د. علي زين العابدين الحسيني
عاب علينا أصحابنا من أرباب التعليم العام فيما بعدُ كيف نقف هذه الساعات الطوال مع حرارة الشمس لاستقبال شيخ الأزهر الراحل الإمام جاد الحق علي جاد الحق على الطريق العام، وهؤلاء حقاً معذورون، فلا يعرفون انتماء الأزهريين لأزهرهم، ولم يتعرفوا على أسرار ارتباط التلاميذ بأساتذتهم.
كان شيخ الأزهر ماراً على هذا الطريق لافتتاح معهد أزهريّ في إحدى القرى المجاورة، وكان معهدنا -كغيره من المعاهد- في استقباله بشيخه وأساتذته وإدارييه في فرحةٍ عارمة وسعادةٍ بالغة، وكمُلت السعادة حينما توقفتْ سيارة الإمام الأكبر للسلام على أبنائه الطلبة ومحبيه.
صرتُ بعد ذلك أتشرف وأبالغ في الافتخار بهذه الحادثة، فحينما تأتي الفرصة أو يجري حديث عن الأزهر وشيوخه أذكر لجليسي أنّي رأيت شيخ الأزهر جاد الحق، ومن نعم الله عليّ أنّي تشرفتُ بالأخذ عن شيخيّ الأزهر فضيلة الإمام المرحوم محمد سيد الطنطاوي والإمام الأكبر الشريف أحمد الطيب، وحضرتُ بعض حديثهما.
هذه الحادثة ذكرتني بما أخبرني به أستاذي الراوية د. محمد رجب البيومي، وذكرها في كتابه "من أعلام العصر كيف تعرفت على هؤلاء"، حينما حضر إلى القاهرة العلامة الكبير الأستاذ عبد القادر المغربي نائب رئيس المجمع العلمي بدمشق وعضو مجمع اللغة العربية، والتقاه أستاذنا البيوميّ في القاهرة.
كان المغربي على موعدٍ للقاء بعض العلماء وأحبّ أن يكون معه هذا الشاب الأزهريّ، فركبا سيارة، وأخذت السيارة تأخذ بعض شوارع القاهرة حتى تجاوزت العمران والمناطق المزدحمة، فوصلا إلى منطقة "عزبة النخل"، وهي من ضواحي القاهرة آنذاك، ووقفت السيارة أمام منزل صغير، فدخلا البيت بعد الاستئذان بلطفٍ حتى وصلا بهما المقام إلى حلقة علمية.
فوجئ البيوميّ بهذا المجلس وهيبته، حيث رأى رسماً للدرس لم يكن يعرفه من قبل، فنظر إلى عالم كبير في السن عليه من آثار الوقار ما عليه، جالساً على كرسيه متربعاً، ومطرقاً رأسه لسماع كل كلمة، وتحت يديه رجل آخر عالم مهيب يجلس على الأرض، يقرأ من كتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس في إجلال تام ووقار منقطع النظير.
جلسا للاستماع قرابة ساعة، ثم أنهى القارئ قراءته، وصافح الشيخ المسمِع، وقبل خروجه اتجه إلى الشيخين وصافحهما، واتجه كذلك شيخنا البيومي وأستاذه المغربي للسلام على الشيخ الكبير مقبلان يديه كعادة العلماء في مصر.
خرج الأستاذ البيومي مع شيخه المغربي من المجلس في حيرةٍ تامةٍ، ولديه تساؤلات عديدة.
ما هذا المجلس؟
ومن الشيخ المسمِع؟
وماذا عن هذا الشيخ القارئ المسن؟
رأى المغربي ما في عينيه من تساؤلات، فبادر بالإجابة عما في نفسه، وقال له: ألا تعرف فضيلة العالم يوسف الدجويّ، ثم ألستَ على معرفةٍ بوكيل المشيخة الإسلامية الشيخ العالم محمد زاهد الكوثري.
أسهب المغربي في حديثه بأن لهذه المجالس معنى؛ لأنه حفاظ على سلسلة الإسناد إلى موطأ الإمام مالك بن أنس، حيث لم تنقطع سلسلة الإسناد، فقد روى الشيخ يوسف الدجوي الموطأ عن شيخه شيخ الأزهر سليم البشري، والأخير رواه عن شيخه خطيب الجامع الأزهر إبراهيم السقا، وأخذه السقا عن الشيخ الأمير الصغير إلى أن تتصل السلسلة إلى الإمام مالك، عن نافعٍ، عن الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
هذا لمن لم يعرفه هو حقيقة الانتماء، وهو النسب العلميّ الفريد، فمصافحة الشيخ لتلميذه في حلقات العلم بالأزهر الشريف كانت شاهدة على اتصال الأجيال بعضها ببعض، ولم تنقطع منذ بدتْ معالم الدراسة في حلقاته المباركة، وهو سر من الأسرار الباقية لرفعة شأنه وبقاء ذكره، فالكتب الأزهرية في التدريس معروفة ومتوارثة من مئات السنين يتناقلها الخلف عن السلف.
يُضاف إلى الكتب الموروثة الفهمُ الصحيح الأزهريّ للمسائل العلمية، فهو فهمٌ أيضاً متسلسلٌ، وهذه العقلية الإسنادية وهذا الفهم المتسلسل يعكسان حقيقة الانتماء عند السادة الأزهريين بما يعزّ وجوده عند غيرهم.
يذكر أن دكتور علي زين العابدين الحسيني، كاتب وباحث وقاص مصري، حاصل على الإجازة العالية من الأزهر، ودكتوراة الفلسفة في الدراسات الإسلامية بجامعة ملايا بماليزيا، وهو أستاذ الفقه وأصوله، وعضو "رابطة الأدب الحديث" أبوللو سابقاً بمصر، وعضو ملتقى السرد العربي بالقاهرة، وله عدة مؤلفات مطبوعة، وبحوث أكاديمية محكمة، ومقالات في الصحافة محلياً وعَربياً.