رمضــان الـــذي ...
رمضان الذي .. كانت أحرف اسمه الخمسة ، ترسم ابتسامة الرضا علي الشفاه لمجرد الإشارة إلى اقترابه .. هاهو يخطو حثيثاً لتعانق نفحاته أيامنا ، لكن «بهجته» تبدو باهتة !! رمضان الذي .. كانت أيامه عنواناً علي الروحانيات، صياماً وقياماً، وكأن السماء تقترب من الأرض فتضفي عليها قبساً من قدسيتها، فأجمل مايرتبط بأذهاننا فى الشهر الكريم هو الوجد الذى كان ينتاب الناس حين يستمعون للقرآن الكريم بصوت الشيخ محمد رفعت، وحلاوة الأذان ساعة «المغربية»، أو ابتسامة الشعراوى قبل المغرب وهو يفسر القرآن، وصوت المنشاوى وتلاوة الطبلاوى.. والنقشبندى وتواشيحه.. فلم تعد الحياة فى سهولة زمان ووداعة الماضى.. لكنه فيما يبدو لم يعد كافيا لتنقية الأنفس من أدرانها، والقلوب من أحقادها، فيهل الشهر الكريم علينا، ويرحل، ويعود عاماً بعد الآخر ونحن أبعد مانكون عن روحانياته، وخلقه، نتصارع بالأنياب والأظافر ، على المال والمنصب والنفوذ ومانعتقد أننا بحاجة إليه، وكأننا لم نتعلم من الصيام تنمية القدرة علي الامتناع، على التسامي ، الامتناع عن الحلال ، عن طيبات الطعام والشراب، لتنمية ملكة الاستغناء ، وإدراك تفاهة ما نتصارع عليه كل صباح. رمضان الذي .. كان الأسبوع الأول منه «براحاً» لتبادل التهاني والتبريكات، للأهل والجيران، زملاء العمل ورفاق الدروب، تبادلا حقيقيا للتهاني، العين فى العين واليد قابضة بالود علي اليد ، والابتسامة ملمح غير مصطنع، لم يبق منه إلا «إيموشن» يرافق رسائلنا النصية ، أو حتي تهنئة جماعية عبر أحد وسائل التواصل التقنى، رسالة قد تصل لصديق أو قريب تقطعت به الأسباب وبقى اسمه محفوظا فى «جهات الاتصال» فى الهاتف ، تهنئة لاتعني فى الواقع شيئا. رمضان الذى .. كان يفكرك بحاجات وذكريات.. مهما يعدى عمرك فلها فى قلبك مكان.. لمة العيلة وعيلة العيلة.. طعم البلح والتمر هندى والكنافة.. خير وبركة.. أيام جميلة.. ودموعك فى صلاة التراويح .. وقعدتك فى الحسين حتى مطلع الفجر، ولعب الكرة فى الدورة الرمضانية.. وسبحة أبوك.. وطرحة أمك.. والمسجد مليان بناس كتيرة جوه وبره. رمضان الذي .. كان فرحة اجتماعية خالصة، تنتهي علي بابه الخصومات، ويلتقي علي مائدته المتخاصمون، ويصل الصائم فيه رحمه التي أبعدته عنها مشاغل العمل واللهاث وراء النجاح والتحقق ولقمة العيش أحيانا، يأتي رمضان ليتزاور المتباعدون، وتستعيد الأسر الممتدة روابطها، زيارات عائلية حقيقية يتبادل البشر خلالها الــ«دردشة»، والحكايات، زيارات من «لحم ودم»، وليست زيارات «حداثية» يكتفي الزائر والمزور فيها بالتطلع إلي شاشة هاتفه الذكي لـ90% من وقت الزيارة علي الأقل، وقد يتلقى اتصالا أو اثنين خلال الوقت المتبقى. رمضان الذي .. كان الفن فيه رحلة بحث عن الرقي، وترفيه بريء ، يتراقص الصغار فيه علي نغمات «الفوازير»، ويرددون تترات «الحلمية» أو تاخذهم الحماسة مع موسيقي «الهجان» .. ولم يكن أبدا حشوا لآلالف الساعات الفضائية بالغث والتافه من حكايات البلطجية وسخافات المقالب المصطنعة . كل هذا كان ومازال مرتبطا بوجدان الكثير منا بذكريات رمضان زمان.. للأسف ولت الذكريات العزيزة على القلوب، وبات الناس فى عداء مع الزمان والمكان. رائحة رمضان تفوح فى الأفق.. اللهم بلغنا أيامه وجميع أحبابنا. رمضان الذي .. لن أتوقف عن الحلم بأن استعيده أو يستعيدني، أياما شفافة، روحانية ، إنسانية ، رائقة، راقية، إجازة قصيرة من أسوأ ما فينا.