رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


لُغْــزُ الْمَــوْتُ

29-7-2021 | 12:59


د.عمرو سكر,

" لغز الموت" إنه عنوان أحد كتب العظيم الراحل د / مصطفى محمود.. والذي دفعني لقراءة هذا الكتاب شعور انتابني في إحدى مراحل حياتي وأظنه انتاب معظم أبناء جيلي، وهو شعور صدمة التعرف على الموت لأول مرة، وأنه لابد أن يكون من نصيب كل منا في يوم ما.

وقد تعرضنا إلى ذلك الشعور حينما رأيناه يأتي بغتة بلا أي مقدمات لأصدقائنا وأقاربنا ومنهم الشباب، فكانت هذه الصدمات توقفنا عن ممارسة أعمالنا الحياتية، ونجلس متخوفين من أن يأتينا هذا الضيف الثقيل في أي وقت، وكثيرا ما كنا نفقد الشعور بالاستمتاع بنعم الحياة لأن قلوبنا ترتجف خوفا من موعد قدوم هذا الضيف، ودعني أتساءل: لماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه؟.. لماذا تنخلع قلوبنا حينما نصادفه، وتضرب حياتنا حينما ندخله في حسابتنا ونضعه موضع الاعتبار ؟!! .

ذلك أننا تربينا على نظريات مصدرها ومبعثها المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية التي يصبح فيها البطل مليونيراً في 30 حلقة وهو يقضي كل أوقاته بين الحب والسفر والمقاهي والمطاعم، ولا نعلم متى يذهب إلى العمل أو إلى المسجد أو إلى الكنيسة.

وقد ذهب إلى هذا المعنى بل جيتس حينما قال لطلاب أحد المدارس الأمريكية : "الحياة التى نراها فى الأفلام السينمائية والتلفاز عموماً؛ ليست واقعية ولا حقيقة.. في الواقع لا يقضى الناس كل وقتهم فى اللعب والإجازات والجلوس في المقاهي الفارهة، بل عليهم الذهاب إلى العمل وخطوط الإنتاج".

لذلك فإن هذه النظريات من المسلسلات والأفلام هي التي زرعت فينا معتقد أن الموت يأتي لكبار السن أو المرضى فترى البطل يرى أبنائه، ثم أحفاده، ثم يسترخي على الفراش ويوصيهم وهو يبكي، ثم يموت.. فهذا بلا شك ودون وعي منا، مفهوم راسخ بداخلنا منذ طفولتنا.

فحينما واجهنا الحياة كانت صدمتنا بالموت الذي يزور أي إنسان معافي أو مريض، كبير في السن أو شاب، مسترخي على الفراش أو واقف على قدميه.

 ولكن هل هذا مبرر لنا للخضوع والجلوس ننتظر الموت؟! لا بل هو دافع أكبر للإكثار من العمل والجد فيه حتى نترك بصمات في هذه الدنيا قبل الرحيل، ونحن يا عزيزي مأمورون أن نعمل حتى أخر لحظه في الحياة، حتى وإن كنا لن نلحق بالركب الذي سيجني الثمار.

فعن أبي قتادة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةً، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَغْرِسْهَا " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. رواه أحمد ومسلم. 

إذاً ما دام الموت سنه كونية وفطرة ربانية لا فرار منها، فدعونا ننظر إليه على أنه المحفز لنا لكل عمل، فأزرع جنتك بالعمل في الدنيا حتى تجني الثمار في الدنيا والأخرة.

يحكى أن بلدا من البلاد البعيدة والموجودة في جزيرة من جزر المحيط القديم، كان له نظام خاص في الحكم، كان مبدأ الحكم يقوم على أساس من يرغب أن يحكم فليتقدم، ولكن بشرطين: الأول أن مدة الحكم سنتان يستحيل تكرارها.

 الثاني: أن بعد السنتين سيتم إرسال الحاكم بعد عزله إلى جزيرة أخرى في بحر الظلمات وهي جزيرة غير مأهولة لا يعيش فيها إلا الوحوش الشرسة والحيوانات المفترسة والعجيب أن القائمة كان فيها الكثيرون من راغبي الموت حكما، إنها شهوة الكرسي ويعيش الحاكم السنتين يحاول أن يلهو ويستمتع بقدر الإمكان فهو يعرف مصيره، حيث الفناء في جزيرة الضياع والنتيجة أن الحكام لم يفكروا يوما في أهل الجزيرة، فعاشوا في ضنك مستمر .

وتقدم يوما شاب فقير ليأخذ دوره في الحكم سألوه: هل تعرف الشروط؟.. قال : نعم شرطان عقدوا له حفل تتويج، وألبسوه تاج الملك وبدأ عهده في حكم جزيرة المظالم هذه، والعجيب أن الفتى كان سعيدا في حكمه عكس من كانوا قبله كان قليل اللهو والعبث عكس من كانوا قبله من الحكام، كان مصلحا لجزيرته، عادلا في حكمه يبني بلاده ويزرع الخير فيها، عكس من كانوا قبله، وأحبه الشعب، وفي غمرة حبه له وجدوا السنتين قد مرتا، وجاء مجلس الحكماء يطالبونه في أسف شديد بتطبيق الشرطين ابتسم الشاب لهم ونزل عن كرسي ملكه، وسلم التاج، وقال لهم وهو يطير من الفرح، أنا مستعد للذهاب إلى الجزيرة  كان الشعب كله يحيط بالقصر في حزن عميق على هذا الملك الذي لم يروا مثله، وحاول الجميع أن يغيروا الشروط ولكنها قوانين الجزر التي لا تتغير وقبل أن ينطلق الفتى إلى الجزيرة أوقفه أحد الحكماء، وقال له أمرك عجيب أيها الفتى، رأينا منك في حكمك كل العجب، واليوم لم نر أعجب من حالك، ألا تدري إلى أين ستذهب؟ قال الفتى: نعم أدري إذن كيف تفرح والفناء مصيرك؟ .

ابتسم الفتى الشاب وقال لهم بالعكس لقد وضعت جزيرة الموت أمامي منذ أول يوم، جعلتها شغلي الشاغل فأرسلت إليها مجموعات من الشعب الذي أحبني فأعد أرضها، وخلص غاباتها من وحوشها وحيواناتها، حيث حبسها في مكان خاص بها، وبنى لي قصورا هناك، أرسلت إليها أهلي الذين أحبهم وإني الآن ذاهب لأعيش معهم في جنتي التي زرعتها بيدي نقلا (عن كتاب إدارة الذات دكتور أكرم رضا).

فها هو الشاب الفقير ذو الحكم الرشيد صاحب القصة حينما وضع الموت نصب عينية من أول يوم في حكمه كان محفزا له حتى يغير المستقبل بالعمل الجاد في الحاضر، وقد ذهب إلى هذا المعنى د / مصطفى محمود في كتابه " لغز الموت " حينما قال :

"كُلُّ الْعَوَاطِفِ والنَّزْوَاتِ والْمَخَاوِفَ والأمال وشَطْحَاتُ الْخَيَالِ

والْفِكْرَ والْفَنَّ والأخلاق كُلُّ هَذِهِ الْقَيِّمِ العظيمة تُدِينُ

 لِلْمَوْتِ بوجودها أعطني أي مِثْلُ أخلاقي وأنا اِكْشِفْ عَنْ

 الْمَوْت فِيه الشجاعة قِيمَتْهَا إنها تَتَحَدَّى الْمَوْتَ

والإصرار قِيمَتْهُ فِي أنه يَتَحَدَّى الْمَوْتُ

والْفَنَّانِ وَالْفَيْلَسُوفَ وَرَجُلُ الدَّيْنِ ثَلاثَةُ يَقِفُونَ عَلَى بَوَّابَةِ الْمَوْتِ،

الْفَيْلَسُوفُ يُحَاوَلُ أَنْ يَجِدَ تَفْسِيرَا 

وَرَجُلُ الدَّيْنِ يُحَاوَلُ أَنْ يَجِدَ سَبِيلًا للاطمئنان 

 وَالْفَنَّانِ يُحَاوَلُ أَنْ يَجِدَ سَبِيلًا إِلَى الْخُلُودِ، وأَنَّ يَتْرُكَ مَوْلُودَا

عَلَى الْبَابِ يُخْلَدُ اِسْمُه، قِطْعَةُ مُوسِيقِيَّةُ أَوْ قِصَّةَ أَوْ قَصِيدَةَ، كُلُّنَا يَخْلُقَنَا الْمَوْتَ

وقد ذهب أيضا رحمة الله عليه إلى معنى أخر يوضح الفكرة التي أردنا إيصالها وهي الوجهة الإيجابية للموت، فيراه  د / مصطفى محمود أنه بالنسبة للكون ضرورة فعلية وفضيلة وخير، فحاول مثلا أن تتخيل الدنيا بلا موت من أيام أدم عليه السلام والمخلوقات تتراكم بلا موت ويصعد بعضها على أكتاف بعض  حتى تسد عين الشمس. إن الحياة تبدو ساعتها شيئاً كالاختناق.

 إذاً تفاءل وقل إن الموت جُعل ليزين لنا الحياة وقل لنفسك: قبل أن أذهب من هذه الحياة لأزينها وأتركها لغيري، سأزينها أكثر وأكثر بما قدمت من أعمال وسأخلد ذكرى يوم موتي مع العظماء، بل سأجعل كل لحظة في حياتي أجمل لحظة بأن أقول فيها.. أنا فعلت .. أنا قدمت .. أنا اخترعت .. أنا أنجزت.