رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (31)

4-9-2021 | 12:01


د. محمد أبو الفتوح,

بردية «إيبرس» الطبية - مكتبة جامعة ليبزج في ألمانيا.

   د. محمد أبو الفتوح غنيم           

برع المصريون القدماء في مجال الطب والجراحة، كما برعوا في مجال العمارة والفنون، وضربوا بسهم وافر في مجال الصيدلة والأدوية والعقاقير، والفحص والتشخيص، وإن ارتبط الطب المصري في ذهن البعض بالسحر والتعاويذ، إلَّا أن ما عثر عليه من وثائق وبرديات تتناول موضوعات في الطب والجراحة والعقاقير يشهد للمصريين بتطور كبير في هذه المجالات المتعلقة بصحة الإنسان والحفاظ عليه.

 كما تثبت الدراسات الحديثة أن الطب المصري القديم غطى أفرع كثيرة من الاهتمامات الطبية، منها: الجراحات البسيطة، وإصلاح كسور العظام، ومشاكل النساء الصحية، وطب الإسنان، والطب البيطري، وتركيب العديد من الأدوية.

 ولعل اهتمام المصريين القدماء بهذا المجال الضروري في الحفاظ على حياة الأحياء نابع من اهتمامهم بالحفاظ على جثث الأموات وتحنيطها وفق معتقداتهم في الحساب ونظرية الخلود بعد الموت، وهو ما دفعهم لدراسة طبيعة الجسم البشري وتكوينه وتركيبه وفهم ما يؤثر فيه أو يحافظ عليه.

ظلَّت كتابات المؤرخين الإغريق، وغيرهم ممن زاروا مصر، عن الحضارة المصرية القديمة، وعن الحياة والطب في مصر القديمة، هي المصادر الرئيسة للمعلومات والمعرفة حتى القرن التاسع عشر عندما نجح شامبليون في ترجمة حجر رشيد وفكِّ رموز الكتابة المصرية القديمة، وهو ما فتح شهية العالم لمعرفة أسرار هذه الحضارة القديمة الغامضة، فكان الاهتمام بدراسة كل ما يتعلق بها أو عنها، وبزغ إلى الوجود علم جديد، تقتصر دراساته وأبحاثه وأنشطته العلمية على كل ما يخص هذه الحضارة المصرية القديمة، وهو علم المصريات Egyptology، الذي شمل أعمال التنقيب والحفر، والنسخ والترجمة، وغيرها من الدراسات والاهتمامات التاريخية والأثرية.

 وهو ما فتح آفاقاً معرفية عن الحضارة المصرية في شتى مناحي الحياة، وكان منها بالطبع مجال الطب والصحة العامة، فقد أمكن ترجمة العديد من النصوص والوثائق البردية التي تم العثور عليها وتتضمن موضوعات ووصفات طبية، أمكن من خلالها معرفة مدى ما وصل إليه الطب المصري من تقدم ورقي في ذلك الوقت.

أحد هذه البرديات المهمة بردية "بردية إيبرس" التي يقدِّر عمرها لحوالي أربعة ألاف عام، وإن كان التاريخ الدقيق الذي تم فيه تأليف هذه البردية مفتوح للجدل والنقاش، بسبب التواريخ المتضاربة حول أصلها، حيث يعود تاريخها القرن السادس عشر قبل الميلاد (حوالي 1550ق.م)؛ لأنها أحد مقاطعها يشير يؤرخها بالعام التاسع من حكم الملك أمنحوتب الأول، ثاني ملوك الأسرة الثامنة عشر (1525-1504ق.م)، والبعض يرجعها عهد أبيه الملك أحمس (1550-1525ق.م)، بينما يشير مقطع أسفل يشير إلى أحد ملوك مصر السفلى الذي حكم حوالي 3000 قبل الميلاد.

وهي واحدة من أقدم البرديات الطبية التي وصلت إلينا من المصريين القدماء، وأشملها، فقد احتفظت لنا بسجل شامل للتاريخ الطبي المصري، حيث تشير إلى عدد لا يحصى من التعاويذ الطبية والعلاجات والعمليات الجراحية والأمراض التي أصابت قدماء المصريين.. يبدو منها مدى ما وصل إليه المصريون من معرفة بعمل جسم الإنسان وبنيته وما يصيبه من أمراض وضرب بسهم وافر في محاولة علاجها والتقليل من آثارها وآلامها.

وتنسب البردية، التي تعد من أهم مقتنيات مكتبة جامعة ليبزج Leipzig في ألمانيا، إلى "جورج إيبرس" Georg Ebers، عالم المصريات والروائي الألماني، وكان قد عثر عليها أحد المصريين في منطقة العساسيف في مدينة الأقصر، مدفونة في أكفان إحدى المومياوات، اشتراها منه "إدون سميث"، المغامر الأمريكي الذي كان يقيم في مصر عام 1862م، ظلت البردية في حوزته حتى عام 1869 عندما طرحها للبيع؛ ليشتريها عالم المصريات جورج إيبرس، الذي سميت البردية باسمه، بعد ثلاث سنوات، عام 1872م وذلك خلال رحلته العلمية إلى مصر. وكانت في حالة جيدة أفضل من غيرها من البرديات المماثلة التي عادة ما تكون أكثر ضعفاً وهشاشة وأكثر عرضة للتكسر وفقدان أجزاء منها. 

و"جورج إيبرس"، الذي تنسب إليه هذه البردية، من مواليد مدينة برلين، مارس 1837م، تدرج "إيبرس" في مراحل التعليم المختلفة؛ حيث درس في البداية فقه القانون بجامعة جونتجنGottington، ثم غيَّر مساره بعد ذلك حيث التحق بجامعة برلين؛ وتخصص في اللغات الشرقية والآثار، ثم تخصص بعدها في علوم المصرياتEgyptology ؛ حتي أصبح أستاذاً في اللغة والآثار المصرية؛ وكان ذلك خلال عام 1868م. وفي عام 1870م عين أستاذاً للغة المصرية القديمة بجامعة ليبزج.

 لم يكن "جورج إيبرس" مجرد عالم آثار؛ ولكنه كان روائياً مبدع أيضاً، وهو واحد من القلائل الذين جمعوا بين الإنتاج العلمي والإبداع الأدبي.. توفي "جورج إيبرس" في 7 أغسطس 1898 عن عمر يناهز 61 عاما تقريباً، وترك عدداً كبيراً من الكتب العلمية والأعمال الأدبية، وبعض المقتنيات الأثرية وكان منها هذه البردية الشهيرة التي تنسب إليه.

نشر "إيبرس" نسخة طبق الأصل للبردية عام 1875م، تحتوي على مفردات ومقدمة إنكليزية لاتينية، ولم تترجم البردية إلا عام 1890 تقاعد إيبرس من كرسيه لعلم المصريات في ليبزج على معاش تقاعدي وظلت البردية في مكتبة جامعة ليبزج نشر الطبيب والمؤرخ الطبي وعالم المصريات المصري، بول غليونجي Paul Ghalioungui (1908-1987) ترجمة إنجليزية للبردية، كما كانت هناك محاولات أخرى تم نشر لترجمة البردية بواسطة باحثين عديدين.

جانب من بردية "إيبرس" الطبية، مكتبة جامعة ليبزج، ألمانيا.

البردية عبارة لفافة من البردي يصل طولها 20 متراً، وعرضها 30سنتيمتر. تعدُّ أكبر بردية مصرية ظهرت في الطب، فهي تحتوي على 110 من الأعمدة بكل منها من 20 إلى 32 سطراً متضمنة 877 وصفة علاجية- كما صنفها محرر حديث-لحالات مرضية، بعضها يتضمن علاجات سحرية، لأن المعتقدات المصرية فيما يتعلق بالسحر والطب كانت غالبًا متشابكة من هذه الوصفات: وصفات لعلاج الأمراض الباطنية؛ وأمراض العيون؛ وأمراض الجلد؛ وأمراض الأطراف؛ وأمراض الرأس واللسان والأنف والأذن، وطب الأسنان والعلاج الجراحي للخراجات والأورام، وترميم العظام والحروق وعقاقير الجمال، وأمراض النساء مثل وسائل منع الحمل وتشخيص الحمل وغيرها، وأمراض الأمعاء والطفيليات وبعض المعلومات التشريحية، وتفاسير لكلمات طبية، وبعض العمليات الجراحية، وتحتوي أيضًا على وثائق تكشف عن الوعي بـ الورم ، إلى جانب إرشادات حول إزالة الورم، وعلاج الحروق والجروح وعضات التماسیح ووصفات للزينة وللتجميل وإنماء الشعر.

 كما اشتملت البردية أيضا على علاج لأمراض أخرى منها: داء السكرى، التهاب المفاصل، وتوصيف دقیق للأمراض القلبیة الوعائية، الأمراض النفسیة كالاكتئاب، وعلى الكثير من التعاويذ السحرية التى ذكر عنها صاحب البردية أنها تفيد فى شفاء بعض الأمراض وطرد الأرواح الشريرة التى سببتها وهي مكتوبة باللغة الهيراطيقية.