رغم العلاقة الواضحة بين مفهوم المفارقة ونفس المفهوم كالعدول عن مقتضى الظاهر، الالتفات، والمدح بما يشبه الذم وعكسه، والتورية وعناصر التضاد اللفظي.. إلى غير ذلك من الصور البلاغية العربية المعتمدة على مبدأ المفارقة، إلا أننا نجد قصورا في رصد هذه العلاقة، فمعظم الدارسين اكتفوا في رصدها على مجرد متابعة مباحث السكاكي والقزويني، التي تعتمد على التحليل والترديد، وذكر شواهد التراث فحسب، دون الاستعانة بأدوت التحليل البلاغي والنقدي الحديث، وهو ما حاولت الدكتورة نانسي إبراهيم تجنبه في كتابها "بناء المفارقة في البلاغة العربية"، ليكون التركيز بصفة رئيسية على وصف وتحليل الصور من زاوية ارتباطها بالمفارقة فحسب، دون الاهتمام بالتحليل اللغوي والدلالي بصورته المألوفة.
وفي ضوء هذه الرؤية، يمتاز كتاب الدكتورة نانسي إبراهيم الصادر عن مؤسسة بتانة بشموليته، ذلك لأنه لا يتناول فرعا بعينه من فروع البلاغة العربية، بل درس مفهوم المفارقة في علوم البلاغة الثلاثة: البيان، المعاني، البديع، وقد راعى دمج الكلام النظري بالصور التطبيقية، حيث تم استخدام منهجا يعتمد على الوصف والتحليل معا. وهذا استهدف الظاهرة والتعليق عليها، ثم الاتيان بما يدعمها من نماذج تطبيقية، لأن ـ وفقا للمؤلفة ـ التأسيس النظري والإجراء التطبيقي مستويان يكمل كل منهما الآخر، وترى المؤلفة ضرورة ألا ينفصل أحدهما عن الآخر.
يبدأ الكتاب بعرض مقدمة نظرية، تتناول تحديد المفارقة بشتى صورها المعجمية والاصطلاحية عند العرب، ثم مقارنتها بمفهومها الاصطلاحي الغربي بسماته وحدوده المميزة، وذلك للوقوف على ماهيتها وعلاقتها بالمصطلح الحديث. بعد ذلك جاء تنسيق الكتاب على النحو التالي: الباب الأول "بناء المفارقة في علم البيان" وقد تم تقسيمه إلى ثلاثة فصول فرعية تسهم في إنتاج المعرفة وهي: "التشبيه، ومفارقة إيغال"، " الاستعارة وإنتاج السخرية والتهكم"، "الكناية". أما الباب الثاني فتناول المفارقة في علم المعاني وجاء في ثلاثة فصول: المفارقة الحركية ـ المفارقة التحولية ـ المفارقة الكمية. وخصص الباب الثالث "المفارقة في علم البديع" لمجموعة من أبنية المفارقة: المفارقة اللغوية ـ المفارقة التهكمية ـ المفارقة السياقية.
واجتهدت نانسى إبراهيم في ربط التأسيس النظري بالنماذج التطبيقية التي رددها البلاغيون، سواء أكانت من آيات القرآن الكريم، أم نماذج الشعر العربي، ورصد الرؤية البلاغية القديمة لمجموع النماذج وما فيها من من طابع المفارقة دون الاقتصار على نوع بعينه من الشواهد التطبيقية.
قالت الكاتبة إن كثيرا من المصطلحات النقدية الحديثة ليست وليدة العصر الحالي، وإنما هي ركام نجد أصوله في كتب البلاغة والنقد العربية التراثية, وأن مصطلح المفارقة ضمن هذه المصطلحات والذي أثبت الكتاب العلاقة بينه وبين المفهوم في صور البلاغة العربية، فنجد المفهوم نفسه وإن أتى تحت مسميات أخرى كالعدول عن مقتضى الظاهر، الالتفات، والمدح بما يشبه الذم وعكسه، والتورية وعناصر التضاد اللفظي.. إلى غير ذلك من الصور البلاغية العربية المعتمدة على مبدأ المفارقة.
وترى أن المفهوم العربي للمفارقة عند البلاغيين العرب يتفق مع مصطلح المفارقة بالشكل الحديث من خلال سمات محددة ومنها: أولا وجود مستويين للمعنى في التعبير الواحد: "المستوى السطحي للكلام، على نحو ما يعبر به، والمستوى الكامن الذي يلح القارئ على اكتشافه". ثانيا التباين بين الحقيقة والمظهر أو بين المستوى السطحي للصياغة والمستوى العميق المفهوم من سياق الكلام. ولا يتحدد المرمى أو القصد إلا من خلال سياق محدد للكلام. وثالثا مبدأ الاقتصاد في الجهد المعتمد على إحداث أبلغ الأثر بأقل الوسائل تبذيرا. ولا يتم الوصول للمفارقة إلا من خلال إدراك التناقض بين الحقائق على المستوى الشكلي أو السطحي والمستوى العميق. وكسر التوقعات أو الفرق بين ما ينتظر حدوثه وما يحدث بالفعل. رابعا غالبا ما ترتبط المفارقة بالتظاهر بالسذاجة أو الغفلة، ونلمح ذلك من خلال بعض البنى العربية المحددة، كالمدح بما يشبه الذم وعكسه، وتجاهل العارف. خامسا وجود ضحية للمفارقة أو كبش فداء، ونلحظ هذا من خلال بنى محددة كالاستعارة التهكمية وبنية الذم بما يشبه المدح وغيرهما من فنون التهكم والسخرية. وأخيرا يتطلب المصطلح والمفهوم أن يكون المتلقي له القدرة على ما يسمى بازدواجية التلقي، كي يكون قادرا على تجاوز سطحية المنطوق إلى معنى مفترض يكمن في ذلك المنطوق من هذا السياق بالذات.
وتشير إلى أن البلاغة العربية في كثير من الأحيان تسعى إلى خلق نوع من الالتحام بين كل من المبدع والمتلقي والنص. وهذا مخالف لرأي بعض النقاد الذين يكتفون بالنص بمفرده للاعتماد عليه، وهذا يثبت إخفاق مقولة موت المؤلف عند تناول أي نص أدبي، ذلك لأن المفارقة تهدف إلى خلق نوع من الالتحام بين المبدع وما يدور في ذهنه ـ والذي لا يذكره صراحة بالألفاظ والصور الأولية ـ وبين المتلقي، الذي يعمل على كشف مرمى المبدع، وهذا يجعل المتلقي في حالة صراع دائم بين واقع النص أو واقع الصياغة والواقع الخارجي، حيث يقوم بعملية إعادة تشكيل للصياغة وتعديلها، ثم الوصول إلى المستوى البلاغي المطلوب الكامن في العمق.
وتؤكد إبراهيم أن صور البلاغة العربية تعتمد في بنائها وأدواتها على المفارقة، ويتم ذلك من اعتماد المبدعين والنقاد العرب على التقسيمات المتفارقة لبعض البنى كبنية "الحذف والذكر"، "مزج الشك باليقين"، "التقديم والتأخير"، "تجاهل العارف" وغير ذلك من الثنائيات المتفارقة التي نلمحها في شتى صور البلاغة العربية، لتزيد كثافة المفارقة في بعضها وتقل في الأخرى.
وتتابع أن "هناك بداية وعي بكثير من الصور المتفارقة، ونجد هذا الوعي يصل في كثير من الأحيان إلى تطابق المفهوم العربي مع المسمى الحالي، وذلك كالمفارقة التهكمية، والمتشابهة مع الاستعارة التهكمية وغيرها من صور التهكم والسخرية ومفارقة الإيهام والمفارقة اللفظية".
وتلفت إبراهيم إلى افتقار المعجم العربي للترجمة الدقيقة لمصطلح المفارقة، ومع ذلك تحدث المطابقة بين المصطلح وعدة مفاهيم قديمة، وهذا التطابق يتم بصورة نسبية حيث تعتمد بعض البنى على المفارقة بصورة أكبر من غيرها، وقد يحدث هذا التفاوت في صور البنية الواحدة.
وتضيف أن "اقتصار أشكال المفارقة المختلفة على الأبنية الجزئية الصغري، والمتمثلة في جملة أو عدة جمل؛ وذلك لأن البلاغة العربية تعتمد في مجملها على ذلك الطابع الجزئي".