أ.د. غادة عامر,
من يقرأ قصة نجاح رواندا يؤمن أنه لا يوجد شيء مستحيل مهما كانت الظروف، فبعد محاولة الإبادة الجماعية التي حدثت فيها عام 1994م للسكان من عرقية "التوتسي" من قبل "الهوتو"، والتي اعتبرت كارثة، بل وأحد أسوأ الأحداث في التاريخ الحديث التي فشلت القوى العالمية الكبرى والأمم المتحدة في إيقافها. فقد قُتل ما يقرب من مليون شخص (معظمهم من التوتسي وبعض الهوتو المعتدلين) في أقل من 100 يوم! استطاعت رواندا أن تصبح خلال 27 عاما فقط من الاقتصادات القوية الواعدة بعد أن كان اقتصادها يرثى له، حيث بلغ متوسط النمو 7.2٪ خلال العقد حتى عام 2019م بينما نما نصيب الفرد من الناتج المحلي (GDP) بنسبة 5٪ سنويًا.
لقد حدثت تغيرات جذرية داخل رواندا جعلت منها المفضلة للمانحين الدوليين، وكان هذا بسبب استمرار النجاح الذي يظهر في العديد من التحليلات التنموية. لقد كان هذا ناجحًا لدرجة أن العديد من المعلقين ناقشوا ما إذا كانت رواندا "نموذجًا للتنمية الأفريقية" يمكن تصديره إلى دول أخرى في مرحلة ما بعد الصراع. لكن كيف هذا وما هي أهم هذه التغيرات الجذرية التي حدثت لهذا البلد الذي كان فقيرا منهارا في قارة رغم غناها منهوبة؟
إن المفتاح الرئيسي لنجاح هذه الدولة يتلخص في نقطتين: الأولى إنها تبنت استراتيجية تسعى إلى تحويل البلاد من اقتصاد منخفض الدخل قائم على الزراعة، إلى اقتصاد قائم على البحث العلمي والمعرفة والابتكار يكون موجه نحو حل مشاكل البلاد وامتلاك التكنولوجيا الحديثة. والنقطة الثانية هي قيام الدولة بكل مؤسساتها على محاربة الفساد والفصل العنصري والفكر المتطرف.
لكن كيف بدأ الأمر في التحول لبناء هذا الفكر؟ بدأ عندما اقتحمت الجبهة الوطنية الرواندية (RPF) -بقيادة وزير الدفاع "بول كاغامي"- وهي قوة يغلب عليها التوتسي، العاصمة "كيغالي" وأزالت حكومة الهوتو التي كانت تدير الإبادة الجماعية. في أعقاب ذلك، اضطر الجناة والضحايا على حد سواء إلى إعادة بناء حياتهم جنبًا إلى جنب، في الشوارع المليئة بالجثث. لقد كان لفكر قائد والذي هو "بول كاغامي" أثر إيجابي جدا. "كاغامي" كان وزيرا للدفاع ونائبا للرئيس من 1994م إلى 2000م لكنه كان يعتبر زعيمًا فعليًا للبلاد، هذا المنصب رشحه بقوة لتولي منصب الرئيس في عام 2000م عندما استقال سلفه. بعد ذلك، فاز الرئيس "كاغامي" مرتين في الانتخابات الرئاسية في عامي 2003م و2010م بنسبة 93٪ و95٪ من الأصوات على التوالي. ويقول الكثيرين أنه يعود إليه الفضل في نجاح رواندا بهذا الشكل الملفت نتيجة لرؤيته للبلد، وشعبيته الدائمة. فهو الشخص الذي يمكن القول إنه الأكثر نفوذاً في رواندا في التاريخ الحديث.
لقد واجهت حكومة الرئيس "كاغامي" منذ توليه تحديات هائلة مثل: إعادة توطين ملايين من اللاجئين والمشردين، وضحايا الإبادة الجماعية الذين كانوا في انتظار العدالة، أضف إلى ذلك اقتصاد يحتاج إلى إعادة التشغيل حيث إنه كان منهار تماما. ولكي تتخطى روندا تلك المصاعب عملت الحكومة على تحسين معايير التعليم والصحة لتوفير قوة عاملة كفؤة ومنتجة. وانتهجت فكر تعزيز ريادة الأعمال واعتبرته أمر بالغ الأهمية لنجاح رواندا الاقتصادي. أيضا عملت على تحفيز الثروة المكتسبة من خلال خلق المنتجات التكنولوجية وعملت بقوة على توظيف كل القطاعات وخاصة الخدمات التعليمية في العلوم والتكنولوجيا لخلق طبقة جديدة من رواد الأعمال.
ومن أجل الانتقال من البحث إلى الابتكار، اهتمت الحكومة الرواندية ببناء نظام تعليم ابتدائي يعتمد على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وهي تستثمر الآن بكثافة لتحسين التعليم الثانوي وأعادت الأطفال الذين لم يكملوا دراستهم لتدخلهم التعليم الفني. كما قامت بإنشاء مراكز للتدريب على المهارات وتطوير "ثقافة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات" في المدارس كوسيلة لخلق "كتلة حرجة من المتخصصين في تكنولوجيا المعلومات. وفي التعليم الجامعي عملت الحكومة على زيادة عدد الباحثين المدربين الحاصلين على درجة الدكتوراه، حتى تزيد من إمكانية البحث والابتكار. كذلك عملت على بناء قاعدة البحث والصناعة، ودعمت البنية التحتية وعملت على توفير الاستثمار المستقر للبحث العلمي ودعم الابتكار المحلي. كذلك وضعت الحكومة الرواندية استراتيجية جديدة للبحث والابتكار تركز على التحديات الفريدة التي تواجه رواندا وإيجاد نماذج تمويل تحفز تسريع التغيير بدلاً من اتباع مسار تقليدي أكثر للتوسع التدريجي لقاعدة البحث. وكانت أولوية الاستراتيجية المجالات التالية: الطاقة المستدامة، الإنتاج المحلي وإضافة القيمة، الأمن الغذائي والزراعة الحديثة، الخدمات والمنتجات وأنماط الحياة الرقمية، علوم الحياة والصحة، مرونة البيئة والموارد الطبيعية.
أيضا قامت الحكومة بإنشاء مرفق مشترك لتطوير المنتجات الصناعية في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). وكان الهدف من هذا المرفق أن يكون بمثابة مركز حاضنة للتكنولوجيا الصناعية للمبتكرين الصناعيين لتطوير المنتجات الصناعية، والوصول إلى التقنيات المتقدمة، واكتساب المهارات الصناعية التقنية والارتقاء بها وتحسين القدرات التجارية. ويجمع هذا المرفق بين المبتكرين من القطاع الخاص والموجهين الصناعيين ذوي الخبرة والأوساط الأكاديمية وأصحاب المصلحة الرئيسيين الآخرين، مما يوسع النقاش ويعمل على تطوير بنية تحتية جديدة. كما قامت الحكومة بسلسلة من التطورات التكنولوجية التي عملت على تغيير طريقة تواصل الروانديين، ودفع ثمن السلع والخدمات، وممارسة حياتهم اليومية. وهذا أطلق العنان لتغييرات سريعة في الاقتصاد وتحول رواندا إلى مركز إقليمي للاتصالات التجارية وتكنولوجيا المعلومات. وربما تكون خطط الحكومة الطموحة لتحويل رواندا إلى مركز إقليمي للتكنولوجيا الفائقة - أو "سنغافورة أفريقيا" - هي التي جذبت الكثير من الناس، بمن فيهم المشككون.
الآن وبعد 27 عاما من الإصلاحات، يصف المنتدى الاقتصادي العالمي رواندا بأنها "واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في وسط إفريقيا. كما أشادت بها منظمات عديدة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لأسباب مثل: نموذجها التنموي الموجه نحو الهدف، وبيئة الأعمال التي تتحسن باستمرار، وسياسات الرعاية الصحية والتعليم الخاصة بها. وفقًا للبنك الدولي، أصبح الآن تشغيل شركة في رواندا أسهل وأسرع وأقل تكلفة مما هو عليه في معظم البلدان الأفريقية الأخرى. وفي تصنيفات "سهولة ممارسة الأعمال" لعام 2018م والتي يقيس البنك الدولي من خلالها تعقيدات إدارة شركة في بلدان مختلفة، جاءت رواندا في المرتبة 58 من أصل 183 دولة شملها الاستطلاع. ووفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان، تقوم رواندا حاليًا بتوزيع هواتف محمولة مجانية على الآلاف من العاملين الصحيين في جميع أنحاء البلاد. تُستخدم الهواتف لتتبع النساء الحوامل، وإرسال تنبيهات الطوارئ، والاتصال بعربات الإسعاف وتقديم تحديثات حول المشكلات الصحية عبر الرسائل النصية.
مع تاريخ من الفقر والفساد، يأتي نجاح رواندا الاقتصادي من احتضان التحديات الحالية وتعديل نهجها. يعزز المشهد المتغير في رواندا الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ويسخر هوية جديدة، هذا كله بدأ عندما تبنت الدولة فكر نشر ثقافة الابتكار والبحث العلمي والتصنيع المحلي والأهم محاربة الفساد بكل أشكاله. لتصبح حقا " سنغافورة أفريقيا".