د. حسين علي ,
«بلد العُميان» قصة من تأليف الكاتب البريطانى «هـربرت. ج. ويلز» H.G. Wells (1866م - 1946م) قامت بترجمتها إلى العربية لبنى أحمد نور، تحكى القصة عن حدوث زلزال ضخم، أدَّى إلى انهيارِ جانبٍ كاملٍ من الجبلِ الملاصقِ لإحدى القرى، تسببَ ركامُ الصخورِ الناجمُ عن الانهيار إلى عزلِ تلك القرية عن العالَمِ تمامًا؛ انتشر بتلك القريةِ المعزولة مرضٌ غريب، يُفقِد المصابَ به حاسةَ البصر، فيصير أعمى. واستطاع السكانُ مواصلةَ حياتهم حتى بعد زوالِ البصرِ عنهم. كانوا بارعين ومتمكنين من كلِّ شىء ما عدا الرؤية. (ويلز، هربرت جورج، بلد العُميان، ترجمة لبنى أحمد نور، مؤسسة هنداوي، ص 9.)
عاشوا حياةً هادئةً وآمنةً إلى أنْ جاءهم يومًا شخصٌ مُبْصرٌ يُدعى «نونيز» - وهو من هواة تسلّقِ الجبال - انزلقتْ قدمه فسقط على مَقْرُبةٍ من «بلد العُميان»، ورغم سقوطه من ارتفاع هائل فإن عظمة واحدة من بدنه لم تُكسر لأن الكتلَ الثلجية الناعمة المفككة التى رافقته فى رحلة سقوطه أنقذته من الموت. (ويلز، هربرت جورج، بلد العُميان، ص 11.)
هبط «نونيز» عبر أحدِ المنحدرات حتى وصلَ إلى القناةِ المائيةِ المحيطةِ بالوادي، استطاع حينئذ أن يرى عددًا من الرجال والنساء والأطفال. تسلَّقَ صخرةً وانتصب واقفًا فوقها، محاولاً أن يبدو ظاهرًا أمامهم بأكبر قدرٍ ممكن؛ لكنهم لم يلتفتوا إليه، فأطلق صرخةً قويةً تَرَدّدَ صداها فى أنحاء الوادي. وقف الرجالُ يحركون رؤوسهم كما لو كانوا يلتفتون نحو هذا الاتجاه أو ذاك، وكان «نونيز» يلوّح لهم بكلتا يديه؛ علَّهم يرونه، لكن لم يبدُ أنهم كانوا يرونه، وقال فى نفسه: «الحمقى.. لابد أنهم عُميان». (ويلز، هربرت جورج، بلد العُميان، ص ص 12 – 13.)
تقدم «نونيز» فى سيره مقتربًا من الرجال، وهو على يقين أن هذه هى «بلد العُميان»، وقف الرجال جنبًا إلى جنب، غير ناظرين إليه، لكنهم اتجهوا بآذانهم إليه وسألوه: من أين جاء؟
حكى لهم قصته. أرادوا اقتياده إلى شيخ القبيلة لينظرَ فى أمره، فأمسكوا به، وحاول أحدهم أن يقودَه إلى منزل الشيخ، فصاح «نونيز»:
«إن لى عينين أستطيع أن أرى بهما الطريق»
وما إن نطق بهذه العبارة حتى انهالت عليه الأسئلة: سألوه ماذا يعنى بلفظ عينين؟ وما معنى الرؤية؟ ما معنى البصر؟ وكيف يرى؟ وما هى الرؤية؟ وبأى طريقةٍ يستطيعُ المرءُ أنْ يبصر؟
حاول أن يشرح لهم، لكن كيف يفهم معنى الإبصار من لا يملك بصرًا؟! سخروا منه، واتهموه بالجنون والشذوذ، وقد اعتبروا أن عينه التى يرى بها هى مصدر هذيانه وجنونه. تأكد لهم أنه كائن غريب وشاذ، فاتخذوا قرارًا بضرورةِ نزعِ عينى «نونيز» من مكانها ليصيرَ أعمى، ويصبح واحدًا منهم. لكن «نونيز» هاله ما سمع، لقد فزع وفرّ هاربًا متسلقًا الجبال، وعاد من حيث أتى.
انتهت القصة، لكن السؤال يظل مطروحًا: هل العَمَى هو عَمَى البصر أم عَمَى البصيرة؟ كم من أعَمى البصر يتمتع ببصيرة نافذة!! وما أكثر المبصرين الذين تعوزهم البصيرة؛ فصاروا عُميانًا!! إن طه حسين حين أصدر كتابه «فى الشعر الجاهلي» عام 1926، كان صاحب رأى ورؤية – رغم كونه كفيفًا – وكان جسورًا، فصرّح بما أزعج العُميان فى وطنه، فانتفضوا ضده مهاجمين. كذلك تم اغتيال «فرج فوده» على يد أحد العُميان. و«نجيب محفوظ» طعنه أحد العُميان. و«نصر حامد أبو زيد» تكتل ضده مجموعة عُميان ففرقوا بينه وبين زوجته. إنَّ كلَّ الأوطانِ التى يسودها الرأى الواحد والفكر الواحد هى «بلد العُميان».
أصحاب العقول المعتمة هم عُميان يزعجهم أن يأتى أحدٌ برأى مخالف، وينظرون إلى صاحبِ الرأى المخالف بوصفه معتوهًا أو شاذًا، لقد استقرت حياتهم على نمطٍ واحدٍ منذ مئات السنين، فكيف يتجاسرُ كائن من كان ويأتى بأفكار تزعزع أركان حياتهم التى استقروا عليها. وهذا يفسر لنا سرَّ المقاومة الضارية والرفض العنيف لكلِّ فكرٍ جديد يتعارضُ مع ما هو سائد. إن أصحاب العقول المعتمة حريصون أشدَّ الحرصِ على إطفاء نور العقل، وتجريد الإنسان من أعزِّ ما يملك، حتى يصيرَ مثلهم أعمى لا يرى إلا ما يرون ولا يعتقد إلا فيما يعتقدون.
طابت حياة الظلمة والظلام لأصحاب العقول المعتمة، إن مثلهم مثل أولئك الذين تحدث عنهم أفلاطون فى أسطورة الكهف، فى مطلع الكتاب السابع من «محاورة الجمهورية» عرض أفلاطون تشبيهًا مشهورًا يسمى «تشبيه الكهف»، يمكن تلخيصه فى السطور الآتية:
مجموعة من الناس منذ أن وُلِـدوا عاشوا فى كهف مظلم مقيدين بسلاسل بحيث تكون وجوههم مثبتة نحو جدار الكهف، أما باب الكهف فهم لا يرون منه شيئًا، ولا يعرفون موضعه، لأن رؤوسهم مثبتة نحو جدار الكهف المقابل للباب، خارج الكهف تدب الحياة وتغمر أشعة الشمس الدنيا، وتنعكس ظلال حركة الحياة الحقيقية على جدار الكهف، أهل الكهف لا يدركون من الحياة الحقيقية المفعمة بالصدق والحيوية سوى الظلال الباهتة الباردة الرطبة المنعكسة على جدار الكهف، هم لا يستطيعون النظر خلفهم، لأنهم مقيدون بسلاسل، منذ أن وُلِـدوا بحيث تكون وجوههم مثبتة نحو جدار الكهف، أما باب الكهف فهم لا يعرفون أنه موجود أصلًا.
إنهم يعتقدون أن ما يرونه من ظلال باهتة منعكسة على جدار الكهف هو الحق المطلق، وأن من يزعم غير ذلك، ويدعى وجود حياة حقيقية خارج الكهف، هو ضال ومضلل، وأن كل من يروج للقول بأن ما يشاهدونه داخل الكهف هو مجرد ظلال وأوهام إنما هو إنسان مغرض يسعى إلى إحداث فتنة واضطرابات وقلاقل داخل «مجتمع الكهف»، والأغرب من ذلك والأنكى أن أغلب «أفراد مجتمع الكهف» أنفسهم سوف يهاجمون ذلك الإنسان الذى يسعى للأخذ بيدهم للخروج من ظلمات الكهف إلى نور الحياة الحقيقية، وقد يصفونه بأنه مجنون أو معتوه، أو قد يتطوع أحدهم لقتله، أو ينبرى آخرٌ ويرفع عليه قضية حسبة، خطورة الأمر أنّ من تدافع عن قضيتهم هم أنفسهم من يناصبونك العداء ويتصدون لك.. لماذا؟! لأنهم كما أهل كهف أفلاطون، عاشوا منذ أن وُلِـدوا مقيدين بسلاسل بحيث كانت وجوههم مثبتة نحو وجهةٍ نظرِ واحدة لا يرون سواها، واعتقدوا أنها الحق المبين!!
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس