ستظل ذاكرة التاريخ عامرة بحكايات الزمن الجميل، ما دام الرواة يسعون للغوص في الماضي لطرح تلك الذكريات والمواقف للأجيال الجديدة لتذكيرهم برواد الفن والثقافة والسياسة وكل المجالات.. فهؤلاء كانوا البدايات والجذور، ومن لا يتشبث بجذوره يطير في الهواء.
من رواد الفن ونجومه كانت الفنانة زينب صدقي، التي تحل ذكرى رحيلها اليوم.. وهي من الرعيل الأول في التمثيل قبل أن تظهر السينما، ومثلت العنصر النسائي في المسرح منذ نشأته.. وقد ولدت زينب صدقي في 15 أبريل عام 1895 وهي من أصول تركية، والتحقت بالعمل في المسرح في عام 1917 وقد منحها الله جمالاً رشحها لأن تكون بطلة المسرح منذ البدايات وقد عملت في فرقة رمسيس مع يوسف وهبي وفرقة الريحاني وفرقة عبد الرحمن رشدي، وكانت تجيد التمثيل بالعربية الفصحى، ومن أهم أعمالها المسرحية مجنون ليلى وكليوباترا.. وقد ساعدها جمال وجهها وطيبة قلبها أن تقوم مع نشأة السينما بدور السيدة الارستقراطية والأم التي تحافظ على عادات وتقاليد أسرتها وطبقتها.
تزوجت زينب صدقي في شبابها ولم يدم زواجها إلا عدة أشهر، كانت وحيدة قبل الزواج، وأصبحت بعده وحيدة أيضاً وكان زملاء الوسط الفني والثقافي هم سندها وأسرتها، منهم سليمان نجيب ويوسف وهبي وأحمد رامي وصالح جودت وشكري راغب مدير الأوبرا وغيرهم.. وقد توفي أحد العاملين في الأوبرا وهو حسن عباس وترك ابنة صغيرة فقامت زينب صدقي بكفالة الصغيرة كوثر حسن عباس واعتبرتها في منزلة ابنتها، وأغدقت عليها بما يسعدها في فترة الطفولة واهتمت بتعليمها حتى مرحلة الشباب.
عرف النبيل سليمان بك نجيب أن زينب صدقي وحيدة وترعى فتاة وتكفلها، وقد كان وقتها سليمان نجيب مديراً لدار الأوبرا، فطلب من شكري راغب وكان من القائمين على إدارة الأوبرا المصرية، أن يراعي كل طلبات ومصالح السيدة زينب صدقي، وبالفعل نفذ الأستاذ شكري راغب وصية النبيل سليمان نجيب، ووقف بجانب زينب صدقي ليلبي كل احتياجاتها، وبعد ذلك أصبح شكري مديراً لدار الأوبرا خلفاً لسليمان بك نجيب.
شاركت زينب صدقي في كثير من صالونات الثقافة التي كان يقيمها الرواد والمثقفون، منهم صالح جودت وأحمد رامي وغيرهم والتي جمعت رموز الفن والسياسة والثقافة، وعرفت زينب بلباقتها ورقتها وأرستقراطيتها رغم مواردها البسيطة من أعمالها الفنية، فقد كانت لا تشرب الماء إلا في كأس كريستال وتأكل بشوكة وسكين كانت قد اشترتهما من مزاد علني عند بيع مقتنيات الملك فاروق، وكانت قد التقت عدة مرات الملك مع نخبة من الفنانين في عدة مناسبات.
زرعت زينب صدقي الخير في شبابها، وتكفلت بكوثر اليتيمة والتي أطلقت عليها اسم ميمي، وتدور الأيام لتحصد زينب صدقي في سنواتها الأخيرة ما زرعته.. فقد روى المقربون أن الشابة راعت أمها التي كفلتها وغمرتها بكل مظاهر البر والعطف والاهتمام.. وقد منح الرئيس السادات معاشاً لكبار نجوم الفن منهم زينب صدقي وقدره مائة جنيه ليعينهم على الحياة في كبرهم.. وقد تزوجت ابنتها ميمي من رجل لبناني، وطلبت من أمها أن تذهب معها لتقيم في بيروت، لكن زينب صدقي رفضت وفضلت أن تقضي ما بقي من عمرها في مصر، فما كان من الابنة التي تعرف أحوال أمها وعجزها إلا أن استأجرت لها جناحاً في مستشفى خاص لتقيم فيه وعينت لها ممرضة خاصة تلبي احتياجاتها.. وكانت ميمي تزورها كل شهر وتزودها بمزيد من المال وتطمئن عليها، ويأتي يوم 23 مايو 1993 ليشهد رحيل الفنانة القديرة طيبة القلب كريمة الأخلاق والطباع جميلة الملامح زينب صدقي.