رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الأدب التفاعلي .. فتح الآفاق على رؤى إنسانية

21-5-2017 | 11:14


د. حسن يوسف طه - كاتب مصري

إن التفاعل سمة أساسية من سمات الكائن الإنساني. وهذا التفاعل يعد مرجعية بها يقاس مدى تقدمنا وتطورنا، والعكس.

    وكتاب "الأدب التفاعلي وحوار الثقافات " للكاتبة السورية بهيجة مصري إدلبي يتناول قضايا حيوية بلا شك. وهو يحاول أن يلاقي بين عالم الأدب والعالم العولمي المعاصر بمعنى أن الواقع المعاصر للإنسان له خاصية معينة هي العولمة التي أصبحت سمة جوهرية لآنية واقعنا المعاصر. والعولمة بشكل عام تدخل لعالم الإنسان وتؤثر فيه في كل الاتجاهات وكل آفاق المعرفة والإدراك والمشاعر. هي حقيقة ماثلة لها عيوبها الواضحة وفى الوقت نفسه لها جوانب إيجابية لا ينبغي أن نتجاهلها أو نتغافل عنها. وعالم الأدب هو العالم أو المجال الذي يتمكن فيه الإنسان من التعبير عن ذاته بكل ما يعتريها من تموجات وتغيرات، ولا شك أن الأدب بوجه عام لا بد له أن يتأثر بالعولمة المعاصرة.

   والكتاب يحاول أن يمزج بين الاثنين، بين مجال العولمة المهيمن وبين الأدب وعالمه وكيف له أن يتأثر بالواقع وكما تقول الكاتبة في المقدمة. ولعل التلاقي بين الأفقين إنما هو لخلق عالم مختلف، عالم يصنعه الإنسان ليصنع الإنسان. فإذا كانت العولمة من صنع الإنسان فإن لها ولا شك الكثير من المثالب التي تحتم على الإنسان أن يتجاوزها، فمثلا إذا كان الإنسان في عصر العولمة أصبح أكثر اغترابا وأصبح التشيؤ هو السمة البارزة والمحددة للإنسان المعاصر إلى جانب انعدام أو انحسار أو تباعد الحوار بين الإنسان والإنسان وبين المجتمعات، فإنه أصبح لزاما على الإنسان أن يتفاعل مع تلك الحالة لكي يوجد مخرجا يتمكن معه من التفاعل والتحاور. إنه ملزم الآن أن ينقذ إنسانية الإنسان من الضياع. وتلك هي القضية التي تمثل عصب الكتاب.

    وتحاول الكاتبة من خلال الفصول الثلاثة الأولى أن تتناول تلك القضايا بشكل نظري وأكاديمي سلس ثم تدخل بنا إلى الجانب التطبيقي لكي تزداد الرؤية لدى القارئ. ومثل تلك الكتابات نحتاجها حيث يتمكن المتلقي أن يتفاعل مع الجانب النظري الأكاديمي وتتعمق رؤيته ويزداد فهمه مع الجانب التطبيقي. والكاتبة بهذا الأمر تلقى الضوء على القضية بشكلها النظري وفى الوقت نفسه تدخل إلى نصوص أخرى تتناول القضية فتدخل تلك النصوص لدائرة الضوء والاهتمام وكل ذلك في صالح المتلقي.

    وفى الفصل الأول (حوار الثقافات والرؤية الفاعلة) تبين الكاتبة مفهوم الحوار بين الثقافات كرؤية فاعلة من أجل مستقبل الوجود الإنساني، وكفاتحة للدخول في مفهوم العولمة والعولمة الثقافية ومفهوم الهوية الثقافية، ثم مفهوم الأدب التفاعلي. وفى الفصل الثاني (الأدب بين العولمة والعالمية) تبين مفهوم العولمة كنظام اقتصادي شامل يسعى إلى تحويل العالم إلى سوق اقتصادية مفتوحة تحت هيمنة الشركات الكبرى فى العالم ومن خلال ذلك تصل إلى مفهوم العولمة الثقافية. وفى الفصل الثالث (مدخل إلى الأدب التفاعلي) وتوضح فيه كيف يتمكن النص من التفاعل مع كل الأطر التي تفتح أمام المبدع آفاقا جديدة وواسعة لتشكيل نصه، وكذلك تتيح للقارئ أن يتشارك مع المبدع في تشكيل هذا النص. إنها حالة جدلية بين النص والمبدع والمتلقي. وفى الفصلين الرابع والخامس تدخل إلى الجانب التطبيقي وتقف عند عملين في مجال الأدب التفاعلي هما رواية "شات" لمحمد سناجلة، وقصيدة (تباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق) لمشتاق عباس معن.

    ونحاول في السطور التالية أن نلتقط بعض اللمحات كي تعطينا رؤية أوضح للكتاب. 

الإبداع التفاعلي والرؤى المفتوحة

   إذا كان التأمل في الوجود مفتاح المعرفة، فإن التأمل في المعرفة مفتاح الإبداع الذي يتجلى في غوامض الأشياء، وفى حساسيتها، سنجد أنفسنا نقف على عتبات الكشف الإبداعي للبحث عن سر النص والتسلل إلى أحلامه ومحاولة فك شفرتها، وبذلك نمارس عملية الحذف للمسافة بين النص ومتلقيه، لنتماس مع وجوده الحقيقي ونتماهى مع ماهيته التي تتشكل فى سؤال يضمره سؤال، ويكشفه سؤال، وبالتالي يصبح الإبداع سؤالا مفتوحا على جهات المعنى، يستعين بفلسفة اللغة على توسع رؤاه، وتشكيل مسافاته ومداه.

   إن النص التفاعلي هو نص تتفاعل فيه الفنون والرؤى والمسافات والأزمنة بحيث يمكننا الحديث عن الإبداع التفاعلي عن الفن المتكامل الذي يتجاور فيه الصوت بالصورة بالحركة، هذا إلى جانب ما يكتنف هذا التجاور من تجاور لرؤى فلسفية واتجاهات فكرية ومفاهيم نقدية. كل ذلك لا يتم الكشف عنه إلا بالتأمل الفلسفي لفهم طبيعة العلاقة بين تلك المتجاورات، وذلك لأن الفلسفة نابعة من التعجب وحب الاستطلاع والرغبة في المعرفة والفهم، بل هي تشمل التحليل والنقد والتفسير والتأمل، ومن هنا تأخذ القراءة التأملية أبعادها في تحفيز العلاقات التي تشكل النص، وبالتالي تحفيز مخيلة المتلقي لخلق احتمالات إنتاجية أخرى تضع النص في مقام واسع الجهات لا حدود لأسراره، وبإمكاننا القول إن الأدب التفاعلي محاولة للفت انتباه المتلقي بوسائله ووسائطه المتعددة بالكلمة والصورة والموسيقى، بالشكل المحفز على المغامرة والكشف من خلال تصميم الأيقونات، بالخفاء، بالوضوح، بالغموض. كل ذلك يتجلى في سعى المبدع ليأخذ المتلقي إلى النص، ومن ثم يتركه يتفاعل معه بشكل ما أو بالشكل الذي يشاء، وما هذه الوسائل والوسائط إلا حالات قابلة للتغيير والتعديل تبعا لحالات التلقي، وتبعا لمخزونه الثقافي إلى جانب الاستبدالات العلمية على مستوى التكنولوجيا. فإذا كنا نستعمل الكلمات لنوجه انتباه السامعين إلى شأن أو مسألة، حيث نقدم بعض الكلمات طمعا في النظر إليها، أو في إثارة بعض الأفكار، ومن هنا تأخذ الأشكال التفاعلية الحديثة شكلا من أشكال إثارة الانتباه والاهتمام، وبالتالي إثارة الحوار والتفاعل.

   في النص التفاعلي نجد أنفسنا أمام مرايانا، نرى أحلامنا، نرى خيالاتنا، نرانا ونحن في مقامنا الافتراضي، بل نرى كل شيء في مقامه الافتراضي، في هذا العالم الذي تحول فيه الإنسان إلى معلومة افتراضية وكائن افتراضي يخضع لنواميس افتراضية.

   إننا الآن في حاجة ضرورية إلى إحداث الحالة التفاعلية بين النص والمتلقي بمعنى آخر أن يسقط الحاجز الفاصل بين النص والمتلقي، مع سقوط ذلك الحاجز يمكن أن تحدث تلك الحالة التفاعلية. والسبب في أن تلك الحالة مهمة وضرورية هو أنه يجب بل وحتما أيضا أن تتغير العلاقة بين النص والمتلقي فالحالة القائمة والمرفوضة هي حالة استهلاك النص. لكن المطلوب هو إنتاج للنص والتحاور مع النص. وفى تلك الحالة سوف تحدث درجة عالية من الإنتاج القائم على تلك الحالة التفاعلية التواصلية. وفى هذا الصدد يرى الناقد المغربي الدكتور سعيد يقطين أن الكتابة العربية في مختلف تجلياتها مدعوة ـ استجابة لضرورات التطور وإلحاح الانتقال ـ إلى مستوى آخر من إنتاج النص وتلقيه إلى الانتقال إلى الوعي بضرورة فهم جديد للنص وبأهميته.

   فالمسألة إذن ليست في تلقينا للمعرفة، وإنما في أسلوب تلقينا لها، وأسلوب تفعيلها والمقدرة على إنتاج شكل آخر للمعرفة وبالتالي ضرورة ميلاد صورة جديدة للمثقف، بحيث يصبح التعامل مع هذا العالم تعاملا يسهم في إنتاج المعرفة لا في استهلاكها فقط، وبالتالي نحن أمام رؤى مفتوحة واحتمالات مفتوحة ومعرفة مفتوحة تخلق نظرية معرفية تنتج وعيا معرفيا جديدا، بل تشكل نقلة كبيرة في الحراك المعرفي الثقافي داخل الوعي العربي للانتقال من طور الاستهلاك إلى طور الإنتاج.

   إن العالم الجديد والنظام العالمي الجديد أفق يصنعه الإنسان، فإما أن يكون أفقا خصبا، وإما أن يكون أفقا رماديا، وبالتالي فالمستقبل رهن بوعي الإنسان وعيا كونيا حضاريا تفاعليا، وهنا يكمن دور الأدب التفاعلي الذي فتح آفاق النص الأدبي وفتح آفاق الرؤيا الإنسانية من أجل مستقبل أفضل.

    وبعد. يمكن القول إن النص الإبداعي الحقيقي هو القادر على أن يحفز المتلقي على إحداث درجة التناغم والتلاقي، وهذا الأمر لا يجعل النص أخرس أصم، ولكن يتبدى في أكثر من صورة وتتجلى مستوياته، ومن ثم يصبح النص والمتلقي في حالة من الإنتاج الجديد. وهذا أمر نحتاجه، ومن هنا يتدخل المتلقي في عملية الإبداع بدرة أو بصورة أو أخرى.