رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


العلم وأهميته في صنع المستقبل

21-5-2017 | 11:08


د. محمد فتحي فرج - كاتب مصري

 لم يعد للضعفاء والمتخلفين مكان فى العالم الذى نعيش فيه الآن. فالقوة ـ شئنا أم أبينا ـ هى فلسفة هذا العصر ولغته السائدة. ولا أعنى بالقوة هنا مجرد كثرة المال أو تكديس العتاد الحربى على الرغم من أهميتهما، وإنما أعنى بالقوة المصدر الرئيسى لكل من المال والعتاد والإعداد، وهو: العلم. فالذى يملك ناصية العلم يعرف حقا كيف ينمِّى مَوارده الاقتصادية، ويدعم قوته المالية، ويعرف فى الوقت ذاته كيف يكتفى بنفسه فى إنتاج غذائه ومعداته وسلاحه، أو على الأقل إنتاج معظم عتاده الحربى. فالعالم الآن أكثر من أى وقت مضى لم يعد يحترم إلا الأقوياء، فى حين أنه لا يحسب حسابا للمتواكلين، والمتخاذلين، والمتخلفين، والضعفاء.

   ويجمِع العلماء وكتّاب الثقافة العلمية على أن العلم لا يعنى مجرد اكتساب بعض المعلومات العلمية، أو حتى الحيازة الذهنية للمعلومات، والحيازة المادية للتقنيات، ولكن العلم ـ الذى يمثل الآن روح العصر ـ هو منهج فى فهم ودراسة الواقع، اعتمادا على العقل الناقد، بهدف التدخل التجريبى للتغيير. إنه ليس مجرد مجموعة من المعارف المتفرقة، بل هو منهجٌ موَظَّفٌ فى خدمة بنية المجتمع؛ ومن ثمَّ يعمل على تماسكها واطراد تقدمها، ومواجهة تحدياتها، ورسم معالم مستقبلها. ولهذا فالعلم مؤسسة اجتماعية، وعنصرٌ حضارى مهم، أو قل: هو ركيزة البناء الحضارى الأساسية. إن روح العصر ـ بحق ـ يتمثل فى المعرفة العلمية النسقية، التى هى نمطٌ خاص من علاقة الوجود الإنسانى بالطبيعة، وبالنفس، وبالمجتمع أيضا. وتعتمد عليه بشكل أساسى صياغة القوانين العامة الكاشفة لاطراد الظواهر وتحولاتها، والإجابة عن السبب والكيف، والقدرة على التنبؤ، والإفادة العلمية بذلك فى الحياة الاجتماعية والمعيشية بوجه عام، وتلك من أهم وظائف وأهداف العلم الحقيقية فى المجتمع.

   ولا بد أن يتدرب أبناؤنا على امتلاك ناصية هذا النهج العلمى منذ نعومة أظفارهم، ويكتسبوه خطوة خطوة، مع مراحل التعليم المختلفة. إن منحنى ذكاء الطفل المصرى ينحدر كلما تقدمت به السن، ولا يمكن أن يعزى هذا الانحدار إلا إلى طريقة وأسلوب التعليم، الذى يضعِف بل يقتل هذا الذكاء فى عقول أبنائنا؛ نتيجة لسياسة الإملاء، والتلقين التى لا تزال تتبعها وزارات التعليم المتعاقبة، والتى تقضى رويدا رويدا على ملكة التفكير، التى هى أساس البحث، والابتكار، والنقد، والتعبير السليم. والتعليم المنضبط ـ بأسسِه التى تنمى هذه الملكات ـ هو الذى ينتج العلم الذى يؤدى إلى التقدم فى كل المجالات؛ إذ لم يعد العلم ترفا أو زينة، فالعلم وحده هو الخيار الأفضل الذى يضمن النصر الأكيد فى المواجهة مع عدونا اللدود.

   أذكر أن الجنرال ديجول الرئيس الفرنسى الأسبق، حينما عمَّ الفساد قطاعات كثيرة فى فرنسا، كان محددا ومصيبا فى الوقت ذاته، حينما توجه بالسؤال عن أحوال التعليم الذى يضخ مخرجاته إلى سائر مؤسسات المجتمع: أى التعليم الجامعى، وحينما أخبروه أن الجامعة مازالت بخير؛ إذ لم ينخر السوس فيها بعد، استبشر خيرا فى إمكان إصلاح كل شيء، وقد صدق حدسه، وتحققت نبوءته فى محاصرة الفساد، والانطلاق السريع صوب الإصلاح!

    وأعتقد أن الفرصة الآن مواتية، ونحن نفتح كل الملفات بروح ثورية جديدة، وأعتقد أيضا أن التعليم والبحث العلمى من أهم القضايا التى يجب أن تعطى أهمية خاصة، فهى بحق قضية أمن قومى، على جانب كبير من الأهمية. وهى أيضا قضية متعددة الجوانب؛ ولذلك فإن معالجتها تحتاج إلى مشاركة كثير من الأقلام والعقول، وتحتاج أيضا إلى صبر وشجاعة ثورية؛ إذ إن التعليم والبحث العلمى بالفعل أساس مكين من أسس الرهان المضمون على المستقبل، والإصلاح الحقيقى على مختلف الجوانب والأصعدة: سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا، وله علاقة وثيقة أيضا بقضِيَّتى الهوية والانتماء، والحدّ من ظاهرتى العشوائية والفساد.

     وتتميز أهداف العلم كما يوضحها العلماء إلى نوعين: أهداف معرفية وأخرى عملية، أما الأولى فتتضمّن الأنشطة التى تتقدم فى ضوئها المعارف البشرية، وتتضمن وصفا دقيقا للطبيعة والظواهر المتعلقة بها، وهى عادة ما تدخل فى تطبيقات من شأنها المساعدة فى تطوير التكنولوجيا بعد ذلك. ومن أهدافه أيضا صياغة النظريات والفروض التفسيرية، مما يمَكّن من تنبؤات موثوق بها، مع استمرار حذف الخطأ والتخلص من التحيز، وتشجيع تعليم العلم للجيل القادم من العلماء، مع العمل على تبليغ الناس بالأفكار والوقائع العلمية.

  أما بالنسبة لأهداف العلم العملية فتتضمن حل المشاكل فى مجالات الحياة المختلفة كالهندسة والطب والاقتصاد والزراعة، ومجالات أخرى للبحث التطبيقى، وهذا من شأنه تحسين الصحة العامة للبشر وزيادة الإنتاج بشكل عام، وتحسين القوة التكنولوجية، والسيطرة ـ بوجه عام ـ على الطبيعة، أو ترويض ظروفها الصعبة لصالح الإنسان. ومن الطبيعى أن تتفاوت الاهتمامات بين التخصصات العلمية المختلفة، من حيث أهدافها ودرجة توجهاتها نحو الجوانب العملية البحتة، أو بدرجة أكبر نحو الجوانب العلمية. والمتأمل فى مسيرة العلم والبحث العلمى فى مصر لا يستطيع إنكار وجود بعض المشكلات والمعوقات لكليهما.

    وقد عانينا كثيرا من أنصاف الحلول، كما عانينا من الذين أدمنوا "إمساك العصا من منتصفها"، وعلى ذلك فلا مناص من الحلول الجِذرية، حتى وإن كانت صعبة ومكلفة! ومن الحلول الصعبة: إلزام أعضاء هيئات التدريس والباحثين بالتفرغ التام لأداء مهامهم الوظيفية الأساسية، أداءً حقيقيا وليس أداءً شكليا، أو سدا للذرائع كما يقول الفقهاء، وفى مقابل هذا تعويضهم عن ذلك التفرغ تعويضا ماديا مجزيا. وإذا أردنا أن نوضح هذه الجزئية فلا يحق لمهندس أو قانونى أو طبيب أو مستشار أو خبير أن يقوم بأية خِدمة خارج نطاق عمله، أى من خلال مكتب خاص أو ورشة أو "أتيلييه" أو عيادة أو أية منشأة أخرى، أيّا ما كان اسمها أو وصفها إلا فى إطار مؤسسته العلمية التى تفرغ للعمل بها.

    ومن هذه الحلول أيضا: النظر إلى الباحث وأستاذ الجامعة على أنه رجل علم، له مكانته وله تقديره الأدبى والمادى، الذى يحفظ له قيمته وكيانه فى مجتمعه، ولا يجعله عرضة للهمز واللمز، بحيث يتمكن من التفرغ التام لمهامه الوظيفية، والبحثية كما تفعل معه الدول المتقدمة في الغرب والشرق. ومن ذلك مثلا: عدم ربط العلاوات المالية ومرتبات أعضاء هيئات التدريس والباحثين بالترقيات العلمية، بحيث لا يكون الشّغل الشاغل لهم، يتمثل فقط فى السعى الحثيث نحو الترقية "الشكلية"، بغض النظر عن نوعية البحوث، التى يجرونها. وأقولها بصراحة تامة: إن تحسين الأحوال المالية لأعضاء هيئة التدريس والباحثين فى جميع مراحل التعليم هو المدخل الحقيقى والمنطقى لحل معظم مشاكل هذا القطاع. ولن ندخل فى مقارنات بين ما كانت عليه الأمور وما آلت إليه بالنسبة لمرتبات هذا القطاع مقارنة بقطاعات أخرى كثيرة فى الدولة.

    وقد يتساءل البعض عما يحفز عضو هيئة التدريس أو الباحث على الترقية، وممارسات البحث العلمى تحت هذه الظروف؟ هذه هى مهمته الأولى، ومن لا ينجز فيها إنجازا واضحا قد يتعرض للانتقال إلى مهنة أخرى غير البحث العلمى أو الانتظام فى سلك أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، وفى هذه الحالة لا بد من مراقبته ومحاسبته وإنذاره، بل فصله إن أصرَّ على إهماله، وعدم اكتراثه بأداء مهامه الوظيفيه الأساسية.

     وهناك مغريات تحفيزية أخرى كثيرة منها: تمتعه بحقوق الملكية الفكرية لأى اكتشاف يتوصل إليه، أو اختراع ذى قيمة علمية أو فائدة تطبيقية يقوم بإنجازه. وهناك أيضا المواقع القيادية والإدارية التى يمكن أن تسند لبعض المتفوقين وأصحاب السبق فى كل المجالات.

    هناك أيضا تمتع هذه النوعية من الباحثين بالدعم المالى لبحوثهم ودراساتهم. ورفع الحظر عن هؤلاء الباحثين، بالنسبة للمشاركة فى المؤتمرات العلمية العالمية بدون قيود أو شروط تحدّ من ذلك، والغرض من ذلك توفير فرص الاحتكاك بأقرانهم من باحثى العالم الأول والعالم الثانى؛ بهدف التعرف على الجديد فى العلم والتكنولوجيا.

   هناك أيضا توفير المنح والمهمات العلمية لهؤلاء الباحثين الجادِّين، لكى يجددوا معلوماتهم ويزيدوا من خبراتهم، وينقلوا التقنيات العلمية المستحدثة، ويوطنوها فى بلادنا، بما يتناسب أيضا مع تطورهم الفكرى، وخبراتهم التى اكتسبوها على مدى السنين، فخبرة المدرس تختلف قطعا عن خبرة الأستاذ المساعد، وهذا أيضا تختلف خبرته عن خبرة الأستاذ، وكل له إسهامه وقدرته على العطاء فى جانب من الجوانب، فيكمِل هذا عملَ ذاك. هناك أيضا تشجيع هؤلاء الباحثين، الذين ينشرون بحوثهم فى الدوريات والمجلات العلمية العالمية المتخصصة، ذات السمعة العلمية الطيبة. وقد يتمثل هذا التشجيع فى صورة الإنفاق على هذا النشر، بدءا من إعداد البحث ومراجعته وإرساله.. إلى تحمل نفقات النشر، والتى قد تبلغ ـ فى بعض الأحيان ـ المئات من أوراق النقد الأجنبى، وهذه ليست بدعة جديدة خاصة بباحثى مصر، ولكنها إجراءات معمول بها فى معظم دول العالم المتقدم. وهناك أيضا الإنفاق على تبادل هذه البحوث العلمية، طباعة وإرسالا عن طريق البريد التقليدى أو الإلكترونى.