د. حسين علي ,
انشغلت الفلسفة بتحليل اللغة، بخاصةِ عند أصحاب الفلسفة التحليلية، وأنصار الوضعية المنطقية، التي ازدهرت في النصف الأول من القرن الماضي، لتحديد العبارات التي لها معنى وفرزها عن تلك الخالية من المعنى، ودارت معارك طاحنة حول هذا الموضوع داخل الأبراج العاجية بين الفلاسفة بعضهم وبعض، ولم يُشْرَك فيها رجل الشارع، كأن الأمر لا يعنيه، مع أنها قضية بالغة الأهمية بالنسبة له، لأنها تدخل في صميم تكوين وعيه الثقافي.. والسؤال هو: هل كل العبارات التي تتردد على الألسن لها معنى؟ أم أن هناك جملاً وعبارات كثيرة نتشدق بها ونظنها صحيحة، وهي في حقيقة الأمر لا معنى لها؟
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال عن المعيار الذي بموجبه نحدد ما إذا كانت الجملة أو العبارة لها معنى أو خالية من المعنى. كيف نعرف أن هذه العبارة أو تلك صحيحة أو غير صحيحة؟ كيف نحدد ما إذا كان لها معنى أم لا؟ رأى بعض الفلاسفة المعاصرين (بخاصةٍ جماعة فيينا أصحاب الاتجاه الوضعي المنطقي) أن معيار صدق الجملة والعبارة هو مدى تطابقها مع الواقع. فإذا قلت: «إن الباب مفتوح» ونظرنا إلى الباب ووجدناه بالفعل مفتوحًا، فهذه عبارة صادقة ولها معنى، أما إذا كان الواقع بخلاف ذلك (أي كان مغلقًا) فهذه عبارة لها معنى أيضًا، وإن كانت كاذبة. ووفقًا للمصطلح المنطقي تسمى هذه العبارة «قضية» Proposition، وليست كل جملة أو عبارة هى «قضية». إن «القضية» هى التي يمكننا أن نحكم عليها بالصدق أو الكذب، أي التي يمكننا أن نتحقق من صدقها أو كذبها، فإذا قلت «الشمس ساطعة» فهذه قضية، لأنه يمكننا التحقق من صدقها أو كذبها، ولو قلت « 2 + 2 = 4 » فهذه أيضًا قضية صادقة، لأن هناك اتساقًا (أي عدم تناقض) بين طرفيها، أما إذا قلت: « 2 + 2 = 5»، فهذه «قضية» كاذبة، لأنه لا يوجد اتساق (أي يوجد تناقض) بين طرفيها.
وإذا قلت: « يوجد داخل هذه الحقيبة 3 كتب»، فهذه قضية لها معنى، ويمكنني التحقق من صدقها أو كذبها، عن طريق القيام بفتحها، فإذا وجدت بداخلها 3 كتب فهى صادقة، أما إذا كان بداخلها أكثر أو أقل من 3 كتب فهى كاذبة. في حين لو قلت: «يوجد داخل هذه الحقيبة 3 عفاريت»، فهذه ليست قضية، وهى جملة أو عبارة تخلو من المعنى، لماذا؟ لأنه ليس في وسعي التحقق من صدق أو كذب هذه العبارة، ففي حالة لو قمت بفتح الحقيبة ووجدتها خالية من العفاريت تمامًا، فمن الطبيعي في هذه الحالة ألا أرى شيئًا، لأنه لا يوجد أصلاً شيء. أما إذا كان بداخلها 3 عفاريت فإنني في هذه الحالة أيضًا لن أرى شيئًا، لأن من خصائص العفاريت أنها لا تُرى. وبالتالي في الحالتين لن أرى شيئًا، وسأعجز عن التحقق من صدقها أو كذبها، ومن ثمَّ فإن العبارة التي تقول «داخل الحقيبة 3 عفاريت» وما على شاكلتها من عبارات لا يمكننا التحقق من صدقها أو كذبها، هى عبارات خالية من المعنى، إنها ليست قضايا، إنها كلام فارغ، لغوNon Sense. سوء استخدام اللغة يؤدي إلى كثير من المشكلات الوهمية التي كان من الممكن تجنبها.
إن ما نعنيه بسوء استخدام اللغة هو أن اللغة بوصفها مطواعة، فإنه من السهل الوقوع في شرك نحت ألفاظ ومصطلحات وهمية تترتب عليها أفكار ومعتقدات خاطئة. وسوف نضرب مثلاً: «الحصان الطائر». إن لفظ «حصان» يشير بوضوح إلى حيوان موجود في الواقع نراه ونلمسه ونركبه. وكذلك الأمر فيما يتعلق بلفظ «طائر» يشير إلى كائن حي موجود ممكن أن يكون عصفورًا أو حمامة أو صقرًا أو نسرًا ... إلخ. ونظرًا لوجود الحصان والطائر، فإننا نسعى لتشكيل مصطلح جديد هو «الحصان الطائر»، ولأننا أوجدنا هذا المصطلح (في أذهاننا) نتوهم خطأً أن له ما يقابله في الواقع، نتوهم أن هناك حصانًا يمكننا أن نمتطي صهوته ويحلق بنا في السماء، ثم نبدأ في التفكير فيما إذا ما كنا سوف نطعمه طعامًا مما تأكله سائر الجياد، أم نملأه وقودًا كسائر الطائرات، وأين سيكون مكان اقامته؟ حظيرة كحظائر بقية الحيوانات؟ أم مبنى لتخزين المركبات؟ وهكذا نظل نفكر في موضوعات انطلاقًا من مصطلح أو لفظ لا يقابله أي شيء في الواقع.
حقيقة الأمر أن المشكلة لا تتعلق بــ «الحصان الطائر» بقدر ما تتعلق بكافة قضايا الميتافيزيقا، التي ينظر إليها عدد من الفلاسفة المعاصرين بوصفها لا معنى لها ويطالب باستبعادها. إن الميتافيزيقا (أي ما بعد الطبيعة أو ما وراء الطبيعة) هى مبحث من المباحث الفلسفية الهامة التي تتناول بالدراسة موضوعات يعجز الحس المباشر عن إدراكها، مثل النفس، الروح، الله، الوجود، المطلق، الشيء في ذاته ... إلخ. إن كتبًا ومؤلفات كثيرة تم تأليفها عن «النفس» مثلاً، وكيف أنها المحركة للبدن، وأنها خالدة لا تفنى بفناء الجسد، ووضع الفلاسفة براهين كثيرة ومتنوعة لإثبات «خلود النفس»، في حين يؤكد الوضعيون المناطقة ومن سار على دربهم أن كل القضايا المتعلقة بالنفس هي قضايا تخلو من المعنى، لأنه لا يمكننا التحقق من صدق هذه القضايا أو كذبها، ففي وسعنا أن نتحقق من وجود «الكبد» أو «الطحال» أو «القلب» أو «القولون» ...إلخ، لكن أين عسانا أن نجد «النفس»؟ إن الحديث عن «النفس» – من وجهة نظر الوضعيين المناطقة – لا يختلف في شيء عن الحديث عن «الحصان الطائر»!!
إن الوضعيين المناطقة يذهبون إلى أنه لا يمكن التحقق من صدق أو كذب القضايا الميتافيزيقية، ولذلك طالبوا باستبعاد الميتافيزيقا. ويرى «كارناب» Carnap أن القضايا التي لا تنتمي إلى المنطق والرياضة أو إلى العلوم التجريبية ، هى خلو من كل معنى. وقضايا الميتافيزيقا هي – في نظره - من هذا القبيل. ويتحدث الفيلسوف البراجماتي «وليم جيمس» William James بسخرية لاذعة عن كل من يشتغل وينشغل بالموضوعات الميتافيزيقية، فيقول عنه: «إنه أشبه بالأعمى الذي يبحث في غرفة مظلمة عن قطة سوداء لا وجود لها».