رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


حين يمتزج الفرح بالوجيعة

18-8-2021 | 13:32


علي الهلالي

علي الهلالي

حططت رحالي في باب الشعرية، بعد أن تورمت قدماي من التجوال في زوايا القاهرة، التي أخذت بلُبّي، محاولا أن أعبئ منها قدر ما أستطيع من تاريخ كان عصيا على النسيان.

ألقيت جسدي المتهالك على أحد المقاعد، المتراصة أمام ذلك المقهى، في الشارع الذي كان يشهد مهرجانا اجتماعيا كبيرا، مثل كل شوارع المحروسة، التي تغصُ بالناس.. هذا يبيع، وذاك يشتري، وآخر ينتظر أن يقتنص زبونا للسيارة النقل التي يعمل عليها.. وبين هؤلاء كان الصبي الذي يعمل بالمقهى، يوزع ابتسامته المميزة قبل فنجاين القهوة على زبائنه.

نظرت إليه موجها طلبي، فأشرق وجهه بترحاب، شجعني على أن أطلب منه رفع صوت آلة التسجيل، التي كانت أم كلثوم تصدح من خلالها، وتشدوا ما اتسع المقام بالاطلال.. كانت تبكي وتستبكي.. وجع نال قلبي، الذي كان يطرب لما تترنم به خصوصا حين امتزج الفن بالبيئة التي ولد فيها.

"يا فؤادي لا تسل أين الهوى".. نهي عن التساؤل، والسؤال، في محراب الخوف، رغم  كمّ الشوق، واللهفة، وانعدام التوازن، بين شعورين تضاربا في نفس بشرية ما عادت تدرك ايهما سينتصر.

وأردفتها بألم عانق جملتها الشهيرة: "كان صرحا من خيال فهوى"، لترتعد فرائصي لعمق الوجع الممتزج بخوفها، الذي أطلقته عبر نغمة لا يمكن إلا أن تضع حزن الدنيا كله في قلبك.

ارتشفت فنجاني لأغوص في عمق حياة كنت ارتجيها، وأحلق بخيالي وسط هذا الخضم، وأتذكر كيف كنت أبحث عن أغانيها، في مراهقتي التي عبرتها على جسر الثنائي "الست وعبحليم".

ولم يأخذني من انتشائي بها، إلا طرقها لمحطة كانت تحمل من الإحساس، ما يصعب على القلب احتماله: "اسقني واشرب على أطلاله.. وارو عني طالما الدمع روى".. لم يعد هناك من قدرة على الرواية، حتى أخذ الدمع زمام المبادرة، وصار راويا للحزن والأسى واللوعة.. يا الله كيف تأتى لشاعر أن يحيط بكل هذا الكم من الوجع وينظمه، في نسيج أحببناه، على الرغم مما ندفعه ثمنا له من انفطار قلوبنا.

تصورت إبراهيم ناجي، الطبيب الذي عانق الحياة في تاريخ متفرد، حيث ولد في آخر يوم بآخر شهور السنة، في شبرا الموغلة في العراقة.. الشاعر الذي تلمّس حياته في المنصورة، واكتسب منها رؤيته الشاعرية، قادما نحوي، فارداً قامته، وهو يتأبط رائعتيه اللتين نحتهما من قلبه، "مدينة الأحلام"، و"أدركني يا دكتور".

وأخبرني فيما رواه طيفه، أن مرض السكر هاجمه في بداية ألمه، وجعله يفارق الحياة في العام 1953.. وهنا أدركت سر حلاوة ما انساب من أعماق هذا الرجل، الذي لم يكن دخيلا على الأدب، رغم تخصصه العلمي، إذ نهل من الثقافة العربية القديمة، فدرس العروض والقوافي، وقرأ دواوين المتنبي، وابن الرومي، وأبي نواس، وغيرهم من فحول الشعر العربي، وكان والده من أبرز المثقفين.

ومازال شعر إبراهيم ناجي، يسعدنا ويبكينا في آن معا، إذ لا نستطيع إلا ان نحب هذا الخليط، الذي قدمه الطبيب الشاعر المترجم بتميز.

أنهيت جلستي حين رن هاتفي، لأنتبه لموعد قاربت أم كلثوم، بالتآمر مع ناجي، أن تنسينيه، فغادرت على عجل، وأنا أردد: "ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء"، وفوجئت بالمعلم صاحب المقهى، يتمتم آمين يا ولدي.

كاتب ليبي ورئيس التحرير المساعد لصحيفة الجماهيرية سابقا