رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


أحببت الثور وكرهت مصارعه

14-5-2017 | 09:59


للفنان فريد الأطرش

.... أنا أكره رؤية الدماء ولهذا فإن قلبي تحرك اشفاقا علي الثور وأنا أري الجزارين علي شكل مصارعين يحدقون به... وينهالون عليه بمديهم وسيوفهم!

اعتدت أن أقيم في باريس في كل صيف طلبا للعلاج وقد ألفت الحياة فيها وصار لي اصدقاء في فنادقها ومسارحها ومتاحفها بل وملاعب كرة القدم فيها..

وهكذا وجدتني مرتبطا بباريس بأشياء كثيرة غير أنني في هذا العام الأخير رأيت أن أتجول في ربوع أوروبا..

ذهبت إلي السويد وأعجبتني نظافتها وأحببت ريفيها الجميل وتمنيت اليوم الذي أري فيه ريف مصر نظيفا أنيقا كريف السويد..

وذهبت إلي ألمانيا وألمانيا عظيمة بنهضتها فقد قامت من عثارها بعد أنهكتها الحرب وطحنتها الهزيمة وتسابق أهلها في البناء والتعمير حتي اختفت كل آثار التخريب وصارت مدنها من أجمل المدن في أوروبا علي الاطلاق ولكنني كنت افتقد من استطيع التحدث إليه باللغتين اللتين اعرفهما وهما الفرنسية والانجليزية ولهذا كنت اقضي الساعات الطوال دون كلمة لأنه كان لابد أن اتعامل مع أحد الناس بالاشارة وحتي الاشارة لم اتقنها كثيرا لأ ننى كنت اطلب من الخادم في الفندق طبقا من الفاكهة فيعود إلي وهو يحمل فنجانا من القهوة .. مثلا

وذهبت إلي إسبانيا فقد قيل لي إن الاسبان يعيشون كما نعيش نحن ويتفقون معنا في كثير من التقاليد والخلق ومنها مثلا تحفظهم وحبهم للثأر وتفانيهم في الحب إلي حد أنهم لا يتورعون عن ارتكاب أفظع الجرائم من أجل الحب.

وهبطت بي الطائرة في برشلونة .. إحدي مدن إسبانيا المرموقة وكان أول ما فكرت في رؤيته مصارعة الثيران فإنها في إسبانيا كالمسارح في باريس أو ملاعب كرة القدم في المجر أو ناطحات السحاب في نيويورك.

وذهبت إلي ساحة المصارعة... ووجدت خلقا كثيرا يتدافعون نحو شبابيك التذاكر ويتسابقون إلي أبواب الدخول ويتصايحون علي الطريقة المصرية وعجبت لهذا العدد الضخم من الناس وسألت رجلا يعرف الفرنسية..

- هل حفلة اليوم ذات أهمية خاصة؟

فهز رأسه بالنفي وقال:

- كلا ... إنما يمكن أن تصفها بأنها أقل من العادية..

وسكت قليلا ثم استطرد يقول:

هل يدهشك هذا الاقبال علي مصارعة الثيران؟ أن الشعب الإسباني يحب القوة ويحب العدالة والقوة في أن يقتل الرجل ثورا والعدالة في أن للثور فرصة متساوية مع الرجل فيستطيع أن يقتله!

وشرد الرجل قليلا ثم قال وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح:

وقد شاهدت هذه الساحة التي نحن فيها مصارعين عظماء قتلوا عشرات الثيران وألهبوا الاكف بالتصفيق ثم ... وابتلع الرجل ريقه المرير وقال:

- ثم قتلهم الثيران

- أليست هذه خسارة؟

كلا .. إنها رياضة ألا يحدث في الملاكمة أن يقع أحد الملاكمين صريعا، ألم تسمع عن أبطال في كرة القدم كسرت سيقانهم وأصيبوا بعاهات لا برء منها...

ولكني أري أن الرياضة واضحة فيما ذكرت أخيرا ولكنها ليست واضحة في مصارعة الثيران فإن في الأمثلة التي ذكرتها تنافسا بين قوي بشرية أما في مصارعة الثيران فالتنافس بين قوي بشرية وقوي حيوانية فابتسم وكأنه وجد ما ينتصر به علي ... وقال:

هنا تكون الرياضة في قمتها والقوة في عنفوانها وقد قلت لك إننا نمجد القوة فإذا أضفت إلي هذا ما قلته لك سلفا من أن القوة هنا تقترن بالعدالة علي أساس تكافؤ الفرص بين المصارع والثور اتضح لك أن هذه لعبة شريفة فيها نبل.

وزأرت الجماهير بالتصفيق حين تقدم عدد من المصارعين يحملون السيوف إلي أعلي وبنفس الحماس صفقت الجماهير لثور وهو يندفع إلي الساحة المستديرة وكأن به مسا من جنون!

وبدأت المصارعة بين هؤلاء... والثور!

وانعدمت أول صفة للمصارعة صفة «العدالة» فإن أكثر من واحد بدأوا يسددون إلي الثور طعنات نافذة في رقبته ولم يتركوه إلا بعد أن اجهدوه وفتحوا بأسلحتهم المرهفة ثغرات في جسده جعلت الدماء تنزف منها قطرة قطرة.. وترسم علي أرض الساحة طريقه وهو ينقض عليهم أو يدور راجعا بعدما يصاب!

ودخل المصارع الكبير وارتجت الساحة والناس يصفقون له وانسحب المصارعون الصغار بعد أن توسط هذا العملاق الساحة كان جسده ضامرا وقد ارتدي حلته التقليدية ذات الألوان المزركشة وكان يضع علي رأسه قبعة تشبه قبعة نابليون بونابرت إلا أنها قصيرة..

وبدأت مصارعته للثور بمناوشات اطلقت ضحكات الجماهير حينا وألهبت أكفهم بالتصفيق في أكثر الأحيان وطعن المصارع ثوره عدة طعنات بعد أن أنهك قواه وبدأ الدم يسيل من الثور وأنا أكره رؤية الدماء ولهذا فإن قلبي تحرك اشفاقا علي الثور..

ولكن أعجبني من الجمهور شيء.. اعجبني أنه كان يصفق للثور عندما ينقض انقضاضة سريعة ولكن الثور لم يكن يعرف شيئا فقد كان في معركة حياة أو موت أما الناس الذين يلتفون حوله فلا يعنيه أن يصفقوا له أم يصفقوا لغريمه!

وفي الدقائق الأخيرة صار المصارع والثور وجها لوجه.. وقام الناس من فوق مقاعدهم واشرأبت اعناقهم وكثر صياحهم أما أنا فلم أتحرك فقد كنت أعرف أن نهاية الثور قد حانت وكنت أشفق عليه!

ورأيته وهو يخر علي الأرض بعد أن سدد إليه المصارع طعنة نجلاء!

وانتهت مراسيم قتل الثور المسكين وخرج الناس كالمجانين أما أنا فقد خرجت بعد أن اقسمت ألا أشاهد مصارعة الثيران مرة أخري.. رغم ما فيها من قوة .. وعدالة!

الكواكب 330- 26 نوفمبر 1957