من آن إلى أخر تثار قضايا هامشية تشغل أذهان الناس، وتدور ماكينة الكلام حولها حتى تستهلك طاقات الناس عبثا دون طائل، وتبقى القضايا الرئيسة والمهمة بعيدة عن الإهتمام فلا تلقى العناية اللائقة مناقشة وبحثا وحوارا
على سبيل المثال أثير جدل واسع خلال الأيام الأخيرة، حول قرار وزارة الأوقاف منع إذاعة شعائر صلاة التراويح فى رمضان عبر مكبرات الصوت ،والإكتفاء بنقل الصلوات عبر السماعات الداخلية للمسجد ،حرصا على طلبة الثانوية العامة وغيرهم من أصحاب الحاجات الذين قد يتأذون بصوت مكبرات الصوت التى قد تتعدد فى الحى الواحد، إلى حد تشويش بعضها على البعض الأخر حتى أنك لاتستطيع تمييز صوت مسجد بفعل تداخل صوت المساجد الأخرى، وفى الغالب عبر أصوات منكرة لاتجيد تلاوة أو نطقا ،أو تملك صوتا يغرى بنقله ليسمعه الناس عبر مكبرات صوت
هذا الجدل أحيا فى نفسى سؤالا أزعم أنه هام جدا ، وهو كيف نستعيد دور المسجد فى حياتنا بالعودة الى رسالة المسجد كما علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ننقل من خلالها الخطاب الدينى الى مكانه الأصلى وهو المسجد ،خصوصا ونحن نستقبل نسمات شهر رمضان المبارك فكيف كان دور المسجد ؟ يخبرنا الدكتور محمد راتب النابلسى عن هذا الدور فيقول:
كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم دار عبادة، ومجلس شورى، ومعهد علم، وتعليم، وتربية، ومجلس ضيافة، يأتي ضيف إلى المسجد، ومكان حوار بين الأطراف مع الوفود القادمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومأوى للمهاجرين، ومصنعاً للأبطال، وحبساً للأسرى، ومجلس دعوة إلى الله ، إلى غير ذلك من المهمات الجليلة.
هذه المهمات الجليلة في آخر الزمان مُسخت إلى أداء الصلوات فقط، وهو في الحقيقة مجلس شورى، مدرسة تعليم، بناء أمة، تدريب، حوار، استقبال ضيوف، مأوى للفقراء، في أجنحة تابعة للمسجد.
وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوة ومثلاً أعلى في بنائه، ووضع أساسه وتحديد قبلته، فهو في الوقت نفسه القدوة والمثل الأعلى للمسلمين في القول، والعمل والسلوك، كان بنفسه يبني المسجد.
بالمناسبة: بناء المسجد وسام شرف، وأذكر عالما كبيرا من علماء مصر كان مقيما في مكة المكرمة وقت توسعة الحرم، حدث عن نفسه فقال: عمل أياماً طويلة وشهوراً في نقل التراب من مكان إلى مكان، على علو قدره، لأن بناء المسجد وسام شرف للمؤمن.
إذاً: خدمة المسجد وسام شرف، وأنا أقول دائماً: لو أن إنسانا أخذ قشة من المسجد، ووضعها في جيبه كان له أجر، وجد قشة يجب ألا تكون، حملها، ووضعها في جيبه، هذا من تعظيم الله عز وجل،ت أزواجه كانت بجوار المسجد:
وكان بناء حجراته وسكناه بجوار المسجد، أنا أرى البيت المجاور للمسجد له ميزة كبيرة جداً، تستمع إلى الأذان، وللصلوات الخمس، فتبادر إلى الصلاة في المسجد، وأنت جار المسجد، وصلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بـ 27 ضعفا، وأنا أتمنى إذا اشترى إنسان بيتا أن يلحظ أن يكون قريباً من المسجد.
لذلك كان عليه الصلاة والسلام حجراته وسكانه بجوار المسجد، وبابه مشرّع إليه، ويعجبني كثيراً أن يبنى المسجد ومعه بيت للإمام، وللخادم، ولما تؤمِّن للإنسان بيتا فإنه يستقر، والآن مساجد عديدة فيها بيت للخادم والإمام، وما دام المسجد في مركز المدينة فالنبي عليه الصلاة والسلام كانت بيوته حول المسجد، وهي في وسط المدينة.
بعض العلماء يحرصون على أن تكون بيوتهم في مركز معقول، أحيانا يختار مكانا بعيدا جداً مريحا، لكنه بعيد عن حاجات الناس.
فحجرات النبي عليه الصلاة والسلام تسهل لقاء الناس معه، وسؤالهم إياه وتعاونهم، وتظافرهم حوله، ومعه، وبه، فكانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ، لكن حدث تطور جديد:
لما توسعت المدينة وامتدت، والأطفال يصعب عليهم أن يأتوا إلى المسجد أمر النبي بإنشاء مساجد في أطراف المدينة، هذه حاجة، فهناك مسجد مركزي، ومساجد للأطفال وللضعفاء، وللمتقدمين في السن، هذه المساجد قريبة من بيوتهم.
وإذا وُحِدت مكتبة في المسجد فهذا شيء جميل، أحياناً مستوصف، الآن بعض المساجد معها مستوصف، المحسنون يؤسسون هذا المستوصف فيه أطباء للمعالجة العامة، ومعالجة داخلية، وقلبية، وجلدية، فيه أجهزة، فيه أدوات، فيه موظفون، فصار المسجد فيه مكتبة، ومستوصف، و مدرسة، وملحق معه معهد، وجمعية خيرية، ومكان للدعوة، ومكان للقاءات، ومكان للحوار، ومكان للضيوف، هذا الذي أتمناه أن يستعيد المسجد دوره القديم، لأن وظائف المسجد لا تعد ولا تحصى، وهي كثيرة جداً.
لكن بالمناسبة، لو أن قرية فيها ثلاثة مساجد، أحد المساجد يتسع لكل أبناء القرية من أجل وحدة الشمل، لا يجوز أن تكون صلاة الجمعة إلا في مسجد واحد، إذا كان أحد المساجد يستوعب أهل القرية كلهم، إذاً: الصلاة صحيحة في واحد، وغير هذا الواحد الصلاة غير صحيحة.
لذلك قالوا كقاعدة: الجمعة لمن سبق، يعني أول مسجد تقام فيه الجمعة فيه الصلاة صحيحة
ماذا يعني بناء المسجد النبوي ؟
أولاً: لأن النبي معصوم، ولأن سنته أقواله، وأفعاله، وإقراره، فماذا يعني بناء المسجد، وماذا كانت صفات مسجد رسول الله ؟
– المسجد هو الهيئة العليا في الإسلام:
أولاً: بناء مسجد المدينة كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، لأن المسجد يحتل أعلى مكانة في المجتمع الإسلامي، فهو مكان العبادة، ومكان طلب العلم، ومكان لقاء المسلمين، الآن موقع هذا المسجد كان في مركز المدينة، كان يتوسط المدينة المنورة.
– المسجد النبوي كان في الوسط الهندسي للمدينة النبوية:
أحياناً يكون المسجد الأول في طرف القرية، وهذا خطأ كبير، المسجد يجب أن يكون في الوسط الهندسي، وهل تصدقون أن بيت الله الحرام يقع في الوسط الهندسي للأرض في الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد، فلو أخذنا العالم القديم، وأخذنا أطراف العالم القديم ووصلنا بين الأطراف بأقطار، يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام، ولو أخذنا العالم الجديد، وأخذنا أطراف العالم الجديد، ووصلنا بينها بالأقطار يكون مكان تقاطع الأقطار هو بيت الله الحرام، ولا يقابل بيتَ الله الحرام موقعٌ بري في طرف الأرض الآخر، طبعاً في هذه المسألة بحث مطول، وأراه أنا من الإعجاز العلمي ؛ أن موقع مكة المكرمة هو الوسط الهندسي للعالَمين القديم والجديد، فإن مكة تبعد عن أي نقطة في أطراف العالم القديم 8500 كم، وتبعد مكة المكرمة عن أي نقطة متطرفة في العالم الحديث 13 ألف كيلومتر، فمكة المكرمة بهذا الاعتبار وسط هندسي للعالَمين القديم والجديد.
3 – المسجد له رسالة شاملة:
كان هذا المسجد على تواضعه مركز النشاط العام العمراني، والاقتصادي والاجتماعي، والتربوي، والسياسي، والعسكري.
مع الأسف الشديد جداً فإن بعض المساجد للصلاة فقط، المسجد له ـ ولا أبالغ ـ مئات الوظائف، للصلاة، ولإلقاء الدروس، وللمشاورة، المسجد له رسالة، وما لم يستعد المسجد رسالته فلن ينهض المجتمع الإسلامي، رسالته مكان يجمع المؤمنين، يجمعهم للعبادة، ولطلب العلم، وللتشاور، وللتعاون، من أجل أن يؤدي المسجد رسالته.
المسجد النبوي كان بسيطاً، أنا أتمنى أن يكون مسجدنا بسيطاً.
أول صفة: ينبغي أن يكون المسجد مريحاً، فيه تدفئة شتاء، وتبريد صيفاً، وفيه ماء بارد، وماء ساخن للوضوء في الشتاء، وفيه نقل صوت جيد، وفيه إضاءة جيدة فقط، هذا المطلوب، فما فوق ذلك يمكن أن ينفق في بناء مسجد آخر، فصفة هذا المسجد أنه كان بسيطاً، من حيث مواده الأولية، وفي الوقت نفسه كان هذا المسجد معهد إعداد رجال، فقد ترك النبي عليه الصلاة والسلام أبطالا، أين تربوا ؟ في المسجد، المسجد يبني نفوس المؤمنين.
لذلك المؤمنون في مساجدهم كالسمك في الماء، والمؤمن يحب الله، ومن فروع محبة الله محبة المساجد، فهو يرتاح في المسجد، ولما يصلي.
إذا سافرت إلى بلد، ودخلت إلى مسجد تقضي حاجة، ثم تتوضأ، وتصلي فإنك تستريح راحة كبيرة جداً.
كتعريف دقيق: كان المسجد معهداً لإعداد الرجال، وبناء المجتمع، فكيف تبني بناء من أساس، الطابق الأول، الثاني، لبنة، لبنة، دعامة، دعامة، المسجد يبني المؤمنين، يبني عقيدتهم، يبني منهجهم، يبني نفوسهم، يبني تصوراتهم، يبني آمالهم.
هذه الشروط والمواصفات التى إستخلصها الشيخ النابلسى من سيرة النبى صلى الله عليه وسلم كم تقيدنا بها فى مصر، أكثر من 108 ألف مسجد منهم 7 ألاف زاوية بلا أى مواصفات يتجاور فيها المسجد مغ غيره ،ثم يخلو من المصلين تتشارك فيها دورات المياه هواء الصلاة والذكر، فلا توفر جوا صحيا لائقا للصلاة بلا تهوية أو فضاء مناسب لخشوع أو ذكر ولو كانت الزاوية لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا ،فهى تحرص على الإحتفاظ بمكبر صوت ضخم يذيع من خلاله المؤذن صوته المنفر الذى ينقل نداء الحق الذى يتقاطع مع صوت أخر فى نفس الحى أو الشارع ، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المؤذن يجب أن يكون أندى الناس صوتا وفى بعض البلاد الإسلامية تجرى مسابقات لإختيار أفضل الأصوات للأذان وإقامة الشعائر، وذلك امتثالا لقول الله تبارك وتعالى " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب
إن شعيرة الأذان شعيرة جليلة القدر لايفترض ان تخرج إلا من أفواه طاهرة ومؤهلة ندية الصوت يؤثر صوتها فى السامعين ،كما أن التلاوة هى للمصلين وليس لمن هم خارج المسجد لذا لاضير أن يصل صوت الإمام للمصلين إذا تعددوا داخل المسجد عبر سماعات داخلية، أما إن تنقل أصوات منكرة وغيرها عبر ألاف مكبرات الصوت فليس هذا تعظيما لشعائر الله ولا إعلانا لها بل ربما تحدث أثرا عكسيا، مكبرات الصوت ليست من ضرورات أو أسس الشعائر بل الخشوع وحضور القلب والجوارح وانفعال السلوك بكل ذلك فلا داعى للمزايدة على الناس
أعيدوا تخطيط بناء المساجد ليكون البناء على قدر الحاجة ،متناسبا مع عدد السكان وبشروط إنسانية وهندسية لاتفتقر للجمال وتعين على الخشوع والحضور، أما هذه الفوضى التى تتصدرها مكبرات صوت تحمل لنا أصوات المتردية والنطيحة وما أكل السبع فليست مما يعين على الخشوع أو التزكية
استعيدوا المسجد، مبنى ومعنى وإمام مؤهل متفاعل مع جمهوره منفتح عليه، فى صوت هادىء خفيض شجى يشق طريقه عبر القلوب وليس عبر مكبرات صوت زاعقة، يحصل لكم مراد الخالق فى ربط القلوب بالمسجد من جديد.
التأريخ الإسلامي بدأ بالهجرة النبوية: