رئيس مجلس الادارة

عمــر أحمــد ســامي

رئيس التحرير

طــــه فرغــــلي


من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (32)

11-9-2021 | 12:02


د. محمد أبو الفتوح,

تمثال "امحوتب" – متحف اللوفر في باريس

هذا "الذي جاء في سلام"، هكذا يعني اسمه بالمصرية القديمة "امحوتب"، والذي كان رائداً وعبقرياً فذّاً في مجالات متعددة، مثل: العمارة والهندسة، والطب، والرياضيات، واللاهوت والفن، والشاعر، والفيلسوف، والحكيم والمؤلف، وأحد القلائل من غير الفراعنة في تاريخ مصر الطويل، الذي تم تأليهه، بعد 1400 عام من وفاته.

ليس غريباً أن تزخر المتاحف بتماثيله البرونزية الصغيرة، وهي تمثله جالساً ينشر لفافة من ورق البردي فوق ركبتيه في وضع يوحي بالجدية وينم عن حكمة ومهابة ووقار، فقد امتدت شهرته عبر العصور، منذ الدولة القديمة ومروراً بعصور مصر الفرعونية الطويلة ووصولاً على العصر الإغريقي والبطلمي (332-31ق.م)، ومع هذه الشهرة التي جابت الآفاق وهذا التقدير الذي وصل على حد التأليه والتقديس، لم يعثر له على رفات، كما لا يعرف أين قبره، كما اختفت الكتب التي ألفها بينما بقي ذكره، والتماثيل الصغيرة التي تزدان بها خزائن العرض في الكثير من متاحف العالم.

في قرية صغيرة تدعى "الجبلين" على بعد 20 كم جنوب إسنا على الضفة الغربية لنهر النيل، ولد هذا العبقري المصري، المعماري الشهير، والطبيب النابغة، وزير الملك "زوسر" الحاكم الثاني من الأسرة الثالثة - الدولة القديمة (حوالي سنة 2800ق.م.). نسب إليه المؤرخ المصري القديم "مانيتون السمنودي"، الذي عاش فى عهد الملك بطليموس الثاني (283-245ق.م تقريبا)، استخدام الحجر لأول مرة في البناء عندما أبدع في تصميم وبناء المجموعة الجنائزية للملك "زوسر" (2627-2648 ق. م تقريباً) في سقارة، والتي توجد داخل السور الكبير الذى يتوسطه هرم الملك المدرج تقريباً، ويقع معظمها فى الركن الجنوبي الشرقي للهرم، وهى عبارة عن مجموعة من الساحات والصروح التى استخدمها الملك أثناء حياته والتي أقيمت بمناسبة الاحتفالات والطقوس التى كان يؤديها أثناء توليه الحكم  والحق أنه كان معماريًّا عبقريًّا في زمانه، فقد استخدم الحجر لأول مرة في التاريخ، بديلاً عن الطوب اللبن، أو الخشب والبوص، وهي المواد التي شاع استخدامها في البناء من قبله ومن بعده.

يشكِّل هذا البناء نقطة تحول تاريخية مهمة في الآثار الجنائزية المصرية القديمة، كما يعتبر ثورة في الهندسة المعمارية الحجرية والدفن الملكي. بالإضافة لضخامة حجمه، فهو أول هرم بناه المصريون القدماء وأقدم بناء حجري معروف، وأول مرة يبتكر فيه العمود كعنصر إنشائي في العمارة، وامتد الإبداع في تصميم الأعمدة، فقد تم تصوير الأعمدة الأولى بزخارف نباتية مجردة. على الرغم من أن الكثير من الهندسة المعمارية لسقارة حديثة بشكل ملحوظ في هندستها التجريدية ووضوحها الحجمي، إلا أن أعمدتها من بين العناصر القليلة التي تتضمن زخرفة مميزة، نباتية المصدر، سواء في تيجان زهرة اللوتس أو البدن المصور في صورة حزمة نبات البردي ومدلولاهما عن وحدة مصر بشقيها العليا الممثل لها زهرة اللوتس، والسفلى الممثل لها نبات البردي.

قبل عهده، كان الملوك والنخبة من المصريين يتم دفنهم فى مصاطب، والمصطبة نوع من الهياكل الجنائزية مستطيلة الشكل ومبنية فوق حفرة الدفن، التي كانت تحت الأرض. بينما جاء الهرم، بشكله الجديد، وتصميمه المبتكر، يتكون من ستة مصاطب تعطي الشكل المدرج، وينسب إلى المهندس "امحوتب" هذا الابتكار العظيم.

وتحتوي هذه المجموعة الهرمية على بعض العناصر المميزة، فقد كان الفناءان أمام الهرم لإقامة احتفال "حب سد"، وهو احتفال يرمز لإعادة شباب الملك وتجديد قوته، يحتفل فيه بسيادة فرعون المستمرة لمصر، وإعادة تتويجه ويحدث كل ثلاثين عاماً.

وكانت المقاصير الحجرية الموجودة على الجانب الشرقي للفناء تستخدم فى هذا الاحتفال، مما يضمن استمرار الملك في تجديد شبابه إلى الأبد. ويقع عند احدى نهايات المجموعة الهرمية مبنى يعرف باسم المقبرة الجنوبية، تعتبر مقبرة رمزية للملك "زوسر" ربما كانت تعكس دوره كملك لمصر العليا والسفلى.

اكتشف علماء الآثار العديد من النقوش المنحوتة في عهد "زوسر"، التي تقدم وصفًا واضحًا لمكانة "امحوتب" الكبيرة، فقد كتب اسمه "امحوتب" على قاعدة تمثال "زوسر"، الذي عثر عليه في حجرة ضيقة تعرف بالسرداب شمال الهرم المدرج، وهو أقدم ما عرف من التماثيل بالحجم الطبيعي في مصر.

وقد ذكرت القاعدة أن "امحوتب" كان "الأول" في رتبة الملك، وأنه عمل مستشارًا للملك، ومديرًا لقصره، وكبير النحاتين، وكبير النجارين له، ورئيس كهنة هليوبوليس.. كما ذكرت قاعدة التمثال أيضًا أن "امحوتب" قد تمت ترقيته من وضعه الاجتماعي المشترك إلى نبيل وراثي.

وهناك قطعة أثرية الأخرى، وهي لوحة المجاعة، التي تم اكتشافها في عام 1890م، تذكر أيضًا "امحوتب" ككاهن الملك "زوسر" وكبير المهندسين المعماريين. وقد سميت بلوحة المجاعة لأنها احتفلت بنهاية مجاعة استمرت سبع سنوات.

لم تقتصر عبقرية "امحوتب" على مجال الهندسة والعمارة، بل امتدت لمجالات كثيرة، كان فيها فذّاً ومميزاً، فقد كان وزيراً ناجحاً، ومستشاراً سياسياً حكيماً، وإدارياً بارعاً للقصر الملكي، وكبيراً لكهنة هليوبوليس، ورئيساً النحاتين "وصانعي الأواني"، ورئيساً للكتبة، وفوق هذا وذاك كان طبيباً ماهراً، بل كان الطبيب الأمهر في مصر كلها في عهد الملك “زوسر”، كما أنه أسس أول مدرسة لتعليم الطب في التاريخ وكانت في مدينة "منف" المصرية.

 ومما يثير الإعجاب أنه بنفس القدر من إرث "امحوتب" في الطب، يُعتقد أنه كان أول معالج أعشاب / صيدلي في التاريخ، لأنه أول ممارس طبي معروف ينتج الأدوية من النباتات. وقيل إنه قام باختراع الكثير من العقاقير الطبية، إضافة إلى ذلك، يقترح العلماء بشدة أن بردية "إدوين سميث" (التي يرجع تاريخها إلى حوالي 1600 قبل الميلاد) هي نسخة لاحقة من عمل "امحوتب".

 تُعد البردية، التي سميت على اسم جامعها الذي اكتشفها في عام 1862م، أقدم أطروحة معروفة في الطب - فهي تغطِّي حوالي 48 مرضًا طبيًا، وتعلم القارئ كيفية تشخيص كل حالة وعلاجها. ومع ذلك يرى البعض، أنه ليس هناك دليل معاصر على كون "امحوتب" طبيباً، وأن مسؤولياته الدينية كانت ذات علاقة وثيقة بالسحر، وفي مصر القديمة كان السحر والطب وثيقي الصلة.

يُعتقد أن "امحوتب" قد عاش بعد الملك "زوسر" واستمر في خدمة العديد من خلفاء الملك. وبحلول وقت وفاته، لا بد أن سمعته قد تجاوزت السمعة الدنيوية، وقد تم الاعتراف به على أنه نصف إله بعد قرن فقط من وفاته، فقد يجعله ابناً للإله "بتاح"، المعبود الخالق لدى المصريين القدماء، الذي عاش قبل وجود جميع الأشياء الأخرى، وبإرادته، خلق العالم من خلال التفكير به؛ تصور العالم بتفكيره وأتى به إلى الوجود.

دُفن "امحوتب" في شمال سقارة، إلا أن مقبرته لم يتم الكشف عنها حتى يومنا هذا. وكما مُجِّد كثيرًا أثناء حياته كان له الكثير من التقدير له ولعبقريته الفذة، من المصريين اللاحقين، والتي تناقلتها الأجيال جيلاً بعد جيل، شفاهةً أو كتابة، بل وصل هذه التقدير إلى مرحلة التقديس والعبادة.

 ففي العصر المتأخر ترسخت عبادته فقد رفعه الناس إلى رتبة إله الطب والشفاء فأصبح له معابد، وفي العصر الصاوي صُوِّر كرجل يجلس ويقرأ بهدوء بردية مستندة على ساقيه، كما صنعت له تماثيل عديدة من البرونز، أما في العصر اليوناني فلقد قام اليونانيون بالربط بينه وبين "إسكيلبيوس" إله الطب اليوناني. وبحلول عام 293 قبل الميلاد، انتشرت عبادة "إمحوتب إسكليبيوس" إلى روما، تحت اسم إسكولابيوس.

 وكما كان "امحوتب" البشري متعدد المواهب في العديد من المجالات، كان "امحوتب" الإلهي أيضًا إلهًا للعديد من الفئات. كان يُعتبر إله الحكمة والعلم والعمارة، لكنه اشتهر بإله الطب. نتيجة لذلك، زار العديد من الناس معبده في "منف" بحثًا عن معجزات الشفاء.

 وصار معبده في سقارة مصحَّة يؤمها المقعدون من جميع انحاء مصر. وقد ظلت شهرته واسعة ومنتشرة، وكُرِّست له عدة ابنية في كثير من المعابد في طيبة (في الكرنك، والدير البحري، ودير المدينة)، وجزيرة فيلة، حيث بنى له بطليموس الخامس معبداً. وكان يُعتقد أن حالات شفاء عجيبة كانت ممكنة بفضل تدخّله، ومن هنا كانت معابده تغصّ بالمرضى الذين ترك كثير منهم سجلات تفيض بالشكر وعرفان الجميل.

وقد عُثر على تماثيل له بأعداد كبيرة، وبأحجام صغيرة، تثبت شهرته الواسعة له، وتدل على مدى ما وصل إليه من تقدير وتقديس عبر العصور والأزمنة القديمة.. فقد تم تكريس العديد من التماثيل النذرية لإمحوتب لطلب مساعدته وشفاعته في المرض والعقم وفي الولادة من جديد في الآخرة.

وتنتشر هذه التماثيل في العديد من المتاحف، في المتحف المصري بالقاهرة، وفي متحف بتري والمتحف البريطاني في لندن، وفي متحف الفنون الجميلة في بودابست بالمجر، وفي متحف بروكلين ومتحف المتروبوليتان ومتحف الفنون الجميلة في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية.

أحد هذه التماثيل ذلك التمثال الصغير المميز له، والذي يعدُّ أحد روائع الآثار المصرية في متحف اللوفر في باريس.. يصوره وهو يرتدي طاقية (قلنسوة) على الرأس ويرتدي رداء طويل من الكتان. يمكننا تفسير لفة البردي التى بين يديه بأنها مصدر المعرفة التى يحتفظ بها الكهنة والكتاب في بيت الحياة ودلالة على الحكمة. والقلنسوة التي تميز رأس إمحوتب تبينه في صورة الإله بتاح (الإله الروحي للصناع وحاميهم)، وقد كان يوماً ما في تصور المصريين القدماء ابنا للمعبود "بتاح"، ويمثل ما يرتديه من رداء طويل من الكتان طهارته ككاهن. التمثال يعود تاريخه إلى الفترة اليونانية أي ما بين (332-30 ق.م). يصل ارتفاع التمثال إلى 13 سم، وعرضه 4.4 سم.

وهو مصنوع من سبيكة البرونز التي شاع استعمالها في صناعة التماثيل قديما، وتتكون من فلزي النحاس والقصدير منصهرين وممتزجين معاً في سبيكة واحدة ذات خواص جيدة في الصب، وذات صلادة عالية ومقاومة للصدأ عن المعادن المشكلة لها، ولهذا استخدمت كثيراً في صب التماثيل وصناعة الأسلحة وغيرها قديماً.