"الجيوش تزحف على بطونها" هي مقولة نابليون الشهيرة كناية عن حتمية توافر المؤن والإمدادات لاستمرار حياة الجيوش في مقابل معركتها مع العدو أياً ما يكون، وحينما سُئِل الزعيم السادات رحمة الله عليه عن موعد الحرب لاسترداد الأرض، كان رده الشهير والمثير للجدل "إسألوا نوال" في إشارة صريحة منه لما يخطط له اللواء نوال الشافعي، رئيس هيئة الإمداد والتموين في القوات المسلحة المصرية إبان فترة حرب أكتوبر 1973.
وإذا كانت تلك المقولة يمكن استلهامها من طبيعة الحياة العسكرية، وبما أننا أصبحنا نعيش في خضم معترك عالمي يطابق في قسوته نموذج الحرب العسكرية بمعناها الشامل، تماماً كما هو الحال في حربنا الشرسة مع العدو الوبائي كوفيد 19، فمن باب أولى بنا أن نتناول تلك المقولة بشيء من المنطق والتأمل لندرك أهمية عقيدة الأقوياء بالاكتفاء الذاتي من الإمدادات الأساسية للمعيشة من ماء وغذاء ودواء لضمان استمرار الحياة، بخلاف حتمية وجود الأداة العسكرية لحماية تلك الحياة، فمن لا يملك طعامه لا يملك قراره.
ولا سيما وأنه لا خلاف على أن البوابة الأساسية لإذلال الشعوب وتركيعها لا تتأتىَ إلا من خلال تهديدها المباشر في قوت يومها، ولنا في بعض الجيران أدلة وبرهان من فرض عقوبات اقتصادية، ترتب عليها وضعهم بمحل العزلة الدولية، وبالتالي فقدان الأهلية والصلاحية على الخريطة السياسية والاقتصادية.
فليس عليك أن تكون متابعاً جيداً للقنوات أو الإذاعات الإخبارية بشكل دوري لتستشعر حجم الطفرة الحادثة على مستوى تطوير وزيادة الإنتاج الغذائي والصناعي والمعماري والدوائي، وحتى الرقمي الخاص بحياة المواطنين اليومية والخدمات التي تقدم لهم، وكذا على صعيد حماية بياناتهم الشخصية التي هي من صميم الأمن القومي.
ولا أدل على ذلك من أزمة كورونا التي أطاحت باقتصادات أعتى الدول العظمى، فبتنا نرى الشعوب تتقاتل على شراء المستلزمات الغذائية والدوائية اللازمة للعيش، بل وباتت لاحقاً معظم المتاجر خالية من الأصناف والمشترين على حد سواء، وحينما قرر الأثرياء منهم -في محاولة يائسة- اللجوء للسفر لدول أخرى بديلة ليمكنهم تدبير أحوال معيشتهم بها، قرر العالم آنذاك غلق كل المجالات الجوية والمطارات.
في حين لم تحدث تلك المشاهد ولو مرة واحدة على مدار أزمة كورونا منذ قرارات الحكومة المصرية بالغلق وحتى الآن وبعد ممارسة الحياة بشكل طبيعي منذ عد أشهر، لم يغلق متجر واحد لعدم قدرته
على تعويض الأصناف والمنتجات التي تم سحبها، كان الاستعداد والاحتياطي موجود بشكل دائم، وكانت البدائل متاحة، ولم يشعر المواطنون بأي مخاوف تشابه ظروف ما قبل الحرب كما حدث بمعظم الدول.
بل والأكثر من ذلك، أن مصر استطاعت من خلال الإدارة الحكيمة للأزمة أن تتجاوز ما كان يمكن حدوثه من خسارات متعددة بسبب تلك الأزمة الدولية ونتيجة لتأثر مصر بالتبعية كونها عنصر يؤثر ويتأثر على طاولة اللعبة العالمية، وذلك من خلال قدرتها على ليس فقط احتواء تداعيات الأزمة على المستوى المحلي الاقتصادي والصحي بنسبة تدعو للطمأنينة، بل وعلى مستوى تحقيق معدلات تنمية منطقية برغم الأزمة وذلك بشهادة كبرى المنظمات الدولية ذات الصلة كصندوق النقد الدولي.
ومن جانبها أشارت الإيكونوميست مؤخراً (وهي مجلة لندنية أسبوعية تهتم بالشؤون والأخبار والأبحاث المالية والاقتصادية في العالم)، إلى أن مصر احتلت المرتبة الرابعة عالمياً في مؤشر "قدرة الدول على مواجهة كورونا وعودة الحياة إلى طبيعتها"، الأمر الذي يؤكد على حكمة وذكاء القيادة المصرية في "استشراف الأزمة" والاستعداد لها بالخطط السريعة والفاعلة بالشكل الذي مهّد الطريق لاحتوائها بأقل الخسائر البشرية والمادية، بديلاً عن منهجيات الماضي بالاكتفاء بإدارة الأزمة بعد حدوثها.
تلك العلامات الطيبة والمُبَشِّرَة التي أنبأتنا بوطن قوي قادر على مواجهة كافة الأزمات على تنوعها وقسوتها بل وغرابتها، وطمأنت مواطنيه بتحلي الدولة بكل حجج الحكمة والقوة جنباً إلى جنب، والتحصن بالعلم المستند إلى منهجيات حديثة وفعّالة، وتَحَيُّن كل السبل والفرص لاسترداد الأنفاس لاستكمال معركة بناء الإنسان وإعمار الأرض.
والخلاصة المختصرة تجدها في تلك المقولة البسيطة على لسان صانع نهضة مصر الحديثة "العفي محدش يقدر ياكل لقمته".