رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


النشرة الثقافية ليوم الأربعاء

1-2-2017 | 10:59


ماذا يحدث عندما يحكي الشاعر ويحلق ابداعيا من خيال القصيدة لفضاء الرواية؟ لعل الإجابة تتجلى في رواية "حافة الكوثر" التي عرف مؤلفها علي عطا كشاعر صدرت له من قبل ثلاثة دوواين وله ديوان جديد قيد النشر.
وفيما تعد هذه الرواية الجديدة أول رواياته المنشورة، فإن علي عطا لم يتخل عن جوهره الشعري فجاءت "حافة الكوثر" نموذجا عربيا طليعيا "لشعرنة الرواية"، فضلا عن الاستخدام البارع لتكنيك الصور السينمائية المتلاحقة والمندفعة للأمام وللخلف أحيانا بأسلوب الفلاش باك، عبر صفحاتها التي بلغت 155 صفحة من القطع المتوسط.
وبقدر ما تكتب رواية "حافة الكوثر" صفحة جديدة في "أدب البوح وثقافة الاعتراف"؛ التي ماتزال غائبة إلى حد كبير في الثقافة المصرية والعربية على وجه العموم، فإن هذه الثقافة ضرورية لتعزيزالمناعة لأي مجتمع انساني والتخفيف من حدة احتقاناته وآلام ضغوطه.
وبشجاعة مثقف وصدق مبدع صاحب تجربة ثرية في الصحافة الثقافية المصرية والعربية تحفل الرواية الجامعة بطابع الحال ما بين الخيال والواقع بإشارات دالة وأحيانا محزنة لواقع الساحة الثقافية المصرية في زمن العصر الرقمي والفيسبوك بكل ما يحمله من متغيرات ومتناقضات بعضها صادم حقا ومثير للاكتئاب والألم وبما يتطلب بذل الجهد المضني للتكيف الذي قد يتحول إلى "هدف بعيد المنال"، كما يقول علي عطا في "حافة الكوثر".
وانتهاك الخصوصية أحد أسباب الاكتئاب التي تفضي ببطل الرواية للتردد غير مرة على مصحة "الكوثر" للعلاج النفسي، فيما جاء تناول المؤلف للاكتئاب جامعا ما بين المقاربات الإبداعية الأدبية والمداخل العلمية للطب النفسي.
فالاكتئاب كما يبوح علي عطا في روايته؛ "لئيم لا تعرف متى يهاجمك وعلى أي درجة من الضراوة سيكون وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك"، وهو أيضا كما يوضح مدير مصحة "الكوثر"؛ لا يعني الحزن الظاهر بالضرورة؛ "فقد تجد صاحبك يشاركك الضحك والمرح وفي اليوم التالي يردك نبأ أن الاكتئاب دفعه إلى الموت منتحرا"!
إنه الاكتئاب الذي يكبد العالم خسائر بالمليارات والذي تتناوله رواية علي عطا برؤية إنسانية متعاطفة مع الضحايا الذين يزيد عددهم في العالم على 450 مليون نسمة، بحسب تقديرات لمنظمة الصحة العالمية، فيما يعدد المؤلف أسماء أدوية الاكتئاب ورؤى الأطباء التي تراوح ما بين الانتصار للعقاقير أو العلاج السلوكي.

ثم ان الاكتئاب ليس مرض الضعفاء كما يشاع وكما يؤكد طبيب في رواية "حافة الكوثر": "فالمكتئب ليس مجنونا"، غير أنه "لا صحة حقيقية للجسد من دون صحة نفسية"، فيما تتردد الصيحة النبيلة رغم ما تثيره من وجع لقاريء الرواية: "أيها المكتئبون: أما آن لكم أن تتوقفوا عن المعاناة في صمت؟".
وإذ يستخدم علي عطا في روايته الفاتنة "حافة الكوثر" تكنيك المخاطبة والبوح لصديق أثير، فإن حي المعادي القاهري يستأثر بالجزء الأكثر أهمية من الأماكن المتعددة في الرواية إذ يخص الكاتب هذا الحي الذي تقع فيه مصحة الكوثر، بتشريح ثقافي بأدوات معرفية وإبداعية معا.
وفيما يقطن بطل الرواية حي المعادي الذي عرف من قبل بأناقته، فإن بعض صفحات الرواية تكاد تتحول إلى "مرثية للحي الجميل" الذي تعرض لاعتداءات جسيمة واندثرت بعض روائع معماره بفعل عناصر أدمنت ثقافة القبح والعداء للجمال، وأفضت ممارساتها الرأسمالية الطفيلية لتدهور بيئي مريع، ويكاد يشي بحالة من الخراب، وكأن الحي الأنيق تحول للأرض اليباب في عصر بات فيه الأطفال يعانون من الأورام الخبيثة.
وفي رحلة البوح لهذا المبدع المصري الذي يحلق من الشعر للرواية تتوالى الآلام التي تحمل إدانة صامتة وقد تكون متسامحة ومسامحة لمن تسببوا فيها كما تتوالى أسماء شخصيات كسعاد حسني وحسين صدقي وأسماء مستعارة لأدباء يمكن بسهولة أن يتعرف القاريء على أسمائهم الحقيقية، كما بدا بطل الرواية وفيا لجذوره في مدينة المنصورة بقدر ما يستعيد الوجوه الحبيبة للأم والأب الذي يسعى ويضرب في مناكب الأرض بحثا عن الرزق الحلال والخال الشهيد في حرب السادس من اكتوبر.
وما كان لمؤلف رواية "حافة الكوثر" بذاته الشاعرة أن يحرم قارئه من نفحات لبعض المتصوفة مثل الشيخ "الخلواتي" الذي أطلق اسمه على التقسيم السكني الذي يعيش فيه بطل الرواية بحي المعادي والشاهد على ممارسات التدهور البيئي وبناء الأبراج السكنية القبيحة التي تهدد حتى بالتهام "مصحة الكوثر" كفيلا جميلة يقصدها الباحثون عن ترياق لآلام الأيام.

وبطل الرواية كصحفي يريد "كتابة ذاته"، ما كان له سوى أن يلوذ "بثقافة الاعتراف والبوح الصادق"، وهي هشة الجذور في الثقافة المصرية والعربية ولا يمكن الادعاء بأنها تضارع ثقافة الاعتراف فى الغرب، غير أنها للمفارقة باتت مطلوبة بإلحاح فى الحياة المصرية والعربية.
وبلا مبالغة، فإن علي عطا يقدم إضافة حقيقية لهذه الثقافة في روايته وهي ثقافة قد يكون مذاقها مريرا، وتثير حتى اعتراضات من شخصيات ورموز ثقافية تجزع من تعرية الذات مثلما حدث عندما تحدث الكاتب والمفكر المصري الراحل الدكتور لويس عوض بصراحة عن نفسه وعن عائلته فى سيرة حياته؛ "أوراق العمر"، والتي تعد من أصدق الكتابات العربية في أدب الاعترافات، فيما أشفق الكثيرون عليه من قسوة الاعترافات، بل إن أديب نوبل نجيب محفوظ سأله بجزع المحب: "لماذا تفعل ذلك في نفسك؟".
وقبل ذلك كان الروائي المغربى الراحل محمد شكري، فقد أحدث صدمة في الحياة الثقافية العربية لاعترافاته الجريئة التي شكلت أهم محاور إبداعه، بل إنها سبب شهرته وسر انتشاره، فيما تدخل أهم هذه الروايات مثل "الخبز الحافي"، و"الشطار"، في قوائم المحظورات حتى الآن ببعض الدول العربية وتقرأ خلسة.
ومن هنا، فإن رواية "حافة الكوثر"، خليقة بالإشادة كنموذج طليعي لثقافة الاعتراف، فيما لم تخن الشجاعة مؤلفها الذي تحدث عن إشكاليات مسكوت عنها في الحياة الزوجية والعلاقات الاجتماعية دون أن ينال ذلك من جماليات "حافة الكوثر" وإشاراتها الفاتنة لجوانب مضيئة في الحياة المصرية كعبارته البديعة والعفوية: "كنيسة في ظهرها جامع".
وإذا كانت الرواية تطرح إمكانية "خلاص الذات عبر الكتابة"، فإن مؤلفها علي عطا لم يكتف بالشعار السهل وإنما عمد لمعالجة إبداعية متعمقة وهو يتحرى عن مدى تحقق هذه الإمكانية في الواقع عبر حوار وجدل بين "حسين" بطل الرواية وصديقه "الطاهر يعقوب".
فها هو بطل الرواية يشير إلى أمثلة، "على من كتبوا ثم انتحروا في النهاية أو ماتوا منسيين في مصحات أو حتى على أرصفة الشوارع"، بينما يرد صديقه ليقول بدوره: "لكن هناك من نجوا بالكتابة وعددهم يفوق بالتأكيد أعداد من لاقوا ذلك المصير المؤسف".
ولا ريب أن علي عطا بهذا النص ما بعد الحداثي وبكل بوحه الصادق والأليم أحيانا هو "ضمن الناجين بالكتابة"، في عالم يعاني الكثير من مبدعيه من الاغتراب والتشظي وتهديدات الخراب.. عالم حافل بأسباب الحزن لكن وظيفة المبدع تتضمن دوما صنع أسباب للفرح، وهذا ما تفعله رواية "حافة الكوثر" رغم كل ما تنطوي عليه من ألم.
فرواية علي عطا تمنح قارئها في نهاية المطاف "إمكانية التطهر" وهي وظيفة خالدة للدراما.. ذلك ما فعله مبدع مصري قد يرنو للعالم بعينين دامعتين.. ويشدو بصوت حزين، لكنه في نهاية المطاف يصنع المعنى الجميل.
علي عطا: للمبدع أن يحول البلاء لعافية ويقول للناس: "اكتحلوا بالحلم".. للمبدع أن يرقب الزلزلة ويحذر قومه من حمم البركان ويصنع معهم الزمن الجديد، وهذا ما فعلته في "حافة الكوثر" ببوح القلم والألم ليتسع المعنى النبيل ويفسح حيزا للأمل.