معايشة «دار الهلال» لكشف ما وراء أسوار مؤسسة دور التربية بالجيزة.. أسرار وحكايات
الأطفال.. زينة الحياة، وهم بناة المستقبل، سواء في عائلاتهم الصغيرة أو عائلتهم الكبيرة المتمثّلة في وطنهم. لكن كيف يكونوا بناة مستقبل وهم بلا أسرة وبلا مأوى، من هنا كانت فكرة إنشاء دور الرعاية الاجتماعية، ومع اهتمام الدولة في تأسيس جمهورية جديدة كان على رأس أولوياتها الاهتمام بالأطفال سواء الأيتام أو من هم بلا مأوى، متبنية فكرا بناءً بأن تعد هؤلاء الأطفال لمستقبل مصر المشرق وليكونوا إحدى دعائمه وليس معول هدم، لذا كانت تنميتهم وتحويلهم إلى شباب مبدعين متألقين في المستقبل، ما يجعلهم قادرين على العيش عيشة سهلة وهانئة في المستقبل الذي كانوا إحدى أدوات بنائه.
كل ما سبق دار في خلدي وأنا خارج سور مؤسسة رعاية اجتماعية، متسائلا كيف حال الأطفال الذين يعيشون فى الداخل؟.. كيف يكون يتعامل المشرفون معهم.. ومدى احتياجهم لأسرة تحميهم وتشعرهم بالدفء فى أكثر الأوقات برودة.. وكيف توفر المؤسسة ما يحتاجه الأطفال من أكل وملبس وتعليم، وأوقات للترفيه؟..
بالطبع كانت الإجابة عندهم، لهذا قررت بوابة «دار الهلال» يوم الاثنين 20 سبتمبر، اقتحام ذلك المجهول بقضاء يوم كامل مع الأطفال داخل مؤسسة دور التربية بالجيزة، ومحاولة التعايش معهم لرؤية كيف يمر يومهم العادى بالداخل.
بدأت المعايشة فى حدود الساعة الـ 10 من صباح يوم الإثنين، لأجد العميد أ.ح/ على رجب، المدير العام لمؤسسة دور التربية بالجيزة فى استقبالي، مرحبًا بي، ومتمنيًا لى التوفيق فى تلك الجولة التى سأقضيها معهم، كما طلب من «تهانى أمين»، مدير الرعاية الاجتماعية، مرافقتي لكى أتمكن من التعرف على المكان بسهولة.
وفى بداية جولتي جاء بداخلي عدد من الأسئلة للأستاذة تهاني، من بينها عدد الأطفال المتواجدين، واستيعاب المؤسسة، إلا أن الإجابة كان جاهزة على لسانها، فقالت إن السعة الفعلية للمؤسسة 750 طفل، إلا أن المتواجدين بالوقت الحالي 160 طفل مختلفين الأعمار.
وحينما سألتها عن الفئات العمرية المتواجدة بالمؤسسة، أوضحت أن الفئات العمرية تبدأ من 7 سنوات وحتى سن 18عام، ومن بعد سن الـ 18، فهما أعلى يكونون شبابًا فى سن الضيافة الشبابية، إلى أن يصل إلى مرحلة الجيش، وتبدأ مرحلة تمهيده ودمجه فى المجتمع، وتمكنه من إدارة شئون حياته بنفسه، وأشارت إلى أن الأنشطة الخاصة بالأطفال تختلف تبعًا لاحتياجات الفئة العمرية.
وجاء بخاطري أن أسألها عن الأماكن التى يأتى منها الأطفال، وإذا ما كان الأطفال هم أيتام فقط، وأوضحت أنهم يأتون من مصادر مختلفة، إما عن طريق قرار من النيابة، أو بقرار من المحكمة، وآخرون تسلمهم أسرة الطفل نفسه لأنهم لا يتمكنون من تلبية احتياجاته، وأكدت أن الحالة النفسية للطفل القادم حديثًا تختلف من واحد لآخر، فمنهم من تكون حالته مستقرة وآخرون يحتاجون إلى أخصائى نفسى لعلاج التشوهات النفسية التى تسببت فيها الحياة السابقة لحضوره إلى الدار.
بداية الطفل بالمؤسسة
ظل الحديث بيننا إلى أن وصلنا إلى حجرتها الخاصة لنجلس جميعًا وتبدأ هى فى شرح مستفيض عن المكان والأطفال المتواجدين، وبدأت من لحظة دخول الطفل إلى المؤسسة حيث قالت إن الأطفال فى بداية دخولهم إلى المؤسسة يحتاجون إلى احتواء نفسي، وأن يكونوا مطمئنين، مشيرة إلى أنه فى بداية حياته فى الدار لا يكون لديه ثقه فى أحد، ويحتاج أن يتم تعريفه أن المكان آمن بالنسبة له أكثر من الشارع، وأن كل ما يحتاجه سيكون متاح له، ولن يكون هناك عقوبات تصل إلى الضرب، إلى أن يتأقلم مع المؤسسة ويبدأ فى التعايش مع إخوته المتواجدين.
وقالت «تهاني»، عن تقسيم المؤسسة، أن بها أربع أقسام، وهم: قسم الضيافة الصغيرة وهو من 7 إلى 10 سنوات، وقسم الاشبال من 10 وحتى 12 سنة، الفتيان من 12 وحتى 15 عام، وأما قسم الشباب فهو من 15 وحتى 18 عام، ويوجد قسم آخر وهو قسم الضيافة الشبابية وهم الشباب الأعلى من سن الـ 18 عام، وهم الذين لم يستقروا في حياتهم بعد، سواء في مرحلة التجنيد، أو فى الكليات الخاصة بهم، حيث أن المؤسسة توفر لهم مشتملات المسكن حتى يستقروا.
واستكملت المديرة حديثها بأن الغالبية العظمة من الأطفال يرتبطون بالمؤسسة، إلا أنه يوجد حالات قليلة مهما قدموا من الرعاية لهم، إلا أنهم يريدون الحرية المطلقة، ولا يريدون سلطة وقوانين، وأنهم لا يكلون من المحاولة مع فى توضيح فكرة أن الشارع مليء بالمساوئ، وأن المؤسسة تخاف عليهم أكثر وتبحث عن راحتهم، بشكل دائم.
تردد على ذهنى فى تلك الآونة أن وزيرة التضامن الاجتماعي، نيفين القباج، كانت تحدثت أكثر من مرة عن الدمج المجتمعى من أجل أن تجعل الأطفال متعايشين مع بعضهم بشكل سوي، وحينما سألتها أوضحت أن إدارة الدفاع الاجتماعي، هى المنوط بها إدارة كل المؤسسات على كافة الجمهورية، مشيرة إلى أن كلمة الدفاع الاجتماعى تعنى أنه يحمى الطفل من نفسه ومن المجتمع الذي يحاوطه.
وتابعت تهانى أن ذلك الدفاع يحتاج إلى إعادة تأهيل لإعادته لاستقرار النفسى الذى كان يعيش فيه، فيبدأ فى الوصول إلى حالة من الاستقرار النفسي، وذلك الاستقرار يمكنه من الراضى عن نفسه مما يجعله قادر على التعامل مع الآخرين، وأكدت أنها عملية تخضع لبرامج وأنشطة ليصل إلى تلك النتيجة المطلوبة.
عدد كبير من الأسئلة دار فى ذهنى بعد أن بدأت المديرة فى الاسترسال، إلا أن تلك الأسئلة لن تجعل الجولة تبدأ فطلبت منها أن توضح لى الأنشطة الموجودة فى المؤسسة، وأن نذهب ونشاهد الأطفال وهم فى يؤدون تلك الأنشطة
وفى ابتسامة منها تأكدت خلالها أن الثقة التى تتحدث بها هى ثقة شخص راضى عما تقدمه المؤسسة للأطفال، قالت إن المؤسسة تحاول أن توفر كافة الأنشطة للأطفال، والتى من بينها النشاط الاجتماعي، والنشاط الثقافي، والترفيهي، والرياضي، ويتم عمل جدول لتلك الأنشطة حسب الأوقاف المناسبة، ويكون هناك قبول للأولاد على تلك الأنشطة خاصة الأنشطة الرياضية والفنية لأنها تخرج الطاقات، وتكتشف المواهب.
مصروف للأطفال قبل ذهابهم إلى المدرسة
لم يكن للجولة أن تبدأ إلا بعد أن سألها عن الناحية التعليمية، إلا أنها سارعت بالإجابة وكأنها تعرف ما أود السؤال عنه، وأشارت إلى أن هناك مدرسة ابتدائية فى المؤسسة، بعد دراسة الطفل فيها ينتقل في المرحلة الإعدادية والثانوية إلى المدارس المجاورة، وفى تلك الحالة المؤسسة تعطى مصروف للأولاد، وفى حالة كانت المدرسة تحتاج إلى مواصلات فإن المصروف يتم مضاعفته من أجل المواصلات.
تشوقت لرؤية الأطفال وهم يقضون يومهم العادي، فطلبت منها أن نذهب لمشاهدتهم وهم يقضون أوقاتهم، وكان فى ذلك الوقت نشاط فني، عبارة عن رقصات يؤديها الأطفال على أغانى لحرب أكتوبر المجيدة، وبعد أن استمتعت بالأطفال وهم يؤدون تلك الحركات بمهارة وتنظيم، وعلى وجههم مرسومة الابتسامات، التى تكشف مدى استمتاعهم بتلك الأوقات.
تدريب الأطفال يبدأ في كل الأعمار
أردت أن أتحدث مع المشرف المسئول عن تدريبهم، والذى يطلق عليه الأطفال «عم سيد»، والذي عرف لي نفسه بأنه سيد المصري، راقص التنورة والفنون الشعبية، ومصمم رقصات، والمدرب بمؤسسة، وكان أول الأسئلة الذى جاء على خاطرى هو متى يبدأ مع الأطفال.. وكيف يصل بهم إلى مراحل متقدمة فى التدريب.. وأجاب عن ذلك التساؤل بأنه يبدأ مع الأطفال فى جميع أعمارهم، سواء الأشبال، الفتيان، أو الشباب، وتابع أن الأطفال فى المؤسسة لا يعرفون شيئًا عن الفنون، ولهذا بعضهم يبدأ معهم متأخرين وذلك لأنهم كبار ولهذا تكون حركتهم بطيئة، ولهذا يعطيهم ما يتمكنوا من فعله، ومع بداية حبهم لموضوع، يبدئون فى حب ذلك المجال.
وسألته كم من أطفال المؤسسة يتدربون معه، وأوضح أنه بأكملها فى الوقت الحالى تريد أن تتدرب الفنون الشعبية، وذلك لأنهم يشعرون أن لهم كيان، وكذا يوجد من يشجعه، لهذا فقد شعر بقيمته ف ذلك النشاط.
وحسب وصف المصري، عن بداية بأنه يختار الأطفال الموهوبين، من خلال سؤالهم فى البداية ومن ثم مراقبتهم عن كثب، ويبدأ فى تغيير أسلوبهم.
سألت «سيد المصري» عن الاحتفالية المقبلة وأشار أن الفترة المقبلة تشهد احتفالية نصر السادس من أكتوبر، ولهذا فقد تم البدء فى تدريب الأطفال على الفقرات التى سوف يقدمونها على المسرح، حيث من الممكن أن شهد الوزيرة تلك الاحتفالية، وأوضح أنه سوف يشارك بثلاث فقرت، الأشبال، فتيان، والشباب، والرابعة ستشهد جمع الكل.
على خلاف الكثير من الأطفال، إلا أننى وجدت الحماس فى عيونهم وهم يؤدون تلك الحركات الراقصة، دون خوف أو رهبة من المسرح، فتساءلت من أين يأتى هؤلاء الأطفال بتلك الجرأة، ولم أتمكن من كتم ذلك السؤال، فطرحته على المدرب، وأوضح وكأن ذلك لا شيء بالنسبة للصعوبات التى يواجهها الأطفال بأن الأطفال يشجعون بعضهم على المسرح، ويتخطون مشكلة رهبة المسرح بتلك الطريقة.
فى تلك اللحظة لا أنكر أنى سرحت قليلًا فى وجوه الأطفال، إلا أن النظرة كانت متعمقة بعض الشيء، فوجدت بداخل كل منهم حكاية إما أنه يحاول كتمانها، أو يحاول أن ينساها من خلال تلك التدريبات، لعل تلك الحكايات هى من الماضى البعيد الذى عاشوه بالخارج، أو من الممكن أن تكون تلك الحكايات من الماضى القريب داخل المؤسسة فكنت مصرًا على أن أتحدث معهم، لمعرفة ما يخفوه.
«سيف» يحب الأنشطة التي يقوم بها
وكان أول من أتحدث إليهم هو سيف، البالغ من العمر الـ 10 سنوات، والذى قال عن رأيه فى المؤسسة بكل براءة، إنه يحب الموجودين بالمؤسسة، لما فيهم من طريقة حسنة فى المعاملة، مؤكدًا أن مدير المؤسسة يلبى كل متطلباتهم، والمشرفين لا يردوهم أبدًا.
خفت من أن تكون تلك مجرد كلمات حفظها الطفل ويقولها لكل من يسأله، فسألته عن سبب حبه بالضبط، فأجاب أن المؤسسة توفر لهم الرحلات العديدة، وكذا العروض المختلف فى المجالات التى يحبونها، وأشار الطفل إلى أن المؤسسة لم تغفل عن إخراجهم إلى المصيف، وبسبب خوفها عليهم تسخر كل طاقتها لمراقبة الأطفال فى المصايف المختلفة، من مشرفين ومدرسين.
وتابع سيف أن يومه منظم إلى حد كبير حيث يبدأ بغسيل وجهه فى الصباح الباكر، ومن ثم ترتيب فراشه، والذهاب إلى وجبة الإفطار، ويتوجه مسرعًا بعد ذلك إلى درس الفنون الشعبية والرقصات مع عم سيد كما أطلق عليهم.
وأما فى فترة الدراسة فيختلف الوضع بعض الشيء حيث يذهب سيف إلى المدرسة ومن ثم يعود ليكمل يومه فى دارسة ما تعلمه فى المدرسة، ويذهب فى وقت الفراغ إلى مدرس الفنون لبدء تعلم الرقصات الختلفة، حسبما أوضح فى حديثه البريء الخالى من التجمل.
سألته عن المشكلات إلا أنه سارع وقال إنه فى حال واجهته أى مشكلة، فإنه يتوجه مباشرة إلى المشرفة وفى حال لم يجد حلًا لمشكلته فإنه يتوجه إلى رئيسة القسم، وصولًا إلى مدير الرعاية، حتى تحل مشكلته.
تبسمت لما وجدته فى الطفل من رد سريع على الأسئلة كما لو أنه لا يفكر فى الإجابة بل يذكر ما يحدث مباشرة، فقد سألته كذا عن الاحتفالية، وقال أنه سيشارك فى ثلاث عروض خلالها، مؤكدًا أنه يحب ما يفعله بالمؤسسة من لعب على أجهزة الحاسب الآلي، وكذا لعب كرة القدم، ومشاركته فى العروض، موضحًا أن علاقته بإخوته قوية جدًا فى المؤسسة حيث يشارك ممتلكاته معهم، ويشاركون هم بالتالي، فكما وصف الطفل كلهم وحد.
«علاء» لا يرغب في الحديث عن الماضي
أردت أن أتحدث مع طفل آخر، فوقعت عينى على «علاء» البالغ من العمر الـ16 عام، والذى أكد أنه فى المرحلة الإعدادية، وكان قد التحق بالدار منذ ما يقرب الـ شهرين فقط، وسألته عن بدايته فقال إنه ككل الأطفال فى بداية يومهم، إلا أنه لفت نظرى إلى أنه يصلى الفروض بوقتها، ولا ينتظر من يذكره بذلك الجانب، ورغم انه جاء من شهرين فقط، فذلك يعنى تعليم ذلك من الخارج.
وسارعت بسؤاله عن حياته بالخارج كيف كانت.. إلا أنه أحبطنى فلم أكن أتوقع أنه لن يحب الحديث عن تلك المرحلة، حيث لاحظت أن الطفل بداخله ما يخفيه من أحداث عصيبة مرت به فى الماضي.
وأكد علاء بكل طموح أنه يفكر دائمًا فى مستقبله دون التفكير فى أى شيء آخر، موضحًا أنه يتمنى أن يكون رجل مطافي، لولعة بتلك الوظيفة، وأيقنت أن بداخل علاء طفل موهوب فقد اكتشفت أثناء حوارى معه أنه يشارك فى الأنشطة المتعددة، كالرسم وكرة القدم، والمشاركة فى العروض المختلفة، بعد أن طلب منه أصدقاءه خوض تلك التجربة التى لم يكن يعلم عنها الكثير.
قبل أن أترك مدرب الفنون يكمل نشاطه معهم وددت أن أسأله عن الشباب الذين يخرجون من الدار، إذا ما كانوا يعاودون مرة أخرى أم لا، فقال لى إن بعض الذين يخرجون من الدار يعودون ثانية ويودون لو أنهم يشاركون مع المؤسسة إلا أن القوانين لا تسمح بذلك.
مكتبة المؤسسة
رافقتى الأستاذة تهانى لأستكمل جولتى التى بدت لى أنها ممتعة جدًا لنذهب إلى المكتبة التى وجدت فيها عددًا من الأطفال يشاهدون شاشة العرض، وعدد آخر منهم يقرأون القصص والكتب الممتعة، وقد أعجبنى ذلك المشهد جدًا حيث أن المؤسسة لم تترك أى جانب لم تغطيه للأطفال، وشاهدت الأطفال يشاهدون مقطع مصور عن فيروس كورونا المستجد، يوضح مدى خطورة ذلك الوباء.
انتظرت قليلًا حتى ينتهى الأطفال من مشاهدة المقطع كاملًا ومن ثم طلبت من أمينة المكتبة «هدى السيد» الحديث معها قليلًا ورحبت بذلك، وقالت لى إن وظيفتها هى وضع خطة شهرية يكون فيها مناسبات ثقافية، وأخرى تاريخية، ودينية، مشيرة إلى أن المكتبة تعمل على ثلاث محاور الأول تعليمى لتعديل السلوكيات من خلال القصص وبعض الأفلام القصيرة، والثانى ثقافى من خلال تعريفهم بعض العلماء وإنجازاتهم والتطور فى العلم والتكنولوجيا، والثالث الترفيهى باختيار الأطفال أنفسهم بعض الأفلام الترفيهية ومشاهدتها.
وتابعت أنها تحاول تبسيط الموضوعات المختلفة قدر إمكانها، حيث أنها تقرأ القصة وتوصلها لهم بالطريقة المناسبة لكل فئة، وذلك لان العديد من الأطفال لا يعرفون القراءة، وتستند إلى القصة من أجل تعديل السلوك الخاص بالأطفال.
وحين سألتها عن المقطع الذي كان يشاهده الأطفال وأوضحت أن فيروس كورونا أكثر الموضوعات التى تعمل المؤسسة على شرحها للأطفال، وتوعيتهم بخطورة الفيروس ومدى أهمية الإجراءات الاحترازية للابتعاد عن الإصابة قدر الإمكان، من خلال الشرح المبسط، وكذا من خلال الفيديوهات القصيرة.
إن المؤسسة وفرت للأطفال مبنى خاص بالأنشطة، وأكدت الأمينة أنه ذلك المبنى يتعامل مع كل الأطفال بدء من 6 أعوام وحتى 18 عام، ويوجد جدول محدد لكل قسم من الأقسام، ولكل فئة منعًا لاختلاط الأبناء.
ونظرًا لحديث الأمينة عن الأقسام، تبين أن الأطفال مقسمين إلى أقسام، كل قسم له غرفة معيشه، ومشترك مع بعضه فى الأنشطة وفى كل شيء
وأما الفئات التى تصل أعمارها إلى 17عام تقريبًا، أوضحت هدى أنه يكون لهم خطة أخرى محددة، وتختار كذا القصة والفيديو المناسب لتلك الفئة.
تركت المكتبة وذهبت إلى قاعة مواجهة لها، وإذا بها مكتبة ثانية ولكنها تابعة لوزارة الثقافة، وليس المؤسسة، وبتلك المكتبة يوجد «سابورة»، وعدد كبير من الكراسى أمامها، وكم من الكتب المتنوعة، إل أننى لاحظت أن الأطفال يحبون أكثر مكتبة المؤسسة لما فيها من مقاطع مصورة جاذبة لانتباههم.
وأنا ذاهب إلى غرفة الموسيقى، المتواجدة فى نفس الطابق، تقابلت مع «محمد إسماعيل» البالغ من العمر الـ 17 عام، أحد أبناء المؤسسة وقد أمضى فيها ما يقرب من الـ 7 أعوام، وأوضح خلال حديثه معى أنه انتقل إلى المؤسسة بعد حدوث بعض المشاكل فى الدار الأخرى التي كان يتواجد فيها.
وأكد أنه بعد مجيئه إلى الدار، استقبلته المديرة بنفسها، وكانت تدعى «وفاء المستكاوي» حسب قوله، وأوضح فى حديثه لى أن المديرة فى ذلك الوقت خيرته إذا ما أراد المكوث أو البحث له عن مكان آخر يكون أكثر راحة له، إلا أنه اختار أن يظل فى المؤسسة بعد أن ارتاح نفسيًا لها.
وأضاف أنه كان لديه موهبة رسم الوجوه، وكذا كل ما يتراءى فى ذهنه، وبعد أن أبلغهم بها بدأوا فى متابعته، وأشار إلى أنهم وفروا له الكراسات والأقلام، لتنمية مهاراته فى الرسم.
وخلال جسر الثقة الذى تمكنت من إنشاءه مع محمد، أوضح أنه بعد أن مر عليه شهور عديدة فى المؤسسة، وبدأ يكون معروفًا فيها، أصبح وصلة للأطفال الجدد الذين يأتون المؤسسة حديثًا، وبات يوضح لهم مدى طريقة العيش فيها، كما تعلمه هو.
وأشار فى حديثة إلى أن المؤسسة نمت لدية مهارة لعب كرة القدم، حيث أرسلوه إلى النادى «البنك الأهلي»، وعندما يكون فى وقت فراغه يبدأ فى الرسم، وأكد أن العديد من المشكلات قد واجهته وأصدقائه، إلا أنهم لا يستسلمون لتلك المشاكل، ويفضلون مواجهتها بدلًا من الهرب منها.
علمت من محمد أنه يذهب إلى مدرسة الثانوية العامة خارج المؤسسة، وسألته عن طريقة تعامله من الأطفال الموجودين فى تلك المدرسة، وإذا ما كان يحاول أحد مضايقته، وِاشار إلى أنه فى معاملته مع الطلاب يحاول أن يظهر المؤسسة بالشكل اللائق، سواء فى معاملته معهم، أو فى شرحه لهم مدى الأساليب الجيدة الموجودة فيها.
يبقى لمحمد عام على خروجه من المؤسسة، وسألته عن مستقبله وأكد لى أنه مع قرب خروجه يتمنى ألا يترك أحدًا وفى قلبة أى شيء سيء اتجاه، فهو يحاول ارضاء كل من حوله، ليترك لنفسه سمعة حسنة مع المشرفين والمديرين.
وعن حلمه أجاب أنه يود أن يكون لديه مسكنه الخاص به، ومن ثم يبحث عن وظيفة ملائمة له، ويتزوج ليستقر فى حياته.
تركنى محمد عن باب غرفة الموسيقى لأدخل وأجد شابًا يدعى زياد ويبلغ من العمر 18 عام، وبجانبه مدرب الموسيقى أيمن رمضان العازف والسيناريست بالمؤسسة.
نشاط الموسيقى بالمؤسسة
وبعد التحية، جلست مع زياد لنتحدث قليلًا، وقال لى فى بداية الحديث، إنه التحق بالمؤسسة منذ الأربعة سنوات تقريبًا، وأنه سيخرج من المؤسسة قريبًا.
وأكد زياد أنه يتذكر أول يوم جاء فيخ إلى المؤسسة حيث كان الاستقبال الخاص به جيد لغاية، موضحًا أنه بعد أن ارتاح طلبوا منه الاستحمام، ومن ثم أعطوا له ملابس جديدة، من أجل تحسين المظهر.
وعن موهبته قال: "إن المؤسسة بها أشخاص قادرون على اكتشاف المواهب المختلفة"، موضحًا أن المشرف الفني، اكتشف مهارته فى لعب الدرامز، وكذا فى الغناء، لتعدد مواهبه، وكذا موهبته الخاصة بتشكيل مكعبات صغيرة جدًا لتصميم ما يحلوا له من خلالها، وقد دخل بها مسابقة، وتمكن من الحصول على المركز الأول، وجدت فى عينيه نشوة الانتصار، فسألته عن التحاقه بكورال أبناء مصر، مع المايسترو «سليم سحاب»، إلا أنه أشار إلى أن سنه كان العقبة الوحيدة أمامه، حيث شارك فى الكورال، ولكنه عاد مرة أخرى بعد أن وجحد أنه كبير سنًا عن الأطفال المتواجدين هناك.
قد يكون زياد أكثر من اقترب خروجهم من المؤسسة، لأن عمره الآن الـ 18 عام، فسألته عن ذلك وقال إنه لا يقلق على مستقبله حيث أن المؤسس لن تتركه، بدون أن يكون له حياة مستقرة بالخارج، موضحًا أن المؤسسة سوف تدعمه بعد كل ما قدمته له خلال فترة وجوده فيها.
توجهت بعينى إلى «أيمن رمضان» مدرب الموسيقى، وسألته كيف يكتشف الموهوبين، ولافت إلى أن المؤسسة مقسمة لأقسام، وهو بجانب الأخصائى النفسى يتابع الأطفال، ومراقبتهم فى حال كان لدى أى أحد منهم موهبة معينة سواء فى رسم أو غناء، ويبدأ فى جمع الأطفال الموهوبين وعمل كورال فى المؤسسة.
وتابع أنه بعد العمل عليهم ورفع مستواهم، يتم إرسالهم إلى الدكتور سليم سحاب، مؤسس كورال أبناء مصر، ومن جانبه يقوم بعمل اختبارات لهم.
وأشار أيمن إلى أن المسابقات التى تقوم بها المؤسسة تحدث على فترات بعيدة، إلا انها تحدث بين الأقسام وبعضها كل 15 يوم تقريبًا، إلا أنه وفى نظرة حزن قال إن القرى يوجد فيها موهوبين كثر، إلا أنه لا يوجد من يرسلهم إلى أماكن معروفة، ليتم اكتشافهم، فإذا كانت المسابقات بشكل أكثر يمكن تسهيل ذلك وإيصال الموهوبين إلى الامكان التى يستحقوها.
وسألته عن أكثر الأنواع التى تجذب الأطفال، وأجاب أن العزف بأنواعه أكثر ما يجذب الأطفال، ويبدئون فى ممارسته، سواء العزف على الدرامز، أو الطبلة أو الأورج، مشيرًا إلى أن الكثير من الأطفال يحبون دخول ذلك المجال.
وحين سألته عن الصعوبات التى تواجهه أفاد أن صعوبات التدريب تكمن فى ضيق الوقت، حيث أن الأطفال مرتبطون بأعمال أخرى، وكذا الأخصائيون لهم أدوار أخرى يقومون بها.
كنت أطوق لمعرفة ما يدور فى ذهن المدرب، منذ أن بدأت حديثى معه، وسألته عن إذا ما أراد أن يتحدث بحرية أكثر، فقال إن المجتمع المصرى ينظر إلى طفل الرعاية على أنه غير سوى، ويحاولون الابتعاد عنه، إلا أن ذلك خطأ كبير، مشيرًا إلى أنه كتب فيلم باسم «عقبية»، يتحدث عن الأحداث التى قابلها فى المؤسسة، ويحاول أن يوصل ذلك الفيلم للمخرج «شريف عرفة»، موضحًا أن ذلك المخرج صاحب رؤية وفكر وبإمكانه أن يخرج الفيلم بصورة جيدة جدًا.
وقال «أيمن» إن بعض الأطفال، كانوا تائهين عن أهاليهم، وبعضهم من كان والده ضابط، وآخر طبيب، ومحامى كبير، موضحًا أن الأطفال لا يوجد لهم صور فى ملفاتهم لإمكانية التعرف عليهم حيث يبحث المختص فقط من خلال الاسم، وبعض الأحيان يكون الطفل اسمه متغير لعدم معرفته اسمه الحقيقي، وتابع أن بعض الشباب يحبون العودة إلى المكان، بسبب ارتباطهم الوثيق بالمؤسسة.
سمعت من زياد بعض الألحان الموسيقية على آلة الدرامز، التى تكشف عن حقيقة موهبته، ومن ثم سمعت صوته الجذاب فى أغنية الحلم العربي.
الأنشطة الرياضية
وانطلقت مسرعًا إلى ملعب كرة القدم خشية أن ينتهى المدرب الرياضى من أنشطته قبل أن أشاهدهم، وفى تلك اللحظات كانت قد تجاوزت الساعة الثانية بعد الظهر، وكانت درجة الحرارة مرتفعة فى ذلك التوقيت، وقد طلبت الأستاذة تهانى أن تذهب إلى مكتبها لإنهاء بعض الأعمال الهامة.
ذهبت وزميلتى المصورة «غادة شوقي»، إلى الملعب، لنشاهد الأطفال وهم منقسمين إلى فريقين، ويلعبون الكرة فى كل حب ووئام، وأشاهد مدربهم إبراهيم اللورد، مسئول الأنشطة الرياضية بالمؤسسة، وهو مدربهم، فاقتربت منه وبدأت حديثى معه، وعرفت أنه يدرب الأطفال منذ ما يقرب الـ 20 عام، موضحًا أن معاملته مع الأطفال تعد معاملة خاصة، حيث أنه يعد أخيهم الكبير، مشيرًا إلى انه يوجد حالة نفسية هى التى تصنع ذلك الود بينهم.
وتابع «اللورد» كما يلقبونه كل من فى المؤسسة أنه يدرب الأطفال بشكل منسق، موضحًا أنه يوجد مشكلة وهى أنه بعد تدريب الأطفال بالمؤسسة تخرج الأطفال وتترك كل ما تعلمته خلف ظهرها، ولا تسمح المؤسسة بضم أيًا منهم مرة أخرى إلى الفريق الذى تم تشكليه.
وسألت إبراهيم عن الدورات المجمعة وقال إنه يقوم بعمل الدروات المجمعة بين كل فئة والأخرى لتناسق الأعمار، وفى حالة كان يوجد أى مشاركة خارجية سواء فى أى بطولة أو مسابقة خاصة بالمؤسسات، يتم اختيار الفريق حسب الفئات العمرية المشاركة فى الدورة.
أعلم جيدًا أنه ما بين الحاضر والماضى يوجد العديد من الاختلافات سواء فى المؤسسة أو فى أى مكان آخر، ونظرًا لطول المدرة التى قضاها اللورد فى ذلك المكان، أرد أن أعرف ما الاختلافات التى شاهدها، وقال إن الملاعب فى المؤسسة كانت عبارة عن تراب، ولم يكن هناك أسوار أو حتى نجيله، وكذا الإضاءة، مشيرًا إلى أنه لعب فى تلك الملاعب منذ أكثر من 20 عام، وكان سن الأطفال أكبر من ذلك بكثير، وأنه كان يلعب معم، وذلك بداية تسميته باللورد، وأفاد أن اللواء «شريف» المدير الأسبق للمؤسسة هو من أنشأ الملاعب، ووضع البنية الأساسية للمؤسسة، لتكون على ما هى عليه الآن.
وتراءى لى فى أعين «اللورد» بعض الأحلام، فسارعت بالسؤال عنها، كما أنه سارع بالرد قائلًا أنه يحلم بأن يجمع 40 طفل ويبدأ فى تدريبهم، وأن لا يكون لهم علاقة بالمؤسسة، حتى وإن رحلوا بعد تدريبهم، يمكن لهم أن يظلوا فى فريق المؤسسة، ويشارك بهم فى البطولات المختلفة، ليكون لنفسه فريقًا خاصًا، يمكن أن يكبر ويكون نواه لفريق جديد ينافس الفرق الكبرى.
أنهيت مع اللورد فى حديثنا، وتركته وظللت أشاهد الأطفال وهم يلعبون ويتناقلون الكرة فيما بينهم، وبعد أن تركتهم توجهت مرة أخرى إلى الأستاذة تهانى فى مكتبها، لأجلس معها قليلًا، قبل رحيلنا.
وما أن رأيتها مجددًا، وبدأت الأسئلة تتخلل ذهنى مجددًا، وبعد أن طلبت لى كوبًا من الشاي، بدأنا حديثًا جديدًا عن المؤسسة.
وقد بدأته بمبنى داخل المؤسسة، إلا أننى ممنوع من دخوله، وعندما سألتها عنه، قالت إنه قسم الملاحظة، وهو خاص بالحالات التى تحت الحكم أو الحبس الاحتياطي، حتى يتخذ بأنهم إجراء، وهى بالنسبة للأولاد حتى سن الـ 15 عام، وبالنسبة للفتيات حتى سن الـ 18 عام، وفى حالة الحكم على البنت بمدة محددة، تستكمل فترة الحكم فى ذلك المبني، حتى تصل لسن الـ 18 عام، ومن ثم تنتقل إلى سجن القناطر.
وأكدت المديرة أن المؤسسات يوجد منها ثلاث أنواع وهم المؤسسة المفتوحة مثل دور التربية، المتواجدين فيها، ومؤسسة شبه مغلقة كالتى فى عين شمس، ومؤسسة مغلقة وهى العقبية بالمرج، وهى تعتبر كسجن مصغر.
وبالنسبة للمؤسسة المتواجدين فيها، أوضحت المديرة إلى أنه لا يمكن أن يطلق على حالة الأطفال جرائم، ولكن يمكن القول أن الأولاد ظروفهم الاجتماعية صعبة بعض الشيء، كطفل معرض للخطر، أو ولد خرج عن سلطة والديه، أو حتى ظروف اجتماعية صعبة على الأم فى تربية الطفل، أو أى ظروف صعب تجعل الطفل من الصعب أن يستمر فى البيئة المتواجد فيها، فتضطر الأسرة أن تضع فى المؤسسة.
وخلال حوارى معها سألتها عن فريق كبار وصغار لا مأوي، وعلاقتهم بالمؤسسة، وقالت إنهم من ضمن المصادر التى تجلب الأطفال الذين بلا مأوى، واستكملت أن داخل الدور توجد مؤسسة «معًا لإنقاذ إنسان» التى تأخذ المشردين الكبار.
وجدت أن هذا الجهد يجب أن يكون هناك دخل قادر على أن يجعل المؤسسة قادرة على استكمال ذلك الجهد الكبير، ووجدت المديرة تجيب بقولها أن الميزانية مهما كانت فإن الميزانية الأكبر تصرف على الأكل والشرب، ويبدأ التقسيم بعد ذلك على الملابس، الأنشطة، العلاج والتعليم.
وتابعت أنه يوجد بعض المؤسسات التى تدعم بالملابس، والأكل، وبعض المساعدات الأخرى، وأشارت خلال حديثها إلى أن ميزانية المؤسسة قائمة على وزارة التضامن بشكل أساسي، وبعض الناس المتبرعين، وبالفعل يكون هناك احتياج دائم، حيث يوجد بعض المعوقات المادية وكذا البشرية، فحسب حديثها، فإن المؤسسة تحتاج إلى عدد من الأخصائيين فى عديد من الأنشطة، كالنفسيين والاجتماعيين، والإشراف الليلي، ومشرف موسيقي، وتربية فنية، حيث أن العدد كبير، ومهما تمت الجدولة فلن تتمكن من تغطية الكل.
وانساب الحديث بيننا إلى كيفية المحافظة على الأطفال فى فترة كورونا، ولفتت إلى أن المؤسسة تطبق الإجراءات الاحترازية، حيث تصرف للأخصائيين والعاملين كمامات، وجواتنى بشكل مستمر، كما أن التعقيم يسرى فى كل أركان المؤسسة، كما تم تضييق أمر الزيارات إلى أقصى حد، حيث أنه فى الضرورة القصوة فقط، كما أن خروج الأولاد كذلك الأمر للضرورة القصوى كمدرسة أو علاج ليس إلا.
انتهى يومى فى المؤسسة وهممت بالرحيل بعد أن استمتعت حقًا بتلك المعايشة التى وجدت طريقها إلى قلبي، وقد أعجبنى ذلك الشعور الذى تخلل داخلي، فكأنما المؤسسة عبارة عن مجتمع منفصل، مجتمع تم إنشاءه لتلبية حاجة هؤلاء الأطفال، الذى أطلقت عليهم الوزيرة «أبناء مصر».
وقد تأكدت أن مصر لم تنس أبناءها قط، لحظة تذكرى لتلك المشاهد كلما مررت بجانب سور تلك المؤسسة.