منذ أيام قليلة رحل الإعلامي الشهير الذي قلب دماغ الإسرائيليين في أثناء حرب 6 أكتوبر 1973.. مات الإذاعي والمراسل الحربي الأشهر في الوطن العربي.
ذات يوم في عام 1976 استدعي الرئيس أنور السادات وزير الإعلام الدكتور جمال العطيفي وسأله في غضب سؤالاً واحداً: أنا عاوز أعرف منك حمدي الكنيسي بيتكرم ولا لا؟ إزاي واحد زي الكنيسي ما يتكرمش رغم أن لجنة أجرانات كلفت خبراء ومسؤولين إسرائيليين ببحث أسباب انتشار برنامجه الإذاعي "صوت المعركة" بين الإسرائيليين المتحدثين بالعربية والفلسطينيين؟
وبعد ساعتين من لقاء الرئيس السادات مع الدكتور العطيفي، استدعي الوزير حمدي الكنيسي، وقال له بالحرف الواحد: أنا هكرمك ليس لأن الرئيس السادات طلب ذلك، ولكن لأنك كادر سياسي هايل وأنا ها أرقيك ترقيتين.. لكن الكنيسي رفض وقال للوزير: ترقيتي هي إنشاء نقابة للإعلاميين.. فوعده الوزير بإنشاء النقابة.. ولكنه خرج من منصبه في أول تعديل وزاري أجراه الرئيس السادات.
على المستوي العام عرفت ( سماعي) الأستاذ حمدي عام 1973 وكان برنامجه اليومي "صوت المعركة" زلزال عاصف ودمر الحالة المعنوية للإسرائيليين، بعد أن "عمل عمايله" وكان وراء قلق وانفعال ورعب جنود العدو في خط بارليف.
كانت بداية معرفتي باسم حمدي الكنيسي في 1973 عندما كان عمري 20 عاماً، وقتها كان صوت المعركة هو البرنامج الإذاعي الوحيد الذي التف حوله كل الشعب المصري، وكانت رسائل ويوميات حمدي الكنيسي من جبهة القتال هي المحطة التي يثبت المصريون وأبناء العروبة عليها أصابعهم، لا يحركونها إلى أي محطة إذاعية أخرى.. وكانت شهرة وجماهيرية حمدي الكنيسي قد أصبحت في السماء.
وكان ملحوظا للكل أن الكنيسي قد دخل قلب الرئيس السادات بمهارته وحرفيته وأفكاره الإذاعية المبتكرة، ولذا لم يكن غريبًا أن يكافئه الرئيس السادات بتعيينه مستشارا إعلامياً في لندن ودلهي في الفترة من 1980 إلى 1985.
لقد اقتنع الرئيس السادات تمام الاقتناع بمهارات وخبرات وشطارة وذكاء الكنيسي، وليس سراً أن الرئيس السادات كان يخطط لتعيين الكنيسي وزيراً للإعلام سواء في حياته أو بعد رحيله !
نعم عرفت الأستاذ حمدي عام 1973، ولكن القدر كتب لي فيما بعد أن أكون واحداً من أقرب الأصدقاء إلى قلبه مع الراحلين: الدكتور عادل صادق أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، وحاتم نصر فريد نائب رئيس تحرير مجلة أكتوبر، ومحمد جبر مدير تحرير جريدة السياسي المصري.
وأذهب بكم إلى محطة مهمة اقتربت فيها بدرجة كبيرة من حمدي الكنيسي، كان ذلك في حرب تحرير الكويت عام 1991، حيث وجدته يطلب بإلحاح وإصرار من اللواء أحمد فؤاد مدير إدارة الشؤن المعنوية آنذاك أن يوافق على استئناف نشاطه الإعلامي كمراسل إذاعي من حفر الباطن.
محطة أخرى جمعتني بالإعلامي الكبير عام 1992 حين طلبت منه مقالا أسبوعيا لمجلة اقرأ السعودية التي كنت مديراً لمكتبها بالقاهرة، وأتذكر لقاءً جمعه في فندق الماريوت مع الصديق يحيي باجنيد رئيس تحرير المجلة الذي كان آنذاك في زيارة خاصة للقاهرة وطلب مني لقاءً خاصًا مع الأستاذ حمدي بصفة عاجلة.
وفي نفس العام 1992، تمت إقالة مجلس إدارة شركة دار الحرية للصحافة نتيجة لتسويف الدكتور محمود محفوظ رئيس الشركة ونائبه الدكتور يحيي الجمل في تحقيق الهدف الأساسي من تأسيس الشركة وهو إصدار مجلة الحرية كأول مجلة خاصة تصدر في مصر.
كان الكنيسي متحمسا للغاية لإصدار المجلة، ولذا كان من أكثر المطالبين بمجلس جديد يحقق هذا الهدف، وأتذكر أننا في اجتماع ثلاثي ضمني وحمدي الكنيسي ومحمد جبر اتفقنا على انتخاب مجلس إدارة جديد واخترنا المشير محمد عبد الغني الجمسي رئيساً جديداً للدار، وبدأنا مرحلة جديدة تحققت فيها مكاسب للشركة.
كان المجلس الجديد يضم الدكتور عادل صادق نائباً للمشير الجمسي وجبر والكنيسي وحاتم نصر فريد والعبد لله، وبدأت عجلة الدار تدور.
وما زلت أتذكر واقعة مهمة لن أنساها ما حييت جرت بعد أحد اجتماعات مجلس الإدارة، كان بطلها حمدي الكنيسي، فقد سأل المشير السؤال التالي الذي فوجئ الجميع به بمن فيهم المشير الجمسي نفسه، كان السؤال ذكياً وغريبًا على الأسماع: سيادة المشير هل ندمت أنك لم تُعين مستشاراً سياسيًا لك عندما كنت وزيرًا للدفاع وقائدا عاماً للقوات المسلحة؟
للحظات تصورنا كلنا أن المشير سوف تكون إجابته: لا..لم أندم !، سكت المشير ثوانٍ قليلة قبل أن يقول: فعلا يا حمدي كان مفروض أن أعين مستشارا سياسيا منذ اللحظة الأولي لتوليتي وزارة الحربية عام 1974.. لماذا؟ لأنني أحسست بهذا الأمر في عام 1977 عندما نزل الجيش إلي الشارع لحفظ الأمن وسلامة الشعب في أعقاب ما أسماه الرئيس السادات بانتفاضة الحرامية، التي لم تكن سوى رد فعل شعبي وجماهيري في كل المحافظات اعتراضا على قرارات رفع الأسعار التي فاجئت الجميع دون أي تمهيد !
فقد وجدت نفسي بعد أن استتب الأمن في البلاد أطلب تجهيز الطائرة حتى أسافر إلى أسوان حتى يعود الرئيس السادات معى على الطائرة إلى القاهرة لممارسة مهامه كرئيس للجمهورية .
ولكنني وجدت بعض ضباط مكتبي يقولون كفاية كده يا فندم.. خليه قاعد في أسوان.. فقلت لهم طيب أنتم شايفين كده. وأمرت مدير مكتبي بالتحفظ عليهم في مكاتبهم.
في أسوان، ما أن دخل المشير على الرئيس السادات حتى قال له الأخير: اسمع يا جمسي.. إحنا لما شيلنا الملك فاروق ضربنا له 21 طلقة.. هنا أدركت -هكذا قال لنا المشير- أن الرئيس السادات نفسه كان يتوقع أن تكون تلك هي نهايته كرئيس للجمهورية.
فعلا يا حمدي.. سؤالك مهم.. أنا ندمان أشد الندم أنني لم أعين مستشاراً سياسياً لي
هذا هو حمدي الكنيسي.. القيمة والقامة الذي لم ينسى في كل لحظة طوال مشواره الإعلامي أنه دوره أن يسأل.. أنه يجب أن يكون مندوباً عن المستمع لدي المسئول.. أي مسئول.