رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


نهاية زينب

20-5-2017 | 13:06


د. شريف عابدين - كاتب مصرى

يقول قمر: كانت هذه آخر اعترافات زوبا. بدأنا بعدها المرحلة الماجنة. أعتقد أنها كانت تخجل منها. ولم أستطع أن أسجلها بنفسي؛ لأني كنت مترددا في هذه المرحلة؛ تتنازعني الرغبة في تلبية نداء الشيطان والمضي بها إلى الهلاك، والرغبة في معصية الشيطان، والاتجاه بها في طريق النجاة.

يعقب آسفا: لقد اهتديت متأخرا إلى الصواب. بعد أن فتكوا بها!

يسأله جيلبير: ولِمَ اتخذت قرارك وغيرت مسارك؟

يقول: الحق أني ندمت، خاصة بعد أن شاهدت نهايتها البشعة. عندما أتأمل ما وراء كل ما حدث! أجدها بريئة تماما. أحبتني وأحببتها. لا تنس أنني فديتها بعيني؛ لذا كان هناك ما يجمعنا دوما؛ لقد اندمجنا معا روحا وجسدا.

حاولت أن أحافظ على صورتي بعدما تشوهت. هبط السحر من عيني إلى لساني ثم إلى أناملي. لأظل دائما بالقرب. لكن أنانية أبيها في تلبية شهواته كانت أكثر شيطانية.

يعقب جيلبير: لقد سددت الفاتورة. ثم يتجه نحوه: معذرة إن كنت سأسبب لك ألما ولكن هل تذكر تفاصيل المشهد؟

***

يقول قمر: كان من الممكن عقد قرانها على محيي البكري أو علي الرشيدي! لتصبح في عصمة أيهما ويكون المسؤول عن تصرفاتها. لكنها لم تقبل.

يكلف علي محاميا شرعيا بالدفاع عنها، يدفع ببطلان محاكمتها قائلا: لديها عقد زواج شرعي يربطها بنابليون، وهو لم يطلقها وﻻ يجوز لكم محاسبتها.

ويظهر عقد الزواج الذي كتبه الشيخ محمد المهدي. وشهد عليه الشيخان الشرقاوي والساداتي، ثم يصيح بصوت جهوري: دي حرم بونابرطه السلطان الكبير.

يرد أحد البلاطجة بثقة: بالصرمة. أنت ومن يتشدد لها، بالنعال. سندهسكم جميعا. احذر. أفق. فليظهر لنا إن كان رجلا ليرى كيف سنتعامل معه ومع الأنجاس أتباعه.

***

يعلو صوت امراة تستنجد وتستجدي الرحمة، معلنة أنها لم ترتكب ذنبا تعاقب بسببه. يجرونها من شعرها. يعلن أحدهم أنها خادمتها زلفى. يسألونها عن أفعال سيدتها المشينة؟ تعترف أنها تخاوي الجان. تحكي لهم عن مظاهر علاقتها بهم. وكيف أنها جمعت شعر الجان من على فراشها ذات صباح.

يسألها أحدهم ساخرا: وما لونه؟

تقول: بين الأحمر والبني كما لو كان مصبوغا.

يقهقه الدهماء: طبعا طبعا ﻻ بد أنها كانت ليلة الحناء!

يسألها الآخر: وماذا أيضا؟

تتلعثم: ثياب النوم والملابس الداخلية.  كنت أجدها ممزقة في بعض الأحيان!

تتصايح الجموع: الفاجرة الملعونة. محظية الشيطان. عليها اللعنة.

ترتفع بعض الأصوات: هي من أتباع الشيطان وتروج لأفعاله.

يصيح إسماعيل الكاشف: نعم! ﻻ بد أنها هي. من أغوت (هوى) شوهدت معها في التيفولي. زوجتي أيضا كانت ترتاد حمام رزيقة. اقتادتها من هناك.

يردد آخر: و(زليمة) أيضا!

ينادي عثمان الطنبورجي: مهلا أيها الرجال. ﻻ تُطلق هكذا اﻻتهامات. ﻻ بد من شهود، من منكم يؤكد الواقعة؟

يسود الصمت.

يتلفت حوله. يهرش رأسه! تذكرت، هذه الواقعة حدثت في دمياط.

يتهكم البعض: ﻻ بد أن صيتها وصل إلى هناك. تبا لك يا ملعونة يا مطية الشيطان.

يجزم الآخرون: نعم. الإغواء عن بعد! يتضاحكون. ثم يضيف أحدهم: أو تكون انتقلت إليها بالفعل. الجن الطيار يا جماعة. ربما ركبها وطار.

يتساءل الطنبورجي: يركبها أم تركبه! ﻻحظوا أنها حالة انتقال من المحروسة إلى دمياط. يصعب فعل اﻻمتطاء لأنها ستسقط في الهواء! راعوا الدقة لو سمحتم!

يعلق أحدهم: ربما كانت هي من تمتطيه. يقهقه الجميع . بنت اللعينة. يا لها من شيطانة.

***

بلغ من حنق المواطنين على زوبا، أنهم لم يكتفوا بقصف رقبتها؛ بعد أن خنقها مختار الرمادي. قام محرم الدالي بقطع رأسها، وطاف بها في شوارع القاهرة هادى بشر لتكون عبرة لكل نساء المحروسة.

الغريب أن لزوبا موقفا إيجابيا جدا من مختار الرمادي وزوجته تغريد شيحه! لقد أحسنت إليها وأغدقت الكثير. يكفي أنها عرضت أن تستضيف العائلة بأكملها بالجودرية.

زوبا كانت ودودا جدا.

بعد أن جابوا بها شوارع القاهرة، عاد بها بشر إلى بيت المعلم شيحه، تذكرت تغريد الدلالة كم كانت زوبا كريمة معها ومع أسرتها. لفت الرأس بقطعة قماش ومفرش للمائدة. كانت زوبا قد طلبت منها أن تشتريه، ودفعت لها الثمن مقدما. ذهبت بها سرا إلى الجودرية. قابلت محيي الدين وسلمته اللفافة. سألها إن كانت تعلم مكان باقي الجثمان، أقسمت أنها لا تدري أين أودوا بها بعد أن سحلوها في الشوارع.

    احتفظ محيي بالرأس في آنية خزفية كبيرة على شكل زير، كان نابليون قد أهداه إلى الشيخ خليل أو "سيكو ليلو" كما كان يناديه، والتي حورها العامة فيما بعد إلى "شخاليلو". من هذا الزير الخزفي كان يعب الكونياك  بالسطل مباشرة. وضع محيي الرأس في الزير ثم ملأه بالخمر حتى غمره تماما لكي لا يتلف. آثر أن يحفظه حتى يتمكن من معرفة أين ألقوا بجثمانها ويدفنها إلى جانبه. ثم وضع الزير في حفرة إلى جانب سور البيت ليخفيه عن الأعين.

 يسأله جيلبير بعد أن ينتهي من الحكي: لكن عينيك سليمتان. والطبال كان يبصر بالكاد.

يقول قمر: استعدتهما قبل أن تلقي حتفها. حين كانت تلفظ أنفاسها. لأحتفظ بما يجمعنا معا.

لو نظرت إلى رأسها ستكتشف أنها استردت عينيها. يعلق جيلبير: تحتفظ بمشاعر تجاهها وأنت سبب نكبتها!

   يعترض قمر: بل علاقتها بالفرنسيين هي السبب في نهايتها البشعة. لو أنها لم تخرج عن طوعي!

زلفى بعد أن أفلحت في إنهاء تلبسها بي؛ شجعتها على الارتباط بنابليون بصفته سلطانا كبيرا، يمكنه التغلب على سيطرتي. نابليون لفظها من حياته، فتاهت بين تأوهات الجسد وإخفاقات الروح.

يتساءل جيلبير: نور اختفى في الحمام بعدما غطس في إثرها. وضيا اختفى بعد الحمى في البركة؛ ولِمَ لم تختف أنت في وعاء الخمر؟

يجيب: أولا لأنه مشروب روحي! ثانيا لأني اختبأت في الدماغ. بعدما كسروا رأسها بضربات القبقاب، تسللت إلى جوفها واختبأت.

يسترسل في الحكي بشجن ومرارة: كنت ألازم زوبا طوال الوقت. بالطبع كان من الممكن تصويرها عن طريق الفيديو عالي الدقة، ليتها وافقت! سمحت بالصوت فقط.

ثم يبرز قبضته:

على هذه الشريحة الرقيقة من السليكون بالغلاف الخزفي، تسجيلات بصوتها لكل ذكرياتها.

تعلمون، السيليكون، هو المكون الرئيس للرمال. منذ أكثر من مليون ونصف المليون عام اكتشف أسلافنا الزجاج، حين تكون من الحمم البركانية. شرائح السيليكون هي شكل مختلف تماما عن الزجاج؛ باعتبارها مادة شبه موصلة تسمح بالتحكم في حركة الإلكترونات تكتسب إمكانيات حوسبية.

يردد متباهيا: لقد تمكنا من صنع أجهزة كمبيوتر بحجم عشرة نانومتر.

يفرك بين أصابعه شريحة السيليكون، يقربها من فمه، يتمتم ببعض الأصوات، ثم ينفخ فيها، ليتم التشغيل، تسترسل زوبا في سرد ذكرياتها.

تسأله زولي: وفيم اﻻحتفاء بالسيليكون! أنسيت أن أصله من تراب؟

يقول قمر: هناك فرق. التعامل على طريقتنا يختلف.

***

تعلق زولي: الطريقة التي تعامل بها نابليون مع زوبا لم تكن أبدا حضارية.

يقول جيلبير: له عالمه ولها عالمها. كانت تحلم بأن يكون لها بيت صغير. بينما استغرقته أحلام الإسكندر الأكبر بأن يكون له ممالك واسعة.

 تضيف: لفظها بطريقة بربرية! لم تكن تملك الحق في المناقشة. كان نوعا من الإذلال كفيل بأن يجعلها تحتقر نفسها. وتعتكف طيلة حياتها. شعرت بأنها أدنى من جارية. زلفى كانت تنعم لديهم بالحق في أن تبدي رأيها؛ لكنه لم يسمح لزوبا بأن تتناقش معه. لولا أن صديقتيها الفرنسيتين احتضنتاها حتى تجاوزت كبوتها.

يعقب جيلبير: ربما كانت صغيرة لم تستوعب تلك الإهانة. أعتقد أن السياق كان الأقرب لسبايا الحرب. لم يكن لها مجرد الحق في الحياة. فما بالك بكرامتها الإنسانية!

(فصل من رواية "زلاتيا" قيد للنشر)