بترجمة للعربية أنجزها حسام إبراهيم، صدرت عن دار "المدى" رواية "كل شيء أنا لا أتذكره"، التي أبدعها يونس حسن خميري وهو كاتب سويدي مُنحدر من أب تونسي الأصل.
"من أنا؟"، هو سؤال الوجع الذي يطرحه الكاتب في هذه الرواية التي ترجمت من قبل لأكثر من 20 لغة، عبر رحلة مدهشة بمرونتها التي تتسع للكثير: الذات والآخر والكينونة والذاكرة والذكريات والتحولات والحب والفقد والأصوات المُتعددة.
ومؤلف هذه الرواية الذي ولد عام 1978 في ستوكهولم لأب تونسي الأصل وأم سويدية، مهموم بقضايا المهاجرين وإشكاليات اللاجئين منذ روايته الأولى "عين حمراء" التي صدرت عام 2003، وتحولت إلى فيلم سينمائي، ويعد من أهم الأصوات الأدبية في أوروبا.
وتتناول الرواية مشكلات الهوية والتباينات الثقافية والمواطنة لهؤلاء الذين وفدوا من بلدان أخرى ولم تنته معاناتهم حتى بالحصول على جنسية السويد أو غيرها من البلدان الأوروبية، ومن ثم فإن الكاتب يجهر حتى في مقابلاته الصحفية بأسئلة مثل: ما معنى السويدي الأصيل وكيف يكون هذا السويدي الأصيل وما الصعوبات التي تعيق اندماج المهاجرين وكيف يكون الاندماج في عالم يتسم بالعولمة وهل يمكن خلق هوية بعيدا عن الأنماط المعتادة؟.
ومن المفارقات الدالة أن يونس حسن خميري وهو في الأصل ابن مهاجر تونسي للسويد ويجري دوما تذكير من هو مثله "بأنه لا يبدو سويديا"، ووصف مرارًا في سياق تتويجه بجوائز أدبية سويدية بأنه قدم اسهامات جليلة للغة السويدية لما تتمتع به إبداعاته من بريق لغوي وقدرة على إظهار الطاقة الخلاقة لتلك اللغة، وعندما منحته الإذاعة هناك جائزتها الأدبية "رومان بريس" عن روايته "مونتي كور"، وصفته في حيثيات الجائزة المرموقة بأنه "مهندس لغة جديدة يترك لمسته على كل مفردة في الرواية وأبطالها وأحداثها بشكل يظهر السويد كبلد ومجتمع متنوع وفريد من نوعه ومنسجم مع نفسه".
ومع كاتب سويدي من أصول مهاجرة وتدخل إشكاليات وقضايا الهوية ونقد البنية الذهنية لمجتمعه الذي يصعب عليه قبول الآخر، فإننا نرى تلك الإشكاليات بمنظور جديد، ونختبر مصداقية مقولات مثل: الهوية ليست مجرد الوعي وانما هي أيضا اللاوعي، ليست المعلن وحده وإنما هي كذلك المكبوت، ليست المتحقق وحده وإنما هي كذلك المشروع الآخذ في التحقق أو الفشل.
فصاحب رواية "كل شيء أنا لا أتذكره" مهموم بحكم واقعه بأسئلة الهوية كمعنى في صور متحركة دائما وجدل بين "ما هو وما يكون"، وله تآملات عميقة في "الذات والعالم الداخلي"، و"الزمن والأبدية"، و"اللغة"، و"العلاقة بين اللفظ والمعنى"، وهو يقول عن نفسه أنه نشأ في بيت يجمع بين السويدية والعربية والإنجليزية والفرنسية، لافتا إلى أن "اللغات المتعددة ضاعفت قدرته على الابتكارات اللغوية فيما تنهض اللغة بدور محوري في رواياته".
وكما يقول المترجم حسام إبراهيم - لوكالة أنباء الشرق الأوسط - إن رواية "كل شيء أنا لا أتذكره" تعكس ولع الكاتب بالتجريب والبحث عن إجابات مغايرة لسؤال "المحتوى والشكل الروائي"، وباقتدار يسبغ على العمل أحيانا "مناخا يشيع نوعا من المتاهة الجميلة" التي قد لا يود القارئ الخروج منها، فيما البنية الروائية المتجاوزة هنا للجدل التقليدي حول الشكل والمحتوى تجسد جدلا جديدا بين معطيات وخطابات متصارعة ومتشابكة ومتقاطعة ومتداخلة في واقع متجاوز ولا يكف عن الحراك.
وفي هذه الرواية إجابات لأسئلة مطروحة هنا وهناك حول البنية الروائية التي تقوم على تعددية المنظور والأصوات وقد تثير بعض أجزائها شكوكا في أجزاء أخرى ضمن "عالم يفتقر لليقين" ناهيك عن تغير مفهوم "الحبكة الروائية" والاستغناء عن المفهوم القديم لهذه الحبكة لصالح بدائل وعلاقات جديدة تعمد أحيانا لجعل "التناقض" سبيلا لخلق التماسك الداخلي للنص الذي قد يذوب فيه الزمن عبر المراوحات والحركة الحرة بين الأزمنة والأمكنة.
وثمة منطق مغاير - يضيف حسام إبراهيم - لما هو تقليدي وثمة رفض "للنص المغلق" ليحل محله "النص المفتوح" والمنطق القائم على الجدل وترجيع الأصداء وخلق ذاكرة النص الداخلية والتتابع النوعي بمنطق جدلي يختلف عن المنطق السببي ويخلق علاقات وطيدة بين الأشياء والجزئيات والشخصيات والمشاعر والمواقف والأماكن التي قد تبدو لأول وهلة وكأن لاعلاقة حقيقية بينها.
ويلاحظ حسام إبراهيم كثرة الدلالات التي أراد المؤلف أن يلفت نظر المتلقي إليها بالأدوات والأساليب والتوازيات والاستراتيجيات النصية التي استخدمها في هذه الرواية وحركية الرؤية وتعدد منظوراتها وفقدان السيطرة والاتجاه والفهم وحتى تدخلاته القصدية في سياق السرد رغم انه ما كان أبدا بالراوي العليم وما كانت الشخصيات تخضع لسيطرته.
ويضيف المترجم والناقد الأدبي القدير: إنه الانتصار لمنطق التساؤل والاكتشاف والحراك بدلا من الاستسلام للتنميط والثبات والتصورات البليدة التي تتوهم معرفة كل شيء، ففي عالمنا هذا بشبكية علاقاته المعقدة والملغزة طبيعي أن تعاني حتى الشخصية الروائية من مشاكل في طرح "ذاتها" على الورق وأن تكون نهبا لتناقضات تبحث عن حل كما يتبدى في تلك الرواية.
ويتابع: طبيعي في مشهد كهذا أن تقوم الرواية في علاقتها بالواقع على أسس معرفية مغايرة لتلك التي أقام عليها الأدب التقليدي علاقاته بالواقع الذي كان.. ببساطة تغيرت مكونات الواقع فكان لا بد أن تتغير مكونات النص وايقاعات اللغة كما يتجلى في رواية "كل شيء أنا لا أتذكره"، حيث تجد تقنيات الرواية جزءا من لحمها الحي وحيث يتحقق المحتوى بالبنية.
وإذا كان يونس حسن خميري "صاحب اقتراحات مغايرة في الكتابة والسرد المختلف والبنية الروائية المرنة ذات الطبيعة الدائرية"، والصياغات القادرة على التعبير عن سيولة الرؤية كما يتجلى بوضوح في تلك الرواية الحافلة بالايحاءات والايماءات والاشارات، فإنه يمتلك كما يؤكد حسام إبراهيم "الجرأة الفنية" التي تأتي في سياقات إبداعية تذهب أحيانا للحدود القصوى بلغة الفن الروائي وحركة أمواجه التي تأتي من أفق لا ينتهي وتتجه نحو أفق لا ينتهي، فيما ينتظرها القارئ ويطلب منها المزيد بتراكيبها المدهشة وأصواتها الجامحة ولغتها المتفردة وتقنياتها التي أنقذها الفن من الفجاجة او السماجة مع الحفاوة بمغامرة المخيلة.
ويرى إبراهيم أن تلك رواية تسعى لتحرير الذاكرة من معتقل العقل الجاهز بماضويته ومسلماته فيما تبحث عن حيز مفتوح على الحرية بالطعن في النمذجة وخلخلة الأنماط المسبقة والترحيب بالكشف عن المضمر والمحتمل والتحريض على البوح والاعتراف.
ومن هنا كما يلاحظ إبراهيم، ليس من الغريب أن تكون ابداعات يونس حسن خميري أحد أهم رهانات الإبداع الروائي السويدي في زمن ما بعد الحداثة الغربي، ومن المفيد حقا لنا أن ننفتح على تجربته التي تشكل الآن علامة مهمة في سياق تنوع التجارب السردية العالمية وتحولاتها على مستوى النص والواقع والخطاب وتطور الأشكال الروائية وتقنياتها الجديدة التي غيرت وتغير من طبيعة التلقي ذاتها.