رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


"محمود درويش" صوت شعري ناضج قاوم لأجل فلسطين

9-8-2021 | 11:01


محمود درويش

مريانا سامي

يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش: ما أصعب أن يكون المرء فلسطينيًا وأن يكون الشاعر فلسطينیًا إذ عليه أن يكون داخل نفسه وخارجها في أن يحقق الجمالية والفعالية معا، عليه أن يترك سياسة الأسطورة، ويستبصر شعرية الواقع، عليه أن يكون اثنين في واحد، شاعرا، وسياسيا.

يوافق اليوم ذكرى وفاة شاعر من أهم شعراء فلسطين بل أهم شعراء العصر الحديث وهو محمود درويش صاحب الصوت الشعري الناضج والواعي الذي أحب فلسطين وخاطبها كحبيبة وكوطن وهوية يفتخر بها.

ولد محمود درويش في الثالث عشر من مارس لعام 1941 بقرية البروة قرب ساحل عكا بفلسطين لأسرة متوسطة الحال تعيش وتكسب قوت يومها من الزراعة في قريتهم، وفي عام 1948 أحتل الصهاينه القرية وعمدوا إلى تشريد وطرد أهلها وحين قاوم أهل القرية، حرقوها بأكملها، ففرت الأهالي إلى قرى مجاورة أو إلى سوريا ولبنان.

عاش محمود درويش طفولة مؤلمة بائسة، فحين أتم السبع سنوات استيقظ ذات ليلة على صراخ أمه وهرولة من كل مكان وهم يهربون من طلقات النار ورصاص الاحتلال، وقضى عام بأكمله لاجئ في لبنان يأكل الجبن الأصفر ويقف في طوابير مساعدة اللاجئين، يسمع من هنا وهنا تحرشات الأطفال ونعته بكلمة لاجئ، عرف وقتها لأول مرة معنى كلمة الوطن والحدود والأرض، تاركًا حياة الطفولة واللعب ليصبح رجًلا صغيرًا يحلم بالعودة إلى بيته مجددًا.

أنقضت سنة من عمر محمود درويش في لبنان ثم عاد إلى فلسطين مرة أخرى ولكن في قرية غير قريته التي أحرقها الأحتلال، وظل في مدرسته مطارد، فحين كان يأتي مفتش المعارف كان المعلمون يخبئونه في المخازن لانه قد عاد إلى فلسطين متسللاً وكانت ترفض السلطات الإسرائيلية منحه جنسية وطنه، فكان دائم القول "أنه لاجئ في وطنه" وقد أضطر للقول فيما بعد إنه من أحد القبائل للحصول على بطاقة الهوية الأسرائيلية.

في بداية حياته كان رسامًا ماهرًا، كانت هناك بوادر لموهبة فنية كبيرة لكن درويش تخلى عنها بسبب فقر والده وعدم مقدرته على شراء أدوات الرسم فبكى وقتها وتخلى عنه نهائيًا، ثم حاول تعويض ذلك في كتابة الشعر، فكان يكتب عن أحلامه وأفكاره كطفل فلسطيني مطارد وغريب في وطنه، ويذكر محمود درويش إنه ذات مرة طلب منه مدير المدرسة المشاركة في مهرجان الاحتفال بإقامة إسرائيل دولة، فوقف أمام الميكروفون وألقى قصيدة كانت بمثابة صرخة من طفل عربي إلى طفل يهودي، الأمر الذي عرضه للإهانه من قبل الحاكم العسكري الذي استدعاه ووبخه وهدده وأمره بالتوقف عن كتابة هذه الأشعار وإلا منعوا والده من العمل.

حين أنهى محمود درويش دراسته الثانوية تعرض للسجن عدة مرات تحديداً بين الأعوام من 1961 وحتى 1969 بسبب أشعاره وبسبب تعسف سلطات الأحتلال ضده وضد أي مناضل أو شاعر يظهر أنذاك للمطالبة بحرية وحقوق بلاده وأهله، ولم يوافقوا على استكماله للدراسة الجامعية، إلا بعد ترشيح من الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي كان منضمًا له بحكم بطاقته الأسرائلية، ثم بعد استكمال دراسته الجامعية سافر إلي القاهرة ومنها إلي بعض العواصم وقد شغل وقتها العديد من المناصب الإعلامية المرموقة.

وحين كان عمر درويش عشرين عامًا، وقع في غرام فتاة يهودية تسمى تماري بن عامي الشهيرة ب ريتا ، كانت ترقص في حفل من حفلات الحزب الشيوعي الاسرائيلي وكان درويش حاضرًا، كانت حبه الأول وكتب لأجلها " بين ريتا وعيوني بندقية.. والذي يعرف ريتا.. ينحني ويقبل لإله في العيون العسلية".

لم يكن درويش يتحدث كثيرًا عن علاقته بحبيبته الأولى ريتا ربما لكونه مناضلًا وشاعرًا فلسطينيًا من الطراز الأول وهي يهودية يفصلهما قضية الوطن والهوية والكثير من البنادق، لكنَّ الحكاية عرفت بعد موته على لسان ريتَّا نفسها، حين أخرجت العديد من الرسائل والقصائد التي كتبها لها درويش وحكت كواليس علاقتهما أثناء صناعة فيلم تناول قصتهما.

تركها درويش وسافر للعديد من العواصم كما ذكرنا وهي حاولت بدورها التواصل معه لكنه كان لقاء فاتر وحزين قال لها فيه أنها لا تعي جيدًا مايدور حولهم وتركها.

وعن شعر محمود درويش فقد مر الشاعر بثلاثة مراحل فنية حتى أكتمل نضجه كشاعر واعي وصوت ناضج وحالة متميزة ومؤثرة، كانت المرحلة الأولى تتمثل في ديوان "عصافير بلا أجنحة" وهو أول ديوان له صدر عام 1960 وعبر فيه تعبيرات مباشرة عن معاناة طفولته وقد قال عنه أن أفكاره كانت محدودة وصوره الشعرية تقليدية صريحة.

أما المرحلة الثانية فكانت متمثلة في ديوان "أوراق الزيتون" عام 1964 وظهر فيه حالة من التطور السريع والعميق في الشعر والتناول الأدبي للقضايا من حوله، كما يظهر تأثره الشديد بشعراء التيار الرومانتيكي أنذاك؛ والمرحلة الثالثة تتمثل في دواوين: عاشق من فلسطين، أخر الليل والعصافير تموت في الجليل.

ويقول هاني الخير في كتابه "محمود درويش رحلة في عمر دروب الشعر" أنه في المرحلة الثالثة وصل إلى القدرة على الإيحاء. وهذه القدرة أو السمة الفنية، تحل محل الخطابية والتعابير المباشرة الواضحة المغزى. فهو يلجأ إلى الرمز، والأسطورة، والصور الذهنية المركبة بإيحاءاتها المختلفة، التي يستمدها من التراث الإنساني، ومراعاة ألا يتحول شعره إلى شعر غامض يحوم في دائرة التعقيد والاستعصاء عن الفهم، لئلا يخرج عن موضوعه الأساسي الذي نذر نفسه له، وهو وطنه المحتل وجرح فلسطين الراعف، وفي هذه المرحلة يتأثر محمود درويش تأثرا جليا بكوكبة من أعلام الشعراء العرب أمثال: بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس.

وعن شعر محمود درويش يقول الناقد رجاء النقاش في كتابه محمود درویش شاعر الأرض المحتلة: لقد استطاع محمود درويش أن يصل إلى توازن دقيق واضح بين الموسيقى الخارجية والموسيقى الداخلية فصوت قصيدته مسموع، وهو بذلك يتخلص من ذلك الخفوت الموسيقي والفتور النغمي الذي نلاحظه في عدد غير قليل من نماذج الشعر الجديد، والذي يدفع النقاد إلى وصف هذه النماذج بأنها نثرية، أي أنها قريبة إلى النثر بقدر بعدها عن الشعر.

ولكننا بالنسبة لشعر محمود نحس بموسيق هذا الشعر إحساسا واضحا، فيجعل من قصيدته عملا فنيا مسموعا بالأذن والقلب معا، وتستطيع أن تتبين القدرة الموسيقية الواضحة عند درويش دون عناء كبير.

وأما في كتاب "جماليات المفارقة في الشعر العربي المعاصر" تقول الدكتورة نوال بن صالح: إنه برغم الشهرة العريضة التي حققها درویش عربیا و عالميا؛ و بالرغم من مئات الدراسات والأطروحات الأكاديمية التي كتبت حول شعره إلا أنه لا يزال - في نظري- غير مقروء جيدا، فالنقد الذي كتب حول أعماله لا يزال أسير نظرة نمطية لشعره تقرأه فقط من منظور سياسي، أو بطريقة تفقده طابعه الجمالي .

الحقيقة أننا لا نستطيع إخفاء البعد السياسي في شعره، ذلك أن درویش شاهد على مرحلة حرجة من تاریخ فلسطين، لكن علينا أيضا أن نبحث في أدوات التشكيل الجمالي لهذا الإبداع المتميز خارج إطار السياسة. فدرویش لم يتك على شهرة القضية الفلسطينية من أجل أن تُشهره، فکثير من الكتـاب و الشعراء الذين خرجوا من معطف العاطفة و القداسة و التداعیات التي تثيرها النكبة و الشتات والثورة، ما لبثوا أن خفتت أصواتهم و نضبت قرائحهم، أما محمود درويش فهو ابن القضية كتب انطلاقا من مواقفه الوطنية نَعَمْ، لَكن متسلحا بأدواته الفنية، ليدخل القضية إلى عمق الوجدان الإنساني مما جعله يحتل موقعا خاصا في الشعرية العربية عموما، ليس باعتباره صاحب نص شعري متميز فقط، و إنما لكونه استطاع ببراعة أن يحقق التوازن الصعب بين جماليات الفن وانکسارات الواقع الذي یکابده.

فالكتابة عن تجربة درويش إذا - لیست مجرد كتابة عن تجربة شعرية، إنها استحضار الحالة إنسانية متعددة المداخل و متشابكة الخيوط، يظنها البعض في متناول اليد، بيد أن الأمر أكثر من ذلك غورا، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار صعوبة مفهوم المفارقة و اتساعه واستعصاءه على الضبط و الإحاطة، فهذه الكتابة هي حركة داخل الحركة، و التماس حثيث للجوهري في أعماق البداهة.

وفي عام 2008 كتب محمود درويش "أنا أعرف أنَّ صراعي مع الموت هذه المرة.. أن الموت سينتصر" كان قد دخل في حالة مرض شديدة جعلته يلجأ لجراحة في القلب في الولايات المتحدة الأمريكية فشلت بعدها الجراحة ودخل في غيبوبة وبناء على وصيته تم نزع الأجهزة الطبيه عنه ليفارق دنيانا في التاسع من اغسطس، ليعلن بعدها الرئيس الفلسطيني الحداد ثلاثة أيام على رحيل واحد من أهم الشعراء في فلسطين وأهم المناضلين والشخصيات المؤثرة.