درويش وغسّان ورضوى .. المشاكس والمفخخ والصبية ذات التنورة!
سلمى أنور
محمود درويش، غسان كنفاني، رضوى عاشور، وسواهم ممن كتبوا أدبا سميناه "أدب مقاومة". لماذا كتبوه؟! لماذا كتبوا ما كتبوا؟ لماذا نظموا الشعر وكتبوا الرواية وملأوا الجدران والكاميرات والميكروفونات بالكلمات الغاضبة والمنذرة والمذكرة والمملوءة بالحنين؟ لماذا جلدونا وجلدوا ذواتهم بكل تلك الحروف التي لا تبرح الوجدان؟ لماذا كتبوا والأرض لا تسترد بالكتابة، والغاصب لا يرحل بالكتابة، واللاجئون لا يعودون بالكتابة؟
كلما استعرضتُ قطفة أو أخرى من أدب المقاومة، فكّرت أنه كان لكل كاتب غاية من فعل الكتابة في هذه الخانة، غاية تناسب مزاجه وتاريخه وطريقته في التعامل مع القدر والأرض والذاكرة والحرب. فحين أمر على مشروع محمود درويش الشعري، أجده يكتب بمزاج طفل مشاكس يأبى إلا أن يقض مضجع كل محتل. لهذا كتب ما كتب لا ليسترد الأرض ولا ليعود لها، بل ليشاكسهم وينغص عليهم أحلامهم التوسعية الدامية، ويصيبهم بصداع يتوارثه لأجيال. فكان كأنما يكفيه أن يضرب المحتل بأبيات شعر حجرية، ثم يقف بعدها غير بعيد، طفلا كبيرا متحديا بصدر مفتوح وعينين مترقبتين ليرى في عدوه أثر الحجر.
إلى أين تأخذني يا أبي؟
إلى جهة الريح يا ولدي …
ومن يسكن البيت من بعدنا-
يا أبي ؟
سيبقى على حاله مثلما كان-
يا ولدي
ـ لماذا تركت الحصان وحيدا؟
لكي يؤنس البيت، يا ولدي
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها
فاصمد معي لنعودَ
ـ متى يا أبي ؟
ـ غدا. ربما بعد يومين يا بني
هذا المشهد الحواري من شعر درويش، مثلا، يحفر نكبة فلسطين التي وقعت في ربيع 1948 في تجاعيد الذاكرة العربية، ويلقي بحجر على كل محاولات الصهاينة للتباكي واستحلاب التعاطف الدولي من هنا وهناك. فالمشهد لا يبدو فيه لأي قارئ منصف إلا أربعة أبطال جديرون بالبكاء: الطفل السائل، الأب المهزوم، الحصان الوحيد، والدار المهجورة. أما الفاعل الحقيقي وراء ذلك المقتطف التراجيدي من مشهد النكبة، فهو المغيّب عمدا واحتقارا ومشاكسة، وهو المضروب بالأسئلة الدرويشية البريئة منذ قصيدته "سجل أنا عربي".
كان درويش يعلم أن شعره يُغضبهم! كان، الطفل المشاكس فيه، يعرف كيف يكون مستفزا، مثيرا للأعصاب ومهيّجا للجنون العاجز عن الفعل. وما تفعل الدبابات في مواجهة القصائد؟!
نجح درويش المشاكس واستمر نجاحه في إغضابهم حتى بعد أن فارق الحياة، وإلا فلماذا ثارت ثائرة وزارة الدفاع الإسرائيلية العام الماضي (2016)، حين أذاعت إحدى الإذاعات الإسرائيلية ذات المزاج اليساري برنامجا عن درويش وشعره؟! لماذا تقافز وقتها وزير الدفاع اليميني المتطرف أفجيدور ليبرمان غاضبا مشبها شعر درويش بما ورد في كتاب "كفاحي" لهتلر؟!
وقبل ليبرمان، كان رئيس وزراء إسرائيل إسحق شامير قد تقافز غضبا هو الآخر في نهايات ثمانينيات القرن العشرين، حين قرأ قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر" وهو يهشُّ بقصيدته المحتلين خارج بلاده:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
كان إذن من الطبيعي لدرويش، الطفل الكبير المشاكس، أن يذيل قصائده جميعا بقصيدته الأخيرة "لاعب النرد"، تلك المشحونة بكل حيرته الوجودية، والتي يُقدّم فيها نفسه للعالم قائلا: "لكنني ولد طائش"!
***
لم يكتب غسان كنفاني بنفس المزاج الذي كتب به درويش. فغسّان كان كاتبا بمزاج مفخخ على حافة الانفجار دائما، لا يكتب قلمه إلا نصوصا منذرة غاضبة، لا يهدئ من غضبها إلا كونها مُزجت على مهل بحزن قديم.
ففي كتابته تشم الغضب الأوليَّ الذي يحتشد على حافة الأنف، غضب الطفل العاجز، كذلك القط الذي قال العجائز: لا تحاصروه وظهر للحائط لأنه لن يكون أمامه إلا أن يخمش وجوهكم المتطلعة إليه في شماتة سخيفة.
في قصته القصيرة "أرض البرتقال الحزين"، التي يُلخص غسّان في برتقالها اليافاوي معنى الوطن، نجده ينفجر غضبا في وجوه الجميع. يحفر بنصل عصبي ذكريات النكبة كما شهدتها طفولته البائسة، دافعا عددا من برتقال يافا في وجوه من يقرءون علّهم ينتبهون لألمه.
حتى الرب الإله، يُصوّب غسّان في قصته القصيرة "أرض البرتقال الحزينة" نحوه شيئا من حُنقه على النكبة والتهجير واللجوء إذ يقول: "إن الصور الملونة التي كانت توزع علينا في كنيسة المدرسة والتي كانت تمثل الرب يشفق على الأطفال ويبتسم في وجوههم، بدت هذه الصور كأنما هي الأخرى أكذوبة من أكاذيب الذين يفتحون مدارس محافظة كي يقبضوا أقساطا أكثر. لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر، وأنه لاجئ في حيث لا أدري، غير قادر على حل مشاكل نفسه".
وفي موضع آخر من مجموعته القصصية الملغومة كتب غسّان: "لي أخ، يا سيدي، يتعلم الذل في مدارس الوكالة، لي أخت تزوجت في قطر ثالث وليس بوسعها أن تراني أو ترى والدي، لي أخ آخر، يا سيدي، في مكان ما لم يتيسر لي أن أهتدي إليه بعد.. تريد أن تعرف جريمتي؟ هل يهمك حقا أن تعرف أم أنت فضولي بريء يا سيدي؟". هذه لم تكن كلمات، بل رصاصات تمر على الأقل فوق رؤوس من لا يفهمون ألم اللجوء وبرد المنافي.
وبرغم كل هذه الانفجارات والرصاصات وقذائف البرتقال الحزين في أدبه، وصف غسّان كنفاني أدبه بعبارة تلخص نزوعه الاستشهادي إذ قال: "كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق وتافه عن غياب السلاح".
كان على غسّان أن يلقى حتفه مفخخا، كما حدث بالفعل. فلم يكن يليق به إلا هذا الموت الخاطف والجليل. تماما كمثل مزاجه الأدبي.
***
رضوى.. ومن ذا الذي لم يلحظ مقاومتها الأنيقة؟!
فهكذا تكتب رضوى عاشور أدبا مقاوما: بتنورة حُلوة، وشعر قصير، وابتسامة!
بكل هذا الوهج الأنثوي، تؤرخ رضوى عاشور لأمتها. تعيد نسج الذاكرة وترتق الثقوب فيها وتعيد تلاوة الحكاية مرة بعد مرة. ومن ذا الذي يمكنه أن يقف في وجه فتاة بتنورة وابتسامة وشعر قصير تحكي الحكايات القديمة كلها كرضوى؟ من ذا الذي يمكنه أن يحشد جيشا أو يصوب رصاصة تجاه صبية، تُعرّيه وتُخزيه وتسلبه تاريخه المكذوب بابتسامة، كرضوى؟!
في روايتها "الطنطورية" التي هي سردية تبدأ قبل النكبة بعام، أي عام 1947، وتنتهي في عام 1948، تؤرخ لمدينة الطنطورة الحيفاوية والمجزرة البشعة التي شهدتها على أيدي عصابات الصهاينة في صيف 1948 وما آلت إليه أرض القرية من مقبرة جماعية لخيرة أبنائها، وكيف توزّع من عاش من نسائها وعجائزها على المنافي لأجيال. تتبع رضوى في روايتها "رقية" بنت الطنطورة في منفاها الطويل، محاولة الوقوف من خلال حكايتها على تاريخ نكبة الطنطورة ذاتها، ومن بعدها تتبع عائلتها في المنفى بمصائرهم وحيرتهم وما صبّت فيهم "رقية" من حنين للأرض الممنوعة. "ثم إن الحكاية صعبة. لا تُحكى. مُتَشَعَبِّةٌ. ثقيلة... كم حرب تتحمل حكاية واحدة؟ كم مجزرة؟ ثم كيف أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعاً؟" تقول رضوى، لتذكر قارئها بثقل الحكاية، وبأن ما تفعله بوجه باسم لا يقل كبدا عن حمل السلاح.
وفي موضع آخر من الرواية، وفيما يبدو كدرس من دروس الصبية الباسمة عن الحرب تقول رضوى: "تعلمك الحرب أشياء كثيرة. أولها أن ترهف السمع وتنتبه لتقدر الجهة التي منها إطلاق النيران. كأنما صار جسمك أذنا كبيرة فيها بوصلة تحدد الجهة المعينة بين الجهات الأربع... أو الخمس! لأن السماء غدت جهة يأتيك منها أيضا الهلاك".
تصر رضوى عبر روايتها تصر على التذكير بملامح الطنطورة قبل النكبة، وعلى التأكيد على أن أهل الطنطورة قاوموا، وحاربوا، ولم يُسلموا أرضهم للعدو إلا بشرف الاستشهاد، وكأنما تدعو الذاكرة الحقيقية للانتصاب في وجه الأكاذيب الصهيونية. أو كما قالت ببراءة مخيفة: "الذاكرة لا تقتُل. تؤلم ألما لا يطاق".