حسن اللمعي - قاص مصرى
اعتدت الذهاب إلى هذا المكان الهادئ خلف قلعة (قايتباى) لأصطاد بمفردى. تعلّمت الصيد من أبى. كان ماهرا وخبيرا بين أقرانه. هو من نبّهنى أن أصطاد منفردا منعا من حسد الصيادين الآخرين وكان دائما ما يقول: أكثر الحاسدين فى جهنم من الصيادين. المكان يوحى بالعظمة وفخامة التاريخ القديم.
أجلس فوق أعلى صخرة هناك. الرؤية من هنا تمنحنى التمتع باتساع البحر وبوشوشات الموج وهو يلثم الصخور فى دلال خصوصا لو كان الجو فى جماله وسكونه مثلما هو اليوم على غير عادته فى تلك المنطقة الصخرية المفتوحة من البحر. ما إن ألقيت سنارتى حتى اهتزت فى يدى بشدّة. أسحبها بكل قوتى وبعد مثابرة أجد أكبر سمكة اصطدتها فى حياتى. توقعت أن اليوم سيكون الرزق وفيرا، وحمدت الله. أمى ستفرح وتتباهى بى أمام جيرانها. ربما تمنحهم بعضا مما سآتى به منعا للحسد الذى تؤمن به كما أبى. أعرف أنهنّ لا يرغبن فى سمكى. ولكن أيّا منهنّ تريدنى عريسا لابنتها فقد اقتربت من الثلاثين عاما وليس بى رغبة فى الزواج بالرغم من أنهن كلهن حولى. أنا أنتظر من ستنجح فى أن تقودنى إلى القفص الذهبى بمهارة مثلما أنجح فى اقتناص صيدى بسنارتى الخبيرة. ألقى بالسنارة للمرة الثانية ومن عجب تأتينى بسمكة شبيهة بالأخرى القابعة داخل الزنبيل.
ألقيت بها بجوار أختها فرحا وأراقبهما تتقافزان فى سعادة كأنهما توأمان تلاقيا بعد غياب طويل. أجهز لأرمى سنارتى التالية لكنى ألاحظ حركة غير معتادة على سطح الماء أمامى لم أعتدها من قبل هنا. موجات خفيفة على هيئة دوائر تتسع شيئا فشيئا فى هدوء. أمعن النظر فيها لكن دوارا عارضا ينتابنى. أتدارك نفسى وأهز رأسى بشدة لأستفيق. ما هذا؟ رأس امرأة يبدأ فى الخروج من الماء. شعرها طويل وعيناها مغمضتان. أتكون غريقة منذ أيام وساقها الموج ناحيتى لأخرجها؟ لا تبدو عليها آثار الغرقى. ببطء شديد أخذت أهدابها الطويلة تتفتح لألمح أجمل وجه رأته عيناى. العيون الواسعة الزرقاء. الفم تشكّله شفتان ممتلئتان. الأنف الدقيق. كل ما فيها ساحر ومثير. نظرت لى مبتسمة فازداد جمالها واقتحمتنى أنوثتها الطاغية. فجأة قفزت فى رشاقة أذهلتنى.
خرجت من الماء وحطّت على أقرب صخرة أسفل منى. شدنى مرأى ثدييها العاريين. ممتلآن قليلا لكنهما أثارانى بشدة وتمنّيت لو ضممتهما فى صدرى وبثثتهما كل ما لديّ من حرمان سنواتى الثلاثين. هدأت ثورتى لمّا رأيت نصفها الأسفل. نصف سمكة كبيرة الحجم. تلبستنى حالة من فزع مكتوم حاولت ألا أبديه. يبدو أنها شعرت بمخاوفى فبادرتنى بالكلام. تتكلم لغتنا. قالت: اسمك عيّاد. أعرفك منذ زمن. وأراقبك وأنت تصطاد فعشيرتى تسكن الماء أسفل تلك المنطقة منذ سنين طويلة ويعجبنى انفرادك بنفسك هنا وحبك للمكان مع حرصك الشديد على ارتياده. صبرك الجميل ومهارتك كصيّاد. كل ما فيك جذبنى إليك.
أسألها مرتعبا: لكن كيف وأنت...؟ ولم أكمل. قاطعتنى: لا يهمك. خذنى معك وسأتكفّل أنا بالباقى. سأعيش معك. حياتك ستكون أسعد ورزقك سيزداد وفرة. يمكننى الحياة معكم أمّا أنت؟ يا ليتكم كنتم تستطيعون العيش معنا كنت سحبتك معى إلى أسفل وعشنا سويا وأذقتك كل سعادة الدنيا وحلاوتها. أحبك يا رجل. أعشقك. لمحت ترددى فأكملت وسط دهشة تلبستنى فى ضراوة: هى فرصتك فلا تضيّعها بترددك. مدّت يدها لى وعيناها الجميلتان تبعث لى رجاء حارقا. لم أدر إلا وأنا أساعدها فى الصعود إلى أعلى. تقفز فى رشاقة وتجلس إلى جانبى وتضع رأسها على كتفى وتمسّد ذراعى بيديها. ألاحظ اهتزاز الزنبيل بشدة وأرقب السمكتين تقفزان معا فى سعادة ومرح. لملمت أشيائى وأغلقت الزنبيل الذى ثقل فى يدى لأستعد للذهاب. قامت بخفة وخطواتها قفزات متتالية وبدت لى كراقصة باليه محترفة. عند بداية الرصيف المؤدى للشارع العمومى شاهدَت بائع الذرة المشوى فأشارت لى برغبتها فى تذوقه، تركتها تتقافز ورحت للرجل الذى فرّ من أمامى بمجرد رؤيتها. ذهب ليقف بعيدا عند عربة الجيلاتى القريبة. التهمت ما ناولته لها فى نهم وبسرعة عجيبة ثم أشارت إلى عربة الجيلاتى الملونة. نبّهتها أنّها مثّلجة وقد تؤذى أسنانها. لم تجب وإنما التقطت قطعة من الزلط الملقى على الأرض حولنا وكسرتها إلى نصفين بأسنانها فى سهولة. شعر صاحب العربة بقدومنا نحوه ففرّ هاربا هو الآخر. وقفتْ على جانب العربة تتقافز فرحة إلى أن أعددت لها كوبا كبيرا من الجيلاتى المشكّل. ابتلعته فى ثوان وأٌعجبت به كثيرا. خرجنا إلى أول الشارع أحاول إيجاد وسيلة مواصلات لبيتنا تناسبها. الناس خلفنا يزدحمون وتنبهتُ لصدرها العارى. الكل يحملق فيها باشتهاء. خلعت الجاكيت الخشن. وضعته على كتفيها فغطاها إلى منتصفها. تأفّف الجميع وأخذ البعض منهم فى التراجع بعيدا وذهبوا إلى حال سبيلهم. لا يوجد تاكسى يقبل أن نركب معه. لا أحد يقف حتى ليعرف وجهتى وهى متشبّثة بيدى فى قوة. أعداد البشر خلفنا ازدادت خصوصا ونحن نتجه للسير على سور الكورنيش وهى تتراقص حولى فى رشاقة كمن تؤدى استعراضا. الضجيج يزداد والزحام أصبح قاتلا وهى لا تعبأ. أشارت لى بحاجتها إلى الطعام وأسقط فى يدى فمن أين آتى لها بطعام وسط هذا الزحام الزاعق؟ لكنها لمّا استشعرت حيرتى أمسكت بالزنبيل. فتحته، تناولت إحدى السمكتين الكبيرتين والتهمتها مرة واحدة وهمّت بالثانية وهى تستمتع بما تأكله فى لهفة وتلذذ وبطريقة وحشية والدماء تنسال حول فمها. أصبح شكلها مخيفا ولا يناسب جمالها الأخاذ. فرّ الجمع من أمامنا وساد الهرج. عمّت الضوضاء القاتلة المكان كله وتدافعوا فيما بينهم، علا الصراخ وعويل الأطفال ونداءات النسوة على أبنائهن الذين دهستهم أقدام الغوغاء. رمقتها لأجد التوتر الغاضب يعلو وجهها والرعب يرتسم على كل ملامحها. تلتفت إلى البحر خلفنا وتلقى بنفسها بداخله لتغيب فى جوفه. غمرتنى المياه صفعتنى بشدة لأفيق وأرى موجات هادرة ضربت المكان حيث أجلس. ملهوفا تلقفت الزنبيل بجانبى. أفتحه فى لهفة حارقة. أفتش بداخله مذعورا باحثا عن السمكتين اللتين كانتا ساكنتين هناك فى سلام.