رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


الاستعمار الاستيطاني الصهيوني

22-5-2017 | 13:37


د. عبدالوهاب المسيري

الاستعمار الاستيطانى (الإحلالى أو المبنى على الأبارتهايد) هو انتقال كتلة بشرية من مكانها وزمانها إلى مكان وزمان آخر، حيث تقوم الكتلة الواحدة بإبادة السكان الأصليين أو طردهم أو استعبادهم، أو خليط من كل هذه الأمور (كم حدث فى أمريكا الشمالية وفى فلسطين). ومهما بلغ الإنسان من وحشية وحياد، فهو لا يستطيع القيام بمثل هذه الأفعال إلا إذا كان هناك مبرر، وهذه هى وظيفة الأسطورة (التى نُعرِّفها بأنها نموذج معرفي، أى رؤية كاملة للكون (الإله ـ الإنسان ـ الطبيعة)، ولكن علاقتها بالواقع واهية إلى أقصى درجة).

1ـ إذا كان جوهر الأسطورة، أية أسطورة، هو إلغاء الزمان أو تجميده والانفصال عن المكان، فإن هذا الاتجاه يأخذ شكلاً متطرفاً فى حالة أسطورة الاستعمار الاستيطانى بشكل عام، الذى ينطلق من الإنكار الكامل للتاريخ بشكل متطرف، وإعلان نهايته. ويزداد الإنكار حدة وعنفاً فى حالة المجتمعات الاستيطانية الإحلالية، التى لابد أن تُغيِّب السكان الأصليين تماماً. ونقطة البداية عند المستوطنين البيض المهاجرين من العالم الغربى هى عادةً رفض تاريخ بلادهم الأصلية، باعتباره تاريخ اضطهاد وكفر. ويحاول المهاجرون أن يضعوا “حلاً نهائياً” لمشاكلهم وأن يبدأوا من نقطة الصفر الفردوسية فى الأرض الجديدة. ومع هذا يتباهى هؤلاء المستوطنون بانتمائهم للعالم الغربى الذى لفظهم. ويتضح هذا الجانب فى أسطورة الاستيطان الصهيونية التى تبدأ برفض تاريخ اليهود فى المنفى (وضمن ذلك العالم الغربي). والصهيونية هى الحل النهائى الذى يطرحه الصهاينة والاستيطان فى صهيون هو نقطة البداية والصفر، ومع هذا لا يكف الصهاينة عن الحديث عن دولتهم باعتبارها واحة الديموقراطية الغربية فى الشرق وقاعدة الحضارة الغربية فيه.

2ـ ينكر المستوطنون البيض تاريخ السكان الأصليين فى الأرض التى سيهاجرون إليها ويستوطنون فيها. فهى عادةً أرض عذراء بلا تاريخ، غير مأهولة بالبشر (أرض بلا شعب)، على عكس الأرض التى يأتى منها المستوطنون، فهى مكتظة بالسكان. ومرة أخرى نجد أن أسطورة الاستيطان الصهيونية تعبِّر عن هذا بشكل متبلور، إذ يزعم الصهاينة أن فلسطين هى إسرائيل أو صهيون، وأن تاريخها قد توقَّف تماماً برحيل اليهود عنها. بل إن تاريخ اليهود أنفسهم قد توقَّف هو الآخر برحيلهم عنها، ولن يُستأنف هذا التاريخ إلا بعودتهم إليها، ولكنه تاريخ جديد خال من الاضطهاد والصراع، فهو أقرب إلى التاريخ المقدَّس.

3ـ لا تؤكد أسطورة الاستيطان الغربية نهاية التاريخ وحسب وإنما نهاية الجغرافيا كذلك، فالأرض التى يستوطن فيها الإنسان الأبيض هى أرض وحسب، ليس لها حدود واضحة، ولذا فهى تتسع حسب قوة الإنسان الأبيض الذاتية، كلما زاد عدد المستوطنين وازدادوا قوة اتسعت الحدود. ومن هنا فكرة الرائد والجبهة المتسعة دائماً. والرائد هو الذى يرتاد أرضاً جديدة دائماً، لا يعرف حدوداً ولا قيوداً ولا سدوداً. وارتباط نهاية التاريخ بنهاية الجغرافيا أمر متوقع، ففكرة الحدود فكرة إنسانية حضارية غير طبيعية، أما عالم الطبيعة فلا يعرف الإنسان، ومن ثم فهو لا يعرف الحدود. وأسطورة الاستيطان الصهيونية هى أسطورة التوسع بالدرجة الأولى، فإرتس يسرائيل ليس لها حدود واضحة، فالعهد القديم يحتوى أكثر من خريطة. والمستوطنون الصهاينة أطلقوا على أنفسهم مصطلح “حالوتسيم”، أى “رواد”.

4ـ إذا حدث أن كانت الأرض العذراء مأهولة بالسكان فإن أسطورة الاستيطان الغربية تحاول تهميشهم، فهم قليلو العدد متخلفون يفتقرون إلى الفنون والعلوم والمهارات المختلفة، يهملون الثروات الطبيعية الكامنة فى الأرض. وهم عادةً مجرد رحالة لا يستقرون فى أرض ما، وهم شعب لا تاريخ له، فأعضاؤه جزء لا يتجزأ من الطبيعة (كالثعالب والذئاب) ومن ثم لا حقوق لهم. لكل هذا فإن وجود مثل هؤلاء الناس هو وجود عرضى ومن الضرورى وضع حل جذرى ونهائى للمشكلة الديموجرافية، أى مشكلة وجود السكان الأصليين فى الأرض العذراء، وضرورة اجتثاث شأفتهم تماماً.

وأسطورة الاستيطان الصهيونية تنظر للوجود الفلسطينى فى فلسطين باعتباره أمراً عرضياً هامشياً، والاعتذاريات الصهيونية مليئة بالحديث عن فلسطين باعتبارها أرضاً مهجورة مهملة، وكثيراً ما يتحدث الصهاينة عن الفلسطينيين كما لو كانوا جزءاً من الطبيعة بلا تاريخ. وكل هذا ينتهى بطبيعة الحال بتأكيد حق اليهود المطلق فى فلسطين (ومن هنا قانون العودة) وينكرون هذا الحق على الفلسطينيين (ومن هنا مخيمات اللاجئين). وتحاول الحركة الصهيونية وضع حل نهائى للمشكلة الديموجرافية فقامت أحياناً بالإبادة (دير ياسين ـ كفر قاسم) ولكن الطرد كان الشكل الأساسي. وبعد اتفاقيات أوسلو أخذ الحل النهائى شكل عزل السكان الأصليين داخل مجموعة من القرى والمدن ومحاصرتهم بالقوات العسكرية الإسرائيلية والطرق الالتفافية.

5 ـ  تم تبرير الرؤى الاستيطانية الإحلالية عن طريق القصص الإنجيلية، وهنا يحدث تلاق كامل بين أسطورة الاستيطان الغربية العامة وأسطورة الاستيطان الصهيونية. فالمستوطنون البيض (وضمنهم الصهاينة) ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم من الآباء (البطارقة) الذين تركوا بلادهم ليستقروا فى بلاد أكثر اتساعاً، أو فى أرض عذراء لم يستوطن فيها أحد من قبل. وهم مثل العبرانيين يخرجون من مصر (أو بابل) أرض المنفى البغيضة، وينسلخون من تاريخها ليعودوا إلى صهيون (الجديدة) بأن “يصعدوا” لها. فإن وجدوها مأهولة فأهلها إذن من الكنعانيين الذين لا حق لهم فى الأرض ومصيرهم هو الحل النهائي: الطرد أو الإبادة. وغنى عن القول أننا حينما نتحدث عن «أسطورة» فنحن لا نتحدث عن واقع تشكَّل ولا حتى عن برنامج عمل، وإنما عن قصة أو قصص يوجد فيها بشكل كامن نموذج معرفي، وهذه القصة مستبطنة تماماً، تعبِّر عن نفسها بشكل جزئى وتتحقق بعض جوانبها فى أماكن وأزمنة متفرقة، ولا تتحقق مجتمعة إلا فى لحظة نماذجية نادرة.

الاستعمار الاستيطانى الصهيونى: أهدافه وآلياته وسماته الأساسية

تنطلق الحركة الصهيونية من أن اليهود شعب واحد بلا أرض، وأن فلسطين أرض بلا شعب. ومن ثم يرى الصهاينة أن فلسطين هى المسرح الذى يتحقق فيه المشروع الصهيوني، وأنها فى واقع الأمر ملك للشعب اليهودى، سواء كان يشغلها الفلسطينيون أم لا. ووضع هذه الرؤية الأسطورية موضع التنفيذ لم يكن أمراً سهلاً، إذ أن المستوطنين الصهاينة حلّوا فى أرض لا يعرفونها وهى أرض مأهولة بالسكان، ومن هنا كان من الضرورى أن يُنظِّموا أنفسهم بطريقة صارمة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية لوضع المشروع الصهيونى موضع التنفيذ. فتم تأسيس الوكالة اليهودية ومهمتها القيام بمعظم عمليات التخطيط والتطبيق الفعلى لهجرة وتدريب المستوطنين وتأمين كل ما يحتاجونه من وسائل وأدوات إنتاج وخدمات للمهاجرين. وكانت مهمة الصندوق القومى اليهودى شراء الأرض لصالح الفلسطينى. وتُعتبَر المؤسسة العسكرية والتنظيمات شبه العسكرية من أبرز القواعد التى تضطلع بتطبيق المخطط الاستيطانى الصهيونى والمحافظة على استمرار العملية الاستيطانية وحمايتها. فتقوم المؤسسة العسكرية بتعبئة الجماهير وتجنيدهم حول فكرة الاستيطان باعتبارها المثل الأعلى للمواطن الإسرائيلي. أما التنظيمات العسكرية وشبه العسكرية مثل الهاجاناه والناحال والجدناع فتقوم بأدوار الحراسة والأدوار الأمنية ورفع الروح المعنوية.

ويمكن القول بأن الأهداف والسمات الأساسية للاستيطان الصهيونى هى ما يلي:

1ـ يهدف الاستيطان الصهيونى إلى أن تحل الكتلة البشرية (الصهيونية) الواحدة محل السكان الأصليين فهو استعمار إحلالي، وإحلاليته هى سمته الأولى والأساسية (حتى عام 1967).

2ـ حدَّدت منظمة الهاجاناه جوهر الإستراتيجية الاستيطانية عندما أكدت (عام 1943) أن الاستيطان ليس هدفاً فى حد ذاته، وإنما هو وسيلة الاستيلاء السياسى على البلد، أى فلسطين. وقد استمرت هذه السياسة قبل وبعد عام 1948، أى أنها العنصر الأساسى الثابت فى الإستراتيجية الصهيونية. ومن ثم عرَّف بن جوريون الصهيونية بأنها الاستيطان، وهو مُحق فى ذلك تماماً. ولذا يمكن القول بأن الاستيطان هو نفسه التوسع الصهيوني، لا يوجد أيّ فاصل بينهما. وهـذه هـى السمـة البنيـوية الثـانية من سمـات الاسـتيطان الصهيـوني.

3ـ ثمة سمة بنيوية ثالثة يتسم بها الاستيطان الصهيونى هى أنه ليس مشروعاً اقتصادياً وإنما مشروع عسكرى إستراتيجي، ولذا فهو لا يخضع لمعايير الجدوى الاقتصادية، ولابد أن يموَّل من الخارج (الخارج يمكن أن يكون الدياسبورا اليهودية الثرية (أى الجماعات اليهودية فى العالم) أو الراعى الإمبريالي).

4ـ يتسم الاستيطان الصهيونى بأنه استيطان جماعى عسكرى بسبب الهاجس الأمنى (استجابة لمقاومة السكان) ولأن جماعة المستوطنين ترفض الاندماج فى المحيط الحضارى الجديد الذى انتقلت إليه (انظر: «الاقتصاد الاستيطانى فى فلسطين قبل عام 1948: أسباب ظهوره») وتساهم عمليات التمويل من الخارج فى تعميق هذه السمة.

5ـ ارتبط انتشار المستوطنات بحركة الهجرة اليهودية، وهو ما جعل إستراتيجية الاستيطان تتخذ خطاً متوازياً مع الخطوات التى قطعها المشروع الصهيونى لجذب المهاجرين اليهود واقتلاعهم من البلاد التى أقاموا فيها.

6 ـ من الملاحَظ أن المؤسسات الاستيطانية الصهيونية تقف على رأسها بدلاً من أن تقف على قدميها (ويمكن أن نسميها الهرم الاستيطانى الصهيونى المقلوب)، فقد كان هناك مزارع الكيبوتس وهى تنظيمات زراعية هدفها الاستيلاء على الأرض التى ستُزرع وتكوين طبقة مزارعين يهود. كما كان هناك الهستدروت، وهو نقابة عمال تهدف إلى خَلْق الطبقة العمالية (وذلك على خلاف النقابات العمالية التى لا تظهر إلا كتعبير عن وضع قائم بالفعل). ثم كانت هناك جماعات الحراس المختلفة مثل الحارس والهاجاناه والبالماخ وهى تنظيمات عسكرية تهدف إلى خَلْق الشعب اليهودى (أى أن الجيش يسبق الشعب، أو كما قال شاعر إسرائيلي: كل الشعوب تملك سلاح طيران إلا فى إسرائيل حيث يوجد سلاح طيران يملك شعباً). بل إن الجامعة العبرية نفسها أُسِّـست بادئ الأمر كمبان وهيئة تدريس فى انتظار الطلبة.

ويمكن سحب هذا المنطق على كل الحركة الصهيونية، فهى قد بدأت بتأليف الحكومة التى كان هدفها الأساسى إقامة الدولة التى كانت ترمى أساساً إلى تجميع السكان (حكومة فدولة فشعب). وما من شك فى أن هذا يعود إلى أن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة هى صيغة غير يهودية تم تهـويدها لتجنيد المـادة البشرية التى رفضت هـذه الصيغة أو تملَّـصت منها. كما أن الأصول الطبقية لبعض العناصر البشرية المستوطنة صعَّبت عليهم الاضطلاع بوظائف معينة، ولذا كان حتمياً أن يسبق عملية الاستيطان مؤسسات استيطانية مختلفة، مهمتها جذب المستوطنين وتدريبهم. كما أن من أهم سمات الاستيطان الصهيونى أن الكيان الاجتماعى الصهيونى فى فلسطين لم يكن متكاملاً، بل كان فى مرحلة بداية التكوُّن والتشكُّل، ولم يكن هدف المستوطنين الاندماج فى المجتمع القائم بل إقامة كيان اجتماعى وسياسى مستقل.

ويُعَد عام 1967 لحظة فارقة فى تاريخ الاستعمار الاستيطانى الصهيونى فى فلسطين، إذ ضمت الدولة الصهيونية مساحات شاسعة من الأراضي، وقرَّرت الاحتفاظ بها وتأسيس المستوطنات فيها، رغم وجود كثافة سكانية فلسطينية فيها. ومن ثم تحوَّل الاستعمار الاستيطانى الصهيونى من استعمار استيطانى إحلالى إلى استعمار اسـتيطانى مبنى على الأبارتهايد وفكـرة المعازل البشرية للسكان الأصليين. ولكن، مع هذا، لم تتغيَّر الثوابت الإستراتيجية الصهيونية، وإن اختلفت الأهداف والآليات بسبب تغيُّر الظروف.

ويمكن تحديد أهداف الاستيطان الصهيونى فى الأراضى المحتلة بعد عام 1967 بما يلي:

1ـ تهيئة الفرصة لوجود عسكرى إسرائيلي، سواء من خلال قوات الجيش الرئيسية أو عن طريق الاستعانة بمستوطنين مسلحين يتبعون هذه القوات أو باستخدام وحدات من جيش الاحتلال يتم نشرها.

2ـ أن تكون المستوطنات رأس جسر لكسب مزيد من الأرض من خلال نزع الملكية أو سُبل أخرى أكثر دهاءً مثل إزالة المزروعات واقتلاع الأشجار ورفض التصريح بإقامة مبـان جديـدة أو إصلاح المبـانى القديمة.

3 ـ  خَلْق الحقائق الاستيطانية الجديدة فى الأراضى المحتلة بحيث تصبح العـودة إلى حـدود عام 1967 مستحيلة. ومما يجـدر ذكره أن الاسـتيطان قام، دائماً، بدور أساسى فى رسم حدود الكيان الصهيوني، وخصوصاً منذ بداية عرض خطط تقسيم فلسطين فى النصف الثانى من الثلاثينيات، وصولاً إلى صدور قرار تقسيمها سنة 1947. ولا شك فى أن الإسرائيليين يطمعون فى أن يقوم الاستيطان الجديد بدور مماثل فى توسيع حدود كيانهم.

واستهدفت السياسة الاستيطانية بناء خط من المستوطنات من الجولان حتى شرم الشيخ مروراً بغور الأردن. وأهم مشروع استيطانى كان مشروع إيجال آلون الذى استهدف بناء حاجز بين الضفتين الغربية والشرقية وتصحيح الحدود وتعديل مسار الخط الأخضر، وتجزئة الضفة الغربية إلى منطقتين.

4ـ إيجاد القاعدة البشرية من المهاجرين اليهود من مختلف أنحاء العالم.

5ـ بعد فشل الصهاينة فى “إقناع” الفلسطينيين (عن طريق شراء الأراضى والإرهاب) بترك الأرض بحيث تصبح أرضاً بلا شعب، قرَّر الصهاينة اللجوء إلى أسلوب الأبارتهايد التقليدى وهو تأسيس المعازل، ومن ثم أصبح من أهم أهداف المستوطنات قطع التواصل بين مناطق سكنى الفلسطينيين، بحيث ينقطع الاستمرار بين المراكز السكانية الفلسطينية الأساسية، أى أن وظيفة المستوطنات أصبحت تحويل الضفة الغربية إلى كانتونات ممزقة مفصولة بعضها عن بعض ولا تربطها سوى ممرات محدودة تحيط بها من كل جانب المستوطنات والثكنات العسكرية للجيش الإسرائيلى بحيث لا يستطيع الفلسطينيون التحرك بحرية داخل الأراضى المحتلة. وبالفعل قامت المستوطنات الموزَّعة فى كتل أو أطواق بخدمة إستراتيجية “الفصل” و”الوصل” الاستيطانية. فالأطواق الاستيطانية المحيطة بالقدس تؤمن التواصل فيما بينها وبين القدس الغربية، وتفصل القدس الشرقية عن سائر الضفة، كما تفصل شمال الضفة عن جنوبها، فى آن واحد. كما أن الشريط الاستيطانى المحاذى للخـط الأخضر يُشـكِّل اسـتمراراً إقليمياً لفلسـطين المحتلة سـنة 1948، وعازلاً بين الفلسطينيين على جانبى الخط، على غرار الهدف الذى حدده دروبلس لخطة “الكواكب السبعة”. وينطبق الأمر نفسه على كتلتى الاستيطان فى جنوب مرتفعات الجولان وشمالها، وعلى كتلة مستوطنات إيرز الناشئة فى شمال قطاع غزة. أما كتلة قطيف الاستيطانية فى جنوب القطاع فتُشكِّل تطويقاً لمدن القطاع، وعازلاً صهيونياً على الحدود الفلسطينية ـ المصرية.

وشهد الاستيطان الإسرائيلى، خلال هذه الفترة، تقلبات فى الوتيرة وتغيرات فى التركيز الجغرافى، تعود أساساً إلى اختلاف الحزب/الائتلاف الحزبى الحاكم، وبالتالى، اختلاف تكتيكه الاستيطانى باختلاف نظرته السياسية الأمنية إلى الأراضى المحتلة ومتسقبلها. ومع ذلك، فإن الخريطة الاستيطانية الراهنة جاءت نتاجاً للتفاعل والتجاذب بين هذا التباين التكتيكى والإجماع القومى الإستراتيجى الذى يلف مختلف الأحزاب الصهيونية (عدم العودة إلى حدود 1967، وخصوصاً تهويد القدس وضمها إلى إسرائيل).

ففى بداية الاستيطان بعد حرب يونيو 1967، كان هناك منطق سياسى وراء إنشاء المستوطنات، إذ تم تحضيرها استناداً إلى الخطة التى وضعها بيجال آلون، وعلى أساس الاحتياجات “الأمنية” الحيوية لدولة إسرائيل، وأصبحت هذه الخطة منذ أن وُضعت الموجِّه الأساسى لسياسة حزب العمل تجاه الأراضى الفلسطينية المحتلة، كما كانت الموجِّه الأساسى لنمط الحلول السياسية التى تقترحها أو تقبلها إسرائيل.

ولكن حتى حكومات حزب العمـل، خرجـت عن معـايير مشـروع آلون، إما خضوعاً للمتزمتين حين أنشأوا مستعمرة كريات أربع فى الخليل، أو نزوة وزير الدفاع موشى ديان، الذى أنشأ مستعمرة يميت فى سيناء، أو نتيجة صراعات داخلية بين إسحق رابين وشمعون بيريز فى عهد حكومة رابين الأولى، حيث حدث توسُّع فى مناطق معينة فى الضفة الغربية لا تشملها خطة آلون. ولكن سلوكها كان محكوماً بالمنطق الداخلى لبنية الاستيطان الصهيوني، التى تتجه نحو المزيد من ضم الأراضى والتوسع.

والخروج على قواعد خطة آلون فى عهد حزب العمل كان بمنزلة قطرات خفيفة نسبياً، ولكن هذه القطرات تحوَّلت فى عهد حكومات الليكود إلى طوفان، وبعد إخلاء مستعمرة يميت إثر توقيع الصلح المصرى  الإسرائيلى، وبعد الفشل فى حرب لبنان عام 1982، أرادت حكومات حزب الليكود إرضاء ناخبيها فضاعفت زخم الاستيطان، ولم يعارض حزب العمل ذلك، وغطى موافقته آنذاك، بموقف سياسى يقول “ضمن العلاقات السلمية من الممكن أن تظل مستوطنات يهودية تحت السيادة العربية، كما توجد مدن وقرى عربية تحت السيادة الإسرائيلية”.

لقد جاءت المحصلة الاستيطانية منسجمة مع جوهر الإستراتيجية الاستيطانية الصهيونية سواء من جهة انتشار المستوطنات أو تركيزها. فمن جهة الانتشار غطت المستوطنات مختلف أنحاء الأراضى العربية المحتلة بهدف إحكام السيطرة عليها، فأُقيمت مستوطنات لا مبرر أمنياً لها ولا جدوى اقتصادية لها، مثل مستوطنة نتساريم فى غزة، وهذه حال المسـتوطنات التى أقامها المعراخ فى وسـط الجولان إثر حرب 1973، والمستوطنات التى نثرها الليكود فى سائر أنحاء الضفة خارج مناطق الأمن.