د. حسين علي ,
الويل كل الويل لمن لا يرى لحياته معنى، ولا يستشعر هدفًا له أو غرضًا ، ومن ثمَّ لا يجد قيمة في مواصلة هذه الحياة. إذ سرعان ما يشعر بالضياع. وتتضح الإجابة التقليدية التي يرفض بها ذلك الإنسان حياته من العبارة الآتية: «ليس لديَّ ما أعيش من أجله».
إن «الإنسان يبحث عن المعنى» هو عنوان كتاب من تأليف «فيكتور فرانكل» وهو طبيب نفسي نمساوي الجنسية، يقع الكتاب في 211 صفحة من القطع المتوسط، قام بترجمته دكتور طلعت منصور، وراجعه وقدم له دكتور عبد العزيز القوصي، والكتاب صادر عن دار القلم بالكويت عام 1982. إن «فيكتور فرانكل» مؤلف الكتاب، كان قد تم اعتقاله بأحد معسكرات النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الكتاب يحكي المؤلف وقائع حياته اليومية هو وبقية المعتقلين، ولقد وصف «فرانكل» الأهوال التي واجهها هو وزملاؤه طوال فترة الاعتقال. ذاق الجميع خلالها عذابًا يوميًا فوق طاقة احتمال البشر؛ مما دفع عددًا كبيرًا من نزلاء المعتقل إلى الانتحار. وضع المؤلف نظرية في «العلاج بالمعنى»، حاول من خلالها أن يجعل المريض واعيًا كل الوعي بالتزاماته في الحياة، ومن ثمَّ علينا أن نترك للمريض النفسي حرية اتخاذ القرار بشأن إدراكه لنفسه كشخص قادر على تحمل مسؤولية اختيار أهدافه في الحياة.
وليس العلاج بالمعنى تعليميًا ولا وعظًا. فهو بعيد عن التفكير المنطقي، وبعيد كذلك عن النصائح الأخلاقية. فالدور الذي يلعبه المعالج بالمعنى أقرب إلى دور إخصائي العيون منه إلى الرسام: فالرسام يحاول أن ينقل إلينا صورة عن العالَم كما يراها هو، في حين أن طبيب العيون يحاول أن يمكننا من أن نرى العالَم كما هو في الواقع. وعلى هذا النحو يتحدد دور المعالج بالمعنى بمد المجال البصري للمريض وتوسيعه لكي يصبح المريض واعيًا بالمجال الكلي للمعنى وما ينطوي عليه من قيم، ويكون قادرًا على رؤيته والتبصر به. فالعلاج بالمعنى ليس بحاجة إذن إلى أن نفرض أية أحكام على المريض، لأن الحقيقة تفرض نفسها بالفعل ولا تحتاج إلى تدخل أو واسطة.
حينما يجد الإنسان أن مصيره هو المعاناة، فإن عليه أن يتقبل آلامه ومعاناته، كما لو أنها مهمة مفروضة عليه؛ وهى مهمة فريدة ومتميزة. وعليه أن يعترف بالحقيقة بأنه في المعاناة فريد ووحيد في الكون. ولا يستطيع أحد أن يخلصه من معاناته أو يعاني بدلاً منه. وفرصته الوحيدة تكمن في الطريقة التي يتحمل بها أعباؤه ومتاعبه. فهناك كثير من الآلام والمعاناة مما يتحتم علينا أن نجتازه. لذا، فمن الضروري أن نواجه كل المعاناة، محاولين الاحتفاظ بلحظات الضعف وبفترات الدموع المنهمرة إلى الحد الأدنى. ولكن لا مبرر للخجل من الدموع، لأن الدموع تحمل دليلاً على أن الإنسان يحظى بأعظم شجاعة وهى شجاعة تحمل المعاناة.
ويستشهد المؤلف بمثال توضيحي، إذ يقول:
لجأ إليَّ ذات مرة طبيب متقدم في العمر طلبًا للاستشارة بسبب ما كان يعانيه من اكتئاب شديد. ذلك أنه لم يستطع أن يتغلب على مشكلة فقدانه لزوجته التي ماتت منذ عامين، والتي كان يحبها حبًا جمًا. والآن سألت نفسي كيف يمكن أن أساعده؟ وما الذي عليَّ أن أقوله له؟ قررت ألا أقول شيئًا، واكتفيت بطرح السؤال الآتي عليه:
- دكتور.. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو أنك توفيت أنت أولاً ، وأن زوجتك ظلت باقية على قيد الحياة بعد وفاتك؟
قال الطبيب بنبرة تعكس إحساسه بالدهشة والألم:
= كان هذا سيسبب لها ألمًا رهيبًا للغاية، إذ كانت ستشعر باللوعة والمعاناة.
وعندئذ قلت له:
- هكذا ترى يا صديقي .. إنها كانت ستعيش تلك الآلام وهذه المعاناة، في حين أنك أنت الآن الذي تعيش من أجلها متحملاً تلك الآلام والمعاناة، وعليك الآن أن تضحي من أجلها بالعيش على ذكراها.
لم ينطق الزائر بكلمة واحدة، ولكنه صافحني وانصرف بهدوء.
إن المعاناة تتوقف عن أن تكون معاناة بشكل ما في اللحظة التي تكتسب فيها المعاناة معنى، مثل معنى التضحية.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن المعاناة لا يكون لها معنى إلا إذا كانت ضرورية، ولا غنى عنها على الإطلاق؛ ففي حالة مرض السرطان مثلاً إذا كان من الممكن علاجه عن طريق عملية جراحية، فلا يجوز أن يُحجم المريض عن إجراء هذه العملية متحملاً قسوة المرض، سائرًا إلى نهايته المحتومة. إن هذا الموقف لا يندرج تحت معنى التضحية، وإنما هو مجرد «مازوخية» أو «تعذيب للذات».
هذا التفرد، الذي يميز كل فرد عن غيره والذي يعطي المرء معنى لوجوده ينطوي على عمل إبداعي، بقدر ما ينطوي على الحب الإنساني. وحينما يتحقق الشخص من استحالة أن يحل أحد مكانه، فإن هذا يسمح بظهور المسؤولية بكل ضخامتها وأبعادها مما يحمله الشخص لأجل وجوده واستمراره وبكل ما يحمله من عظمة. إن الإنسان الذي يصبح واعيًا بالمسؤولية التي يحملها إزاء إنسان آخر ينتظره بشوق وحنان، أو إزاء عمل لم يكتمل، سوف لا يكون قادرًا أبدًا على التفريط في حياته، فهو يعرف سبب وجوده ويشعر بالغاية منه، ويكون قادرًا على تحمل هذا الوجود.