بقلم – أحمد بان
من أهم أسباب تماسك المجتمعات هو شيوع ثقافة التسامح والقبول والانفتاح بين الناس، بصرف النظر عن معتقداتهم أو أفكارهم التى لايتدخل القانون فى طبيعتها، إلا إذا اقترنت بإيذاء الإنسان بدنا أو نفسا أو مالا أو حقوقا.
وفى مصر حرص المشرع المصرى على حماية الحق فى الاعتقاد مصونا من أى تهديد أو انتقاص، واعتبر ذلك من الثوابت الدستورية العابرة للأنظمة والدول.
تميزت سبيكة هذا الشعب المصرى العظيم بتباينات وطبقات مختلفة، طبعت بطابع العصور التى عاشها هذا الشعب بمسلميه وأقباطه، بين حضارة فرعونية ويونانية ومسيحية وإسلامية. حتى أصبح الواقع الاجتماعى المصرى فى التعايش مثالا يحتذى، ولم تعرف مصر تمايزات مزعجة تبرر الاقتتال بين الناس بسبب المعتقدات الدينية.
أما الغرب الذى يدعى الاستنارة فقد عرف محاكم التفتيش والحروب الدينية، سواء فيما حركه من حملات على العالم الإسلامى تحت راية الصليب، أو حروب بين أتباع الدين المسيحى الواحد على قاعدة الخلاف المذهبى.
أما نحن المسلمين فلم نكره أحدا على اتباع ديننا أبدا. التزاما بمراد الله الذى قرر أنه « لاإكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى » «ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم « لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر إنا إلينا إيابهم ثم إنا علينا حسابهم »، إذن الله تبارك وتعالى هو الذى يحكم بين خلقه يوم القيامة، الفقيه أو الداعية عندنا لايصدر أحكاما يكفر بها طائفة أو أخرى، والله تبارك وتعالى حتى مع الكافرين وليس أهل الكتاب أوصانا بأ لا نسىء إلى معتقداتهم مع علمنا بأنها فاسدة « ولاتسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون »
ربما قدمت بهذه المقدمة لأتعرض لمناقشة موضوع شغل الرأى العام خلال الآونة الأخيرة ارتبط بما نسب إلى الدكتور سالم عبدالجليل الداعية المعروف ووكيل وزارة الأوقاف الأسبق من إساءة لإخوتنا المسيحيين ومعتقداتهم، والتى وردت ضمن درس دينى ألقاه الشيخ فى قناة المحور الفضائية فى سياق شرح الآية الكريمة من سورة آل عمران التى تقول « ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين »
بداية يجب الإقرار بأن المناخ العام ثقافيا وفكريا فى مصر، أصابه ما أصاب كل مناحى حياتنا من تراجع وانحطاط جعل أعصاب الجميع مكشوفة وحساسة جدا تجاه أى أمر بحق أو بباطل فى سياق حالة من التربص والتحفز.
وهو ما ساهم فى تضخيم أمور ما ينبغى أن تضخم، والتقليل من أمور أخرى جوهرية يجب أن تناقش بتوسع.
فى المجتمعات المتقدمة يحظر على أى إنسان أن يسخر من معتقدات أو أفكار شخص، سواء تعلقت تلك المعتقدات بدينه أو معتقده الشخصى، الذى قد لايكون له صلة بالعقل أو المنطق أو رسالات الله السماوية، لكنه من حقه أن يعتقد ما يشاء دون أن ينكر عليه أحد أو جهة، إلا إذا تعارضت طقوسه أو ممارساته مع ما يسمى بالنظام العام فى المجتمع، وهو مفهوم متغير من مجتمع إلى آخر لكنه يبقى له ملامح يمكن التعرف على حدودها بيسر.
فى الولايات المتحدة الأمريكية المجتمع الذى قام على أكتاف المهاجرين من كل دول العالم توجد آلاف المعتقدات، لكن يوجد نظام قانونى واحد لكل ولاية يتقيد به الجميع ومن ثم تندر قضايا إزدراء الأديان.
جريمة إزدراء الأديان التى حوكم تحت طائلتها من تناول الإسلام أو المسيحية لم تحظ فى تقديرى حتى الآن بتوصيف قانونى وعلمى صحيح، بدليل أنه سيحاكم شخص مثل إسلام بحيرى مع شخص مثل د. سالم عبد الجليل فى جريمة واحدة، هى إزدراء الأديان ولو أنصفنا لن نجد إيا من الشخصين توفرت له الإرادة للمساس بأى دين أو إزدرائه، لكن أعصابنا مكشوفة ووعينا مشوش إلى درجة تجعلنا نتحسس مطرقة القاضى فى مواجهة كل أمر.
لاشك أن هناك ألغاما تعترض وحدتنا الوطنية وتهددها، لكن لا أظن أن من بينها ما قاله الشيخ سالم عبد الجليل الذى فرق بين الحكم على معتقد شخص والمساس بحقوقه القانونية والاجتماعية، وهو ما حاول الرجل أن يؤكده بقوله «إن ماقاله كان ضمن تفسير للقرآن الكريم بدأ قبل أكثر من عام، أوصله إلى شرح آية من سورة آل عمران التى تقول « ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين» ،وحيث إن البعض اعتبر فيه جرحا لمشاعر الإخوة المسيحيين فأنا عن جرح المشاعر اعتذر ،وأكرر تأكيدى على ما أكدته فى نفس الحلقة المشار إليها الحكم الشرعى بفساد عقيدة غير المسلمين فى تصورنا ،كما أن عقيدتنا فاسدة فى تصورهم لايعنى استحلالا للدم أو العرض أو المال بأى حال من الأحوال ،وقلت هذا على الهواء وأكدته منذ أسابيع حين عزيت على الهواء قسيسا كان ضيفا على القناة يوم التفجيرات الإرهابية الآثمة ،متابعا بقوله كلمة الكفر الواردة فى القرآن الكريم تعنى المغايرة والتغطية ،وليس مقصودا بها من قريب أو من بعيد المعنى المتداول فى مصر حديثا من كون كافر وصفا مهينا لاحتقار الشخص السيىء الخلق والفاجر فى الظلم ،فهذا المعنى بهذه الكلمة ليس فى اللغة العربية ولم يكن حتى نزول الوحى فكيف يكون فى القرآن الكريم إهانة لغير المسلمين، وهو يحرم علينا سب أصنام المشركين فكيف بالعقل والمنطق سيستخدم كلمة فيها إهانة وسب لإنسان ،فضلا عن أنه من أهل الكتاب ، إن للإنسان فى ديننا حريته فى اعتناق مايشاء ولايجوز إكراه أحد على تغيير معتقده ،والحساب على الله تعالى بدليل أن الإسلام يأمرنا بحماية كنائس المسيحيين ومعابد اليهود ،رغم أنه يقال فيها عن النبى صلى الله عليه وسلم كلام عكس ما نعتقده تماما من كونه الصادق الأمين ،وهذا أكبر دليل على أن دين الله لايبيح الظلم ولا القتل لهم أو لغيرهم ،بل قد أوصى النبى بأهل مصر خيرا فاحترامهم مؤكد وإكرامهم أوجب ،أما فى دنيا الناس فنتعامل بالإخاء الإنسانى والمحبة والبر ونتعايش بما تعنيه الكلمة من معنى ،حتى أن الشريعة الغراء تبيح لنا أن نأكل من ذبائح أهل الكتاب ونتزوج من نسائهم إذا توافق الأهل ،مؤكدا مرة أخرى أن مسألة التعايش بيننا وبين أبناء الوطن من إخوتنا المسيحيين بل من بين أبناء الجنس البشرى ليست محل بحث أو نقاش»
يبدو منطق الرجل معقولا ومقبولا ،فلماذا فجرت كلماته كل هذا الجدل إلى حد رفع دعوى بازدراء الأديان ؟
هل المطلوب إلغاء بعض آيات القرآن ليرضى بعض المتطرفين هنا أو هناك ؟
هل المطلوب تمييع عقائد الناس أم التأكيد على التمايز بين المعتقدات الذى لاينفى أننا جميعا نخضع لنظام قانونى واحد، لاتفرقة فيه بين مسلم وغير مسلم أما المعتقدات فأمر لايقبل التعديل أو الإلغاء أو الإسقاط ،بدعوى حماية التنوع والتعايش .. بالعكس المضى فى هذا السبيل هو الذى سيثير العداوات والإحن ويعزز خطاب التطرف .
يجب أن يتوقف الجميع عن المساس بثوابت الدين وحقائقه التى لاتخضع لأى مساومة ،الله تبارك وتعالى حتى مع من كفر به دعا نبيه للإقرار بهذا التمايز بقوله « قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ،ثم ختم بالقول لكم دينكم ولى دين فاعتبر للقوم دينا رغم إنكارهم لوجود الله .
وحدتنا الوطنية لن تتأتى بأن يكون الناس جميعا على دين واحد أو معتقد واحد ،بل فى خضوعنا لنظام قانونى واحد منضبط تحدد فيه الجريمة بشكل واضح ،ويختفى فيه حال التربص والتحفز الذى يقسم الناس إلى معسكرات متناحرة .
إن خطاب داعش هو المستفيد مما يجرى الآن ،الإسلام له ثوابت يقينية يؤمن بها أتباعه والمسيحية لها ثوابت يؤمن بها أتباعها ،يجب أن نقر بالخلاف ونقبل به ولا يمنعنا ذلك أن نعيش أخوة فى الإنسانية والوطن ،على قاعدة التعارف والتكافل والتعاون التى حثنا عليها ديننا وأكدت عليها قوانينا ودساتيرنا .الوحدة الوطنية لا تعنى إلغاء التمايز فى المعتقد أو الطقوس أو الأفكار الدينية بل تعنى التعاون فى المشترك دينيا ووطنيا .
بعيدا عن دعاوى الحسبة المتبادلة بحق أو بباطل ، يبقى تعزيز المواطنة الحقيقية هو الضمانة لكى تمر أى أفكار دون إحداث جلبة أو ضجيج فاسد .
ماسيعزز المواطنة هو وجود أحزاب سياسية تجمع كل المواطنين دون نظر للدين أو المعتقد ، بل للقيم الوطنية المشتركة والمصالح العليا لهذا البلد الذى يجعل التدين أمرا شخصيا واختيارا خاصا لكل شخص دون انتقاص أو ازدراء أو تعريض من أى لون ،وفق توصيف قانونى مانع وصارم لا يجعل الأمر نهبا لإعلام ضعيف يبحث عن الإثارة حتى لو تناولت معتقدات الناس .
لنتعاون مسلمين ومسيحيين على استعادة نشر مكارم الأخلاق التى يحتاجها مجتمعنا ،والتى تأتى فى النهاية ترجمة أمينة لمعتقداتنا كالصدق والإخلاص وإتقان العمل بدأب وحب الناس كل الناس .
مصر لا تحتاج ألغاما جديدة تهدد وحدتنا الوطنية ،كفانا خطاب داعش ومنطقه فلا توسعوا دائرة الأعداء بضم المستنيرين إلى هذا المعسكر عمدا أو جهلا ، ثم التباكى بعدها على الوحدة الوطنية .