حلمى النمنم وزير الثقافة الأسبق
ثورة ٣٠ يونيو تحمل بعض خصائص لم تتوافر لغيرها من الثورات في تاريخ مصر الحديث، ورغم أن فريقا من المؤرخين والباحثين يذهبون إلى أن تاريخنا الحديث يبدأ بحملة نابليون سنة ١٧٩٨، إلا أن تيارا آخر يرفض ذلك التوجه، باعتبار أن حملة نابليون كانت في النهاية عملية غزو يهدف إلى احتلال مصر، وإن تدثَر نابليون ببيانه حين هبط الإسكندرية، الذي أعلن فيه للمصريين أنه محب للإسلام، يوحد الله ومؤمن بالنبي محمد مثلهم وأنه ما جاء إلا ليحررهم من ظلم واستبداد المماليك
على هذا يذهب الرافضون لحملة نابليون إلى أن تاريخ مصر الحديث يبدأ فعلياً بثورة مايو ١٨٠٥.
تلك الثورة التي احتشد فيها حوالى أربعون ألفاً من المصريين حول قلعة صلاح الدين وهم يهتفون بالوالي و”انزل يا باشا”، ورفض الباشا النزول متعللاً بأنه عُيّن بأمر مولانا السلطان، فلا ينزل بأمر الفلاحين، فرد عليه عمر أفندي مكرم، قائلاً “إن من حق الفلاحين أن يعزلوا الوالي، بل وأن يعزلوا السلطان نفسه، هكذا قضت الشريعة”، وبعد حوالي أربعين يوماً من حصار القلعة نزل الباشا، واختار الفلاحون بدلاً منه محمد علي والياً عليهم.
قرنان من الزمان يفصلان بين ثورتي مايو ١٨٠٥ ويونيو ٢٠١٣، تحديداً ٢٠٨ سنوات، وبينهما ثورة عرابي سنة ١٨٨٢، ثم ثورة سعد زغلول ١٩١٩، وبعدها ثورة ١٩٥٢، ثم ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، التي كانت تمهيداً، أو بداية لثورة ٣٠ يونيو الكبرى.
كل ثورة لها طابعها الخاص وسماتها الواضحة وقضيتها الأساسية، فثورة ١٨٠٥ كانت تهدف إلى الحد من استبداد الوالي وإشراك القيادات الشعبية “العلماء”وقتها، في اتخاذ القرارات الخاصة بفرض الضرائب أو “المكوس” تحديداً، لكن لم يكن من بين أهدافها - مثلاً - الاستقلال عن الدولة العثمانية وبناء دولة حديثة، وثورة عرابي - مثلاً - كانت تهدف إلى أن يتساوى المصريون في الفرص مع الأتراك والمستتركين في المناصب العليا، وهو ما اصطلح على تسميته وقتها “مصر للمصريين”، وثورة ١٩ كان هدفها خروج الإنجليز من مصر “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”.
تركزت أهداف وطموحات ثورة ٣٠ يونيو في استعادة هُوية الدولة المصرية والهُوية الوطنية المصرية مما أقدمت عليه جماعة الإخوان الإرهابية من تذويب تلك الهُوية لتنداح في مشروع أممى هو مشروع الخلافة، وكذلك استعادة روح وأهداف ثورة ٢٥ يناير من أولئك الذين خطفوها، الأهداف التي كانت “عيش، حرية، كرامة إنسانية”، وقد تهاوى كل ذلك أمام سيطرة جماعة الإخوان الإرهابية من ناحية، ومجموعات من الأناركية من ناحية أخرى، أما جماعة الإخوان فكانت أهدافها دائماً ضد الإنسان ومصلحته.
وهي جماعة ضد الوطن والوطنية، فقامت الجماعة عشية انهيار دولة الخلافة العثمانية بهدف استعادتها ثانية، وفي ظل المشروع الأممي يتحول الإنسان إلى مجرد “ترس” في آلة يجب أن يُضحّى به، وأن يضحي هو نفسه طوال الوقت من أجل المشروع الأيديدلوجي، أما الشباب الأناركي، فهؤلاء ضد الوطن والوطنية بدعوى العولمة، واعتبروا أنفسهم فوق المواطنين البسطاء، لذا راحوا يسخرون في أدبياتهم من الشعب المصري، واعتدوا على حرماته، ومارسوا العنف والبلطجة، كما حدث في حريق المجمع العلمي المصري، وحريق عدد من الأماكن والمؤسسات العامة.
ولم يكن غريباً أن حدث التقارب بين الطرفين، جماعة الإخوان وبعض المجموعات الأناركية من الشباب، لأن الأهداف متقاربة في كثير من الحالات، ويبدو أن كل منهما تصور أنه يستخدم الآخر، أو يقوم بتوظيفه لصالح أجندته الخاصة، ولم يكن غريباً أنهما معاً يناصبان دولة ٣٠ يونيو العداء، ويتربص كل منهما بها.
والحق أن تفكيك الدولة الوطنية كان هدفا طوال الوقت لجماعة الإخوان، وكل الجماعات والتنظيمات التي خرجت من عباءتها، وكان كذلك هدفاً لدعاوى العولمة والفوضى الخلاقة التي جرت محاولات تدشينها منذ الاحتلال الأمريكي للعراق سنة ٢٠٠٣، وما حدث في مصر كان من المقرر أن ينتقل إلى كل دول المنطقة، ليبيا، سوريا، العراق وغيرها، لكن ثورة ٣٠ يونيو أوقفت هذا المشروع برمته وكشفت ما به من عوار، ومن حقنا أن نفخر أن ثورة ٣٠ يونيو كانت سباقة لاتجاه عالمي يؤكد على دور الدولة الوطنية عموماً، وأمامنا ما جرى في بريطانيا من تخارج عن الاتحاد الأوروبي، وما يجري في الولايات المتحدة الأمريكية من قلق بسبب ما أطلق عليه هناك تدخلات روسية في شئونهم، أو تفوق الصين عليهم في الميزان التجاري.
وكما كانت ثورة ١٩١٩ سباقة عالمياً في المطالبة بالقضاء على الاستعمار، وثورة ٥٢ لها الريادة في إخراج المستعمر والتصدي للتحالفات الدولية التي تعيد الدولة المستقلة إلى الحظيرة الاستعمارية من الباب الخلفي؛ كانت ثورة ٣٠ يونيو سباقة في وضع حد لجموح مشروع الإسلام السياسي ومشروع الفوضى الخلاقة، وكشف التحالف بينهما ضد الدولة الوطنية عموماً وضد مصر تحديداً.
تتميز ثورة ٣٠ يونيو بأكبر عدد من مشاركة الجماهير، ففي سنة ٢٠١٣، كان عدد سكان مصر يتجاوز بقليل التسعين مليون نسمة، ومع ذلك خرج إلى الشوارع حوالي ٣٣ مليونًا، أي أكثر من ثلث تعداد السكان وهو رقم ضخم - ليس فقط بمعايير الثورات المصرية - بل الثورات الإنسانية كلها، من الثورة الفرنسية إلى الثورة البلشفية، ناهيك عن ثوراتنا نحن، وقامت ثورة ١٩١٩، أكبر ثورة شعبية في القرن العشرين.
وطبقاً لعدد من الإحصائيات والدراسات، فإن حوالي ٥٠٪ من الذين خرجوا إلى الشوارع والميادين في ٣٠ يونيو، كانوا من النساء والأقباط، وهذا ليس مفاجئاً ولا مستغرباً، ذلك أن كل المكاسب التي حصلت عليها المرأة المصرية منذ عهد الخديو إسماعيل كانت مهددة، مكاسبها الاجتماعية والسياسية والإنسانية كانت في خطر حقيقي، الأدوار الطبيعية للمرأة كانت في خطر وظهر الاستغلال السيئ والرديء لها كجسد فقط، ولعل ما عُرف في زمن حكم الإخوان باسم “جهاد النكاح” يكشف ما الذي كان يُدبّر للمرأة، وكيف كان يُنظر إليها، فضلاً عن محاولة فرض زي معين عليها، باعتبار أنه زيٌ شرعيٌ، وتاريخياً كانت المرأة المصرية تتسم بالاحتشام، لكن ذلك لم يكن فرضا ولا قسرا، بل جزء من تكوين وتربية عامة، ولعلنا نتذكر مشروع القانون الذي نوقش أيام الإخوان في البرلمان لخفض سن زواج الفتاة، ليصبح أقل من ١٨ سنة، أي ستتزوج وهي قاصر، بالمخالفة للقوانين المصرية.
أما الأقباط فقد جرى الاعتداء على كنائسهم، بل وجرت محاولة حرق مقر الكاتدرائية المرقسية بمنطقة غمرة، ورغم أن بعض ميليشيات الجماعة هي التي قامت بذلك، فإنه لم يتم التحقيق في الأمر، بل رحبت أبواق الجماعة إعلامياً بالعملية البشعة، غير المسبوقة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وجرى الحديث عن أن الأقباط يحمدون الله أنهم يعيشون بيننا، وكان ذلك يعني العودة عن قاعدة المواطنة، وتقسيم المواطنين، أبناء البلد الواحد، على أساس ديني وطائفي، ولم يكن ممكناً القبول بذلك، لا من المسلمين ولا من الأقباط، ذلك أن نسيج هذا الوطن بنيناه معاً كمصريين، وشاركنا جميعاً في معارك الاستقلال والتحرر، سواء من الاستعمار العثماني أو الاستعمار البريطاني، وبعد ذلك في حروبنا مع إسرائيل.
أحد أبرز جوانب تميز ٣٠ يونيو، قياداتها وزعماؤها، فقد شهدت القيادات تنوعاً وتعدداً كبيراً، فشرارة ثورة ١٩ وقيادتها كانوا مجموعة من الباشوات يتقدمهم سعد زغلول، توجهوا إلى المعتمد البريطاني يطلبون السماح لهم بالسفر إلى مؤتمر عصبة الأمم للمطالبة باستقلال مصر، تأسيساً على مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون التي كان أعلنها عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى عن حق المستعمرات المطالبة بالاستقلال، صحيح أن ويلسون تراجع عن ذلك فيما بعد أو نكص عنه على النحو الذي كشفه د. محمد أبوالغار في كتابه المهم الذي أصدره مطلع هذا العام حول هذا الموضوع. وقيادات ثورة عرابي كانوا معروفين بالاسم، وهم مجموعة “جماعة حلوان أو الحزب الوطني القديم”، التي كانت تنادي بشعار “مصر للمصريين”، أما قادة ٣٠ يونيو فتعبر عنهم الصورة التاريخية لبيان ٣ يوليو ٢٠١٣، الذي ألقاه وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسي يومها.
ونجد الحضور عددًا من قيادات القوات المسلحة وعددًا من رؤساء الأحزاب أو ممثلين لهم، وعددًا من القيادات المدنية، ومجموعة الشباب الذين نظموا حركة “تمرد”، إضافة إلى كل من فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر، وصاحب القداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية، وهكذا حشدًا واسعًا يمثلون الأمة المصرية بتنوعها الثقافي الإنساني الهائل، ولذا أمكن لهم اتخاذ القرارات المهمة التي أحدثت تحولاً مهماً في مسيرة العمل الوطني.
وما تسرب عن بعض ما جرى في هذا الاجتماع، أن قيادات القوات المسلحة، وفي مقدمتهم وزير الدفاع، دخلوا الاجتماع وفي نيتهم الالتزام بما ورد في مشروع تمرد، وهو الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة، لكن كان رأي شباب تمرد وعدد من القيادات المدنية يتقدمهم محمد البرادعي، أن المطالب في الشارع تغيرت، وأن الثورة تريد عزل محمد مرسي، على أن يتولى مكانه بصفة مؤقتة رئيس المحكمة الدستورية العليا، والمعني هنا أن القيادات تعاملت بشكل ديمقراطي، وتم الاستماع إلى صوت الشارع والاستجابة له.
وجرت العادة أنه في الثورات يمكن أن تقع من بعض الثوار أعمال عنف، حدث ذلك سنة ١٩١٩ مثلاً، حيث تم قطع بعض خطوط السكك الحديدية لإجبار قوات الاحتلال على الاستجابة للثورة، أما ما جرى في الثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، والثورة الإيرانية من بحور الدم معروف للكافة، لكن في ثورة ٣٠ يونيو، لم يمارس الثوار أي عنف، وقع العنف من القوى المضادة ممثلة في ميليشيات جماعة الإخوان وعناصرها الإرهابية.
وكانت الثورة بداية لمشروع وطني ديمقراطي حقيقي، يقوم على بناء دولة مدنية حديثة وتحقيق تنمية حقيقية وعميقة مستدامة، تشمل كل فئات الشعب المصري، والأهم من ذلك أن دولة ٣٠ يونيو أسقطت مقولة “إن سيناء عادت إلينا سنة ١٩٨٢ منقوصة السيادة”، حيث تم بسط السيادة عليها كاملة وانتشرت قواتنا في شمال سيناء تقاوم الإرهاب وتقضي عليه وتسد الأنفاق، صحيح قدمنا شهداء كثرًا، من أبرزهم العقيد أحمد منسي، لكن كل ذلك هيّن إلى جوار استعادة سيناء وتحريرها من قبضة الإرهابيين، وإسقاط المشروع الإخواني في إقامة ولاية سيناء.