الخصخصة.. عود على بدء!
بقلم – د. سلوى العنترى
جوهرة التاج فى أى برنامج للاقتراض من صندوق النقد الدولى هو خصخصة المشروعات العامة وبيع الأصول الوطنية للأجانب، وثائق اتفاقية قرض الصندوق لمصر توضح أن بيع الأصول المملوكة للدولة تشكل ركنا هاما من برنامج القرض. تعهدات مصر فى الاتفاقية تنص على طرح حصص فى المشروعات العامة للبيع فى سوق الأوراق المالية، على النحو الذى يجتذب استثمارات قيمتها ٥ مليارات دولار على مدى ٣ سنوات. كما تنص على أن التركيز سيتم بشكل مبدئى على قطاعات البنوك والخدمات المالية، البترول والغاز، البتر وكيماويات، مواد البناء، شركات التطوير العقارى.
وعلى الرغم من تعدد القطاعات التى تشملها قائمة المشروعات التى ينتظر طرحها للخصخصة، فإن قطاع البترول يمثل فيما يبدو جوهرة التاج بين هذه القطاعات. وثائق القرض تتضمن تعهدا من الحكومة المصرية بتقديم خطة عمل للإصلاح الفنى والمالى للهيئة العامة للبترول. التوجهات الرئيسية فى هذا الشأن تتضمن ليس فقط تخفيض النفقات وتحسين كفاءة التشغيل، وإنما أيضا طرح حصص من رؤوس أموال عدد من الشركات التابعة للهيئة العامة للبترول للبيع فى البورصة. الأخبار التى تناقلتها الصحف خلال الشهرين الماضيين توضح السير فى إجراءات طرح حصة تصل إلى ٣٠٪ من رأسمال شركة آموك. استهداف البيع لرأس المال الأجنبى يتضح من تخصيص ١٠٪ من الأسهم يتم طرحها فى بورصة لندن من خلال آلية شهادات الإيداع الدولية.
يلاحظ أن جزءا مهما من إصرار صندوق النقد الدولى على إلغاء دعم المنتجات البترولية يرتبط ارتباطا وثيقا بتوفير الشروط المواتية لخصخصة شركات البترول. المستثمر الخاص يستهدف تعظيم الربح ولن يقبل على شراء أسهم الشركات المطروحة إذا كانت المنتجات البترولية تباع بأقل من التكلفة، تعهدات الحكومة فى اتفاقية قرض الصندوق تنص على أن يتم رفع سعر بيع المنتجات البترولية من مستوياتها الحالية التى تمثل ٥٦٪ من تكلفة الإنتاج لتصل إلى ١٠٠٪ من تلك التكلفة فى يونيه ٢٠١٩. ولكن الأمر لن يقتصر على ذلك إذا تم بيع حصص من شركات البترول للقطاعين الخاص المحلى والأجنبى. المستثمر الخاص يريد أن يعظم أرباحه.. فهل سيقبل البيع فى السوق المحلى بسعر أقل من السعر العالمى؟ خصخصة قطاع البترول ستترجم إلى بيع المنتجات البترولية بالأسعار العالمية، بكل ما يعنيه ذلك من ارتفاعات فى تكلفة إنتاج ونقل السلع والخدمات المختلفة والتهاب المستوى العام للأسعار.
وبعيدا عن قرض الصندوق وتعهداته نجد أن الاتفاقية الإطارية المبرمة بين الحكومة المصرية والبنك الدولى فى نوفمبر ٢٠١٥ قد حرصت على تأكيد أن المشروعات المملوكة للدولة فشلت فشلا ذريعا فى الوفاء بحاجتين أساسيتين للاقتصاد المصرى، أولهما خلق وظائف كريمة، وثانيهما تقديم خدمات عامة جيدة للمواطنين. وإزاء هذا الوضع يتعهد البنك الدولى بتقديم معونة فنية للحكومة المصرية فى عملية إعادة هيكلة القطاع العام.
تجاربنا السابقة تقول إن مصطلح “إعادة الهيكلة” فى مصر يعد بمثابة الاسم الكودى للخصخصة. طبعا وزير قطاع الأعمال العام لا يكف عن التأكيد بأنه لا توجد أى نية لبيع أو تصفية المشروعات العامة، وأن المستهدف هو الاستفادة من الشركات الرابحة وذات السمعة المالية الطيبة فى طرح جزء من رأسمالها بنسب تتراوح بين ١٠٪ و ١٥٪. على أن يتم استغلال هذه الأموال فى تطوير الشركات وفى دعم الشركات الشقيقة التى تعانى من أزمات سيولة.
تصريحات المسئولين عن استخدام البورصة فى توفير التمويل اللازم للمشروعات العامة وزيادة رؤوس أموالها، يذكرنا بما قيل لنا فى ظل نظام مبارك بأن الدافع وراء خصخصة الشركات الرابحة هو الرغبة فى تطويرها وضخ رؤوس أموال إضافية واستثمارات جديدة تؤدى إلى زيادة طاقتها الإنتاجية وتوسيع نشاطها. طبعا تم التأكيد آنذاك بأن عقود البيع تشترط أن يستغل المشترى أراضى وأصول الشركات المباعة فى نفس مجال نشاطها، وأن يلتزم بالحفاظ على العمالة، بل وصقل مهاراتها بمزيد من التدريب والتطوير. إلا أن الواقع الفعلى للشركات المباعة قد أسفر عن سيناريو متكرر لتقليص النشاط وبيع الأراضى والأصول العامة وتفكيك البنية الإنتاجية وفصل العمال وإجبارهم على الخروج إلى المعاش المبكر. الشعب لم ينس ما حدث لشركة المراجل البخارية وطنطا للكتان وعمر أفندى.. وعشرات الشركات غيرها.
كلنا يذكر العصر الذهبى لبورصتنا المجيدة أيام حكومة نظيف عندما مثلت الأداة الرئيسية لنقل ملكية مشروعاتنا العامة للأجانب وتفكيك بنيتنا الإنتاجية وسيطرة الاحتكارات الخاصة المحلية والأجنبية على قطاعات صناعية استراتيجية مثل الأسمنت والحديد والصلب والمواد الغذائية والأدوية. برنامج الطروحات الذى تبشرنا به الحكومة حاليا يتوجه إلى المستثمرين الأجانب برسالة جديدة مفادها، إذا كنتم غير متحمسين لإقامة مشروعات جديدة، فسوف نسهل عليكم الأمر ونبيع لكم ما نملكه بالفعل من مشروعات ناجحة. البورصة موجودة ويمكن أن نتيح لكم من خلالها الاستحواذ على ما تريدون.. ألم نفعل ذلك مع شركة بسكو مصر ومستشفى كليوباترا ومستشفى القاهرة التخصصى ومعمل البرج وغيرها من مشروعاتنا الصناعية والخدمية؟ المهم هو زيادة تدفقات رؤوس الأموال الأجنبية إلى البورصة المصرية حتى ولو كان المقابل هو بيع أصولنا الوطنية.
نحن نعلم أن إعادة إحياء العديد من المشروعات العامة تتطلب بالفعل ضخ رؤوس أموال لمواجهة احتياجات التطوير وإعادة الهيكلة وتحديث الآلات والمعدات. لو خرجت علينا الحكومة تقول إن لديها خطة واضحة المعالم بتوقيتات محددة لإعادة هيكلة المشروعات العامة، وإدارة مختلفة تتمتع بالكفاءة والنزاهة، وأنها تطلب من الشعب الاكتتاب فى توفير التمويل اللازم لسداد المديونيات القائمة على تلك المشروعات العامة وتدعيم رؤوس أموالها، لقلنا لها ألف مرحبا.
وحيث إن الاكتتاب فى أسهم زيادة رأس المال يمثل مشاركة فى ملكية المشروعات المطروحة، وحتى لا تتكرر هيمنة الاحتكارات على مقدراتنا الوطنية، فإن ترحيبنا بالمشاركة فى الاكتتاب سيقترن بشرطين.. أولهما هو الحفاظ على طبيعة المشروع كملكية عامة، ووضع حد أقصى للزيادة المطروحة، بحيث لا تمثل إلا نسبة أقلية من رأسمال الشركة ككل.. وثانيهما هو وضع حد أقصى للمكتتب الواحد، حتى لا نفاجأ بأن هناك مستثمرا فردا يملك حصة مؤثرة من رأسمال شركة عامة.
المؤكد أن هناك فرقا شاسعا بين العمل على إحياء مشروعاتنا الوطنية واجتذاب الاستثمارات الجديدة لتوسيع طاقتنا الإنتاجية ورفع معدلات التشغيل، وبين بيع أصولنا الوطنية وهيمنة الاحتكارات الخاصة على مقدراتنا.