والمواقع الحيوية والأثرية، ومن أمام متحف اللوفر يتصادف أن ألتقي ببعض الطلبة الفرنسيين صدفة مرة ثانية، ومن ثم يقومون بسؤالي نفس السؤال، وهنا تجرأت وطلبت منهم ألا يقوموا بحذف ما سأقوله ووعدوني بهذا، فقلت صراحة أن الفرنسيين لأول مرة منذ أعوام يستشعرون حجم الخطر الذي يمثله الإرهاب، وهو نفس الأمر الذي عانت منه مصر على سبيل التحديد بما إنني أتحدث من أمام اللوفر الذي يكتظ نصفه بالقسم المصري الممتلئ بمئات القطع المصرية القديمة (والذي يمثل أكثر من نصف دخل اللوفر)، تعجبت في تصريحي من اختلاف واختلال المعايير في الحكم على الإرهاب باختلاف المكان برغم الاتفاق على وحشية الفعل.


وبعد تحسن ملحوظ على مستوى الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية في مصر بشكل عام، كان أحد أصدقائي الأوروبيين في زيارة لمصر بنهاية العام للتقدم لخطبة إحدى صديقاتي، وما أن قمنا بإحضاره من المطار حتى وأن قام بالتعليق خلال الطريق للفندق بوجود عدد من السيارات الحديثة والفارهة التي توازي تلك الموجودة ببلده، ولأنني توليت مهمة زياراته السياحية فقد رأيت بأم عيناي مدى الانبهار الذي كان يعتلي وجهه من خلال تعليقاته الدائمة باختلاف تلك الصورة التي كان حاضراً بها مقارنة بتلك التي عايشها في ذلك الوقت، كل ذلك برغم تواضح العديد من الإمكانيات والخدمات اللوجيستية في المواقع والمزارات السياحية.


هذا بخلاف انبهاره بشكل الحياة الأسرية والاجتماعية لأغلبنا، أكاد أجزم أن انصياعه لرغبة صديقتي بإتمام الزيجة في مصر والاستقرار بها ، كان نابعاً من فرط مشاعر الملل التي كان ممتلئاً بها في بلده حيث الحياة الرتيبة المملة والجو والنفوس الباردة، وحكت لي صديقتي بعدها أن أحد أفراد عائلتها كان قد سبق وسأله أثناء تقدمه لها بماذا سيكون موقفه في حال تعرضت البلاد لأي أزمة سياسية أو اقتصادية باعتبار أنهما كانا سيعيشان بمصر، فَّرَدّ بكل ثقة سأقوم بأخذ عائلتي وأرحل عائداً لبلادي، فرد أحد أفراد عائلتها وماذا عن عائلتها هي؟ رد بكل ثقة فليحضروا كلهم إذا ما رغبوا.
وتمر الأيام والسنين لتأتي الجائحة التي غيرت من مسار وسريان العالم بأكلمه فتطيح بدول برمتها، وتدمر البنى التحية لأعتى الدول الكبرى، ونتابع على شاشات التلفاز انهيار القطاعات الطبية في أوروبا وأمريكا وتزايد أعداد المصابين ونسب الوفيات بشكل مخيف على مدار شهور دون أي تحسن ملحوظ.
ثم يأتينا ذلك الاتصال من أوروبا من نفس المواطن الأوروبي الذي كان من المتوقع إتمام زيجته بصديقتي ولم يحدث، حيث حاول استشفاف الأوضاع الصحية في مصر من خلال التواصل معنا، حدّثنا أن الوضع كارثي ببلده وأنه يفكر جدياً في الانتقال لمصر، حيث الشمس والدفء واحتواء موقف الوباء بشكل معقول ومن ثم عدم توقف الحياة اليومية وسريانها بالشكل الذي يضمن استمرار كل من عجلة الاقتصاد وحياة المواطنين.    
 كان هذا الاتصال كفيل بأن يعطيني مؤشرات طمأنة كافية على ما نحن فيه وما وصلنا إليه برغم كل الإجراءات الاقتصادية القاسية التي مازالنا نعاني منها جميعاً، ولم نستطع جني ثمارها لهبوب عاصفة الوباء العالمي التي صمدت مصر أمامها بكل قوة، والتي لولا تلك الإجراءات السريعة والحاسمة قبل الوباء بسنوات لكان الوضع أسوأ ما يكون.


أقولها وأرددها بكل فخر كلما سنحت الفرصة وعادت الذاكرة للخلف سنوات وسنوات وقارنتها بحال الوطن وما نحن عليه في هذا العهد الاستثنائي، وأحمد الله في كل وقت على منحه لي فرصة العوض عن مرارة ما مضى، ومعايشة العصر الذي أعادنا على خريطة العالم من أوسع الأبواب رغماً عن كل الإخفاقات الماضية والتحديات الحالية، فمشاعر الامتنان والعرفان لهي من صميم إعمال خاصية الضمير الإنساني الذي يجبر الإنسان طواعية للنطق بصوت الحق وكل كلمات العدل والحقيقة الجلية. 
مصر التي أعرفها حضرت وبقوة ونحن لها لحافظون بإذن الله