الأقباط.. نظرات على سنوات الحكم الجديد
بقلم : د. ســـامـــح فــــوزى
ثلاث سنوات مرت من رئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وعادة يتطلع البعض بدافع من البحث أو الشغف الصحفى إلى رؤية التحولات التى طرأت على جماعات بعينها خلال هذه الفترة، وربما يمتد هذا الشغف إلى مقارنتها بما كانت عليه فى فترات سابقة.
بالطبع قد لا تكون هذه المدة كافية للنظر والتقييم، أو يكون التشريح المقطعى – أى النظر إلى المجتمع بوصفه شبكة من الجماعات والفئات المتنوعة- غير ذى جدوى، ولكن تظل مسألة أساسية أن نرى المجتمع متنوعا، وفى تنوعه اختيارات مختلفة.
الأقباط فى قلب تنوع المجتمع. نعم، التنوع الدينى أحد خصائص المجتمع المصري. لكنه تنوع ذات طبيعة خاصة، يختلط فيه الناس فى كل مظاهر الحياة دون أن يستقل أحدهم عن الآخر جغرافيا أو مهنيا أو اجتماعيا. من هنا، فالأقباط ليسوا أقلية بالمعنى العرقى أو الثقافي، لكنهم «قلة عددية» فى وسط «أغلبية سكانية»، يعيشون معا فى مساحة ممتدة من التعايش عبر قرون. تمر مسيرتهم المشتركة بتعرجات، لكنها فى النهاية مستقرة ومستمرة.
السؤال عن حال الأقباط فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى بقدر ما فيه من منطقية، وشغف بحثى وإعلامي، باعتبارهم جماعة تتميز عن الأغلبية بالرابطة الدينية، بقدر ما فيه من مخاطرة محسوبة، لأن الأقباط شأنهم شأن المسلمين يتباينون اجتماعيا، منهم الغنى والفقير، وما بينهما من طبقات وسطى، ومن الطبيعى أن تكون تصوراتهم عن الحكم نابعة من انتماء طبقى أكثر من هوية دينية، يختارون اختيارات معينة بوحى من مصالحهم أكثر من أن تكون نابعة من انتمائهم الديني.
هنا تبدو المفارقة، واللغز، هل يتحرك الأقباط بوصفهم كتلة واحدة يحركهم الانتماء الدينى أم يذوبون فى تشكيلات وتكتلات المجتمع بوحى من مصالحهم إلى جوار شركائهم فى الوطن من المسلمين؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست يسيرة. لأن هناك شواهد تؤكد هذا، وشواهد أخرى تؤكد ذاك. هناك لحظات تاريخية يبدو فيها الأقباط ملتفين حول هويتهم الدينية، ولحظات تاريخية أخرى يبدو فيها تفرقهم حسب مصالحهم الطبقية. نفس الأمر نراه فى صفوف الغالبية المسلمة. هناك مسلمون يريدونها “إسلامية” وفق بيان الإسلام السياسي، ومهما جرى فى مياه السياسة تجدهم يدعمون المشروع الإسلامي، وهناك مسلمون ينشغلون بمواقعهم الاجتماعية فى المجتمع دون أن يكون للمكون الدينى فى شخصيتهم دور فى تحديد اختياراتهم السياسية.
المسألة شائكة. ولكن دعنا، مع إيراد التحفظ السابق، نرى الأقباط جماعة لها هوية دينية، فى قلبها مؤسسة دينية ذات ثقل، لهم علاقات مع السلطة القائمة، ولهم بالتأكيد فى تجمعهم مصالح يحرصون عليها.
(١)
تأييد «الضرورة»
هناك من أطلق مصطلح «مرشح الضرورة» على الرئيس عبدالفتاح السيسي، وبالتبعية فهو يحصل على تأييد الغالبية انطلاقا من هذا الوصف، فهو الذى جاء من أقوى مؤسسات الدولة، وأكثرها تماسكا، لاستعادة «الدولة» التى تعرضت لهزائم متكررة، وكادت أن تتفسخ خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي.
شكلت الانتخابات الرئاسية فى مايو ٢٠١٤م مناسبة – فى رأى قطاعات عريضة- لاسترداد الرئاسة من القوى السياسية، التى لم تثبت نجاحا فى الاضطلاع بمهام المنصب، وتسليمه مرة أخرى إلى قيادة من مؤسسة الدولة المصرية العتيدة- المؤسسة العسكرية. وهو التقليد المستمر منذ ثورة ١٩٥٢م، ولم ينقطع سوى عام واحد هى رئاسة محمد مرسي.
رأى الأقباط شأنهم شأن ملايين المسلمين أن المرشح القادم من قلب المؤسسة العسكرية أزال حكم الإخوان المسلمين. وساد شعور عام بأن «الحفاظ على الدولة» يسبق أى مطلب آخر مستقر فى أذهان قطاعات عريضة من المجتمع تأثرت سلبا بتموجات وتقلبات الثورة المصرية.
وفى مجتمع انهكته سنوات ثورة يناير الثلاث، وشاهد هواة السياسة غير قادرين على إدارة المشهد، أو لم يٌمنحوا الفرصة الكافية لتحقيق ذلك، راهن على المرشح القادم من مؤسسات الدولة، المتفهم لطبيعتها، القادر على إعادة بنيانها، وضبط إيقاع حركتها، ويمتلك الأدوات المؤسسية التى تعينه على تحقيق رؤيته. هذه هى الحالة الذهنية العامة التى غلبت على المجتمع المصرى عامة، ومن بينه الأقباط، خاصة فى ضوء ابتعاد المجتمع نفسيا عن «السياسة» بمفهومها الاحترافى التنافسى ليقترب من «السياسة» بمفهومها التقنى الذى يشيد بالتكنوقراط/ الخبير والمتمرس.
اختار الأقباط، شأن قطاعات عريضة من المصريين، الرئيس عبدالفتاح السيسي، وليس صحيحا ما تروجه تيارات الإسلام السياسى من أن الأقباط كانوا الفصيل الأساسى الذى ذهب إلى صناديق الاقتراع، وهى حملة أرادوا بها أن يزيدوا من شيطنتهم للأقباط بعد موقفهم المؤيد للتغيير السياسى فى ٣ يوليو ٢٠١٣، وما سبقه من معارضة لحكم الإخوان المسلمين. نعم كانت هناك نواة صلبة من التأييد حصل عليها الرئيس السيسي، كان الأقباط جزءا منها، لكن كان لها أساس فى مجتمع يريد أن تستعيد الدولة نظامها وانضباطها وعافيتها الأمنية والمؤسسية. وبالرغم من أن الاتجاه الغالب للأقباط، مدعما بموقف الكنيسة، كان انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسي، لكن لا يجب أن يحملنا ذلك إلى الاعتقاد بأن الأقباط «كتلة واحدة» مغلقة صماء، فقد ولى هذا العهد، وتداعيات ثورة ٢٥ يناير لا تزال مؤثرة فى تكوينات شبابية احتجاجية، لا تخلو من أقباط فى عضويتها اختارت موقف الاحتجاج، وهى ترى أن بديل الديمقراطية يتقدم على عودة الدولة ذاتها.
(٢)
نموذج جديد
بعد أن تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مقاليد الحكم، كان من الطبيعى أن يتساءل الأقباط فيما بينهم عن اتجاهات الرئيس الجديد، وفى أذهانهم المقارنة مع من سبقوه فى الموقع الرئاسي. هل هو عبدالناصر أم السادات أم مبارك؟. بالتأكيد هو يختلف كلية عن محمد مرسي، لكن ظل السؤال أى نموذج سوف ينتهج فى تعامله مع الأقباط؟. هل هو أقرب إلى «نموذج عبدالناصر» الذى سعى إلى بناء الدولة القومية. أضر بالرأسمالية القبطية أسوة بالمسلمة، لكنه وسع من نطاق الطبقة الوسطى، وأشاع أجواء من الثقافة المدنية، وفى عهده بنيت الكاتدرائية المرقسية، ولمعت أسماء عدد من التكنوقراط الأقباط بعد أن توارى الساسة الأقباط عن المشهد.. هل هو أقرب إلى “نموذج السادات” الذى دشن دولة العلم والإيمان، وأطلق مساحات واسعة للتيارات الإسلامية التى كان الأقباط ضمن الفئات التى عانت منها، لم يحتمل تعددية سياسية بشر بها، ولم يتحقق مشروعه، وهو يرى مصر دولة يمينية، اقتصاديا وسياسيا ودينيا، وانتهى الحال إلى ظهور سافر للإسلام السياسي، وعرف مصطلح الفتنة الطائفية طريقه للخطابين السياسى والإعلامي، وانتهى عصره بالتحفظ على البابا شنودة رهن الإقامة الجبرية فى أحد أديرة وادى النطرون، والزج بعدد من الساسة الأقباط المعارضين ضمن رفاقهم المسلمين فى السجن، جنبا إلى جنب مع عدد من رجال الدين الإسلامى والمسيحي.. هل هو أقرب إلى “نموذج مبارك”، الذى كانت فترة حكمه بها قدر من الميوعة، وغياب الحسم تجاه الملف الديني. شهد حكمه بعض التحولات الإيجابية المحسوبة، منها فتح ملف المواطنة ذاته، لكن استمر العنف فى مواجهة الأقباط، وتجدد باستمرار المشكلات المتعلقة ببناء وترميم الكنائس، فضلا عن المشكلات المتعلقة بضعف التمثيل السياسي، وشيوع مشكلات وتوترات دينية حول قضايا اجتماعية. تردد وتلكؤ وتسويف نظام مبارك لمشكلات عديدة، لم يكن الأقباط استثناء فى ذلك، وثارت عليه الجماهير بعد أسابيع من حادثة دامية فى تفجير كنيسة القديسين فى الإسكندرية عشية ميلاد العام الجديد ٢٠١١م، والتى تركت العشرات ما بين قتيل وجريح.
تساءل الأقباط: أى نموذج سوف ينتهج الرئيس عبدالفتاح السيسي؟ وكانت إجابة السنين الثلاث الماضية تشير إلى أنه نموذج جديد غير مكرر، به بعض ملامح من سبقوه، لكنه يحمل بصمة جديدة مغايرة.
رئيس جمهورية يريد أن تكون له بصمته. يذهب إلى الكاتدرائية فى مناسبات عديدة، منها التهنئة بعيد الميلاد، ويبدى فى رسائل متلاحقة حرصه على بناء كنائس أسوة بالمساجد فى المدن الجديدة التى يوليها عنايته، والعزاء فى الأقباط الذين استشهدوا فى ليبيا على يد «داعش» أو فى تفجيرات انتحارية فى كنيستى طنطا والإسكندرية فى ٩ إبريل ٢٠١٧م.
يثأر للدم المصرى فى ليبيا بضربات جوية مركزة، ويتقدم بنفسه جنازة شهداء الكنيسة البطرسية فى ١١ ديسمبر ٢٠١٦م، وفى عهده يسن قانونا جديدا لبناء وترميم الكنائس، رغم كل ما يرد عليه من انتقادات، ويتسع التمثيل البرلمانى للأقباط على نحو غير مسبوق.
هذه ملامح بصمة جديدة من الرئيس عبدالفتاح السيسي، لكن هناك عوامل ممتدة من مراحل سابقة، منها استمرار التوترات الدينية فى أماكن عديدة خاصة الصعيد، وبصفة أخص محافظة المنيا، تكاثر اعتداء الإرهاب على الأقباط على خلفية أمرين الأول الموقف العقيدى المعادى لهم، والثانى تأييدهم للحكم الحالي، وتحولت العريش إلى بؤرة معاناة بالنسبة للأقباط أسوة ببعض مناطق الصعيد. وفى أحيان كثيرة يبدو الرئيس السيسى سباقا على أجهزة الدولة التى تميل فى تعاملها مع الأقباط أن تنتهج نهج نظام مبارك، أو تسير على النهج المرسوم سابقا، ولا تعى أن هناك تغيرات تحدث فى المجتمع، وتميل إلى التأكيد على نظريات التوازن والتعادل بين المسلمين والمسيحيين. وتعد هذه إحدى الإشكاليات الأساسية التى تقف فى وجه تحقيق المواطنة بمعناها الشامل، حيث تستقر تصورات، وخبرات، وأساليب عمل فى ذهن البيروقراطية النافذة معوقة لتحقيق المواطنة.
(٣)
تساؤلات المستقبل
تلقى الأقباط خلال السنوات الثلاث الماضية رسائل متناقضة، بعضها كان مبهجا، يسير خطوات ممتدة على طريق المواطنة، وبعضها كان داميا تعيسا، يبشر بمستقبل غائم. ومثلهم، مثل أى جماعة أقل عددا فى المجتمع، يداهمهم القلق، والأسئلة الوجودية، والتفكير الهاجسى فى المستقبل أكثر من غيرهم.
النشطاء الشباب الأقباط، رغم تضاؤل دورهم فى السنوات الأخيرة، لديهم مواقف تبدو سلبية، فهم الأكثر قربا من منظمات المجتمع المدني، والنخب السياسية المدنية، وما يطلق عليهم شباب ثورة ٢٥ يناير، وهؤلاء لديهم موقفهم النقدى من الحكم الراهن. ولكن غالبية الأقباط، خاصة قواعد التأييد الأساسية فى الكنائس لا تزال على حالها المؤيد لحكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، أسوة بقطاع من المصريين، يرى أن البديل غير موجود، ومخاوف التفكك والتهاوى التى حدثت فى مجتمعات مجاورة ماثلة أمام الأعين، ولا تزال الكنيسة قادرة على أن تلعب الدور الذى أطلق عليه منذ سنوات الدكتور رفعت السعيد «مانعة الصواعق»، فهى تحتمل غضب الغاضبين، وسخط الساخطين، خاصة إبان الأحداث الإرهابية الجسيمة التى ألمت بالأقباط، والعنف الطائفى الذى يداهمهم من آن لآخر. لا تزال قادرة على احتواء الغضب، وضبط الإيقاع، وهو دور مهم لا أعرف على وجه التحديد إلى أى مدى يمكن أن تستمر فى أدائه؟
الإشكالية الآن أن المناخ العام فى مصر يعانى من انكماش واضح، سواء فى النشاط السياسي، أو فعاليات المجتمع المدني، أو المشاركة العامة فى مشروعات التنمية، أو إيجاد حالة من التوازن بين الفرد ومؤسسات الدولة التى تعتدى أحيانا عليه، وسط أزمة اقتصادية طاحنة، كل ذلك يؤثر حتما على منسوب التسامح لدى المواطن المصري، ويجعله أقرب إلى الرغبة فى التنفيس فى الفئات الأضعف، والأقل حماية فى المجتمع وهى الأقباط، والمرأة، والطفل، وغيرهم. من هنا نجد كماً لا يستهان به من توسع العنف ضد هذه الفئات تحت عناوين شتى، وهو ما يحتاج إلى هندسة جديدة للمجتمع تدعم بناء رأس مال اجتماعى بين المواطنين يقوم على المشاركة، والثقة، والتوسع فى برامج التربية المدنية، وتطوير الخطابات الدينية فى اتجاه تدعيم قيم المواطنة، والتسامح، وحقوق الإنسان، وتغيير «الذهنية البيروقراطية» الحاكمة لأداء الأجهزة الحكومية المختلفة فى اتجاه دعم المواطنة.
من هذا المنطلق فإن الأقباط، وإن ظل لديهم هواجس خاصة بهم، إلا أن الهواجس العامة لا يزال لها ثقلها وتأثيرها.