د. شيرين الملواني,
سبق القرآن أفكار العديد من مُناصري حقوق المرأة على الساحة في يومنا هذا، بل إن القرآن أتانا بكثيرٍ مما يَكفُل نَصرة المرأة ويشهد لها برجاحة العقل والحكمة وقوة الشخصية؛ وبالتَدبُر نجد أنه لا توجد امرأة ذُكِرت اسمًا في الآيات القرآنية عدا السيدة مريم العذراء وذلك لكون الأسلوب القرآنى معهود فيه ( الإيجاز المُعجز) بمعنى قصْر الإبلاغ على الطريقة الأقرب إلى تعيين الشخص المراد والأكثر تحديدًا لهويته؛ فنجده يُقدِم مريم البتول شاهدًا لها بالعِفة والقنْوت (ومَرَيْمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتى أَحْصنَتْ فَرْجَهَا فَنَفخْنا فيِه مِن رُّوحِنا وصَدَّقَتْ بِكَلمَات رَبّهَا وَكُتُبه ِوَكَانَتْ مِنَ القَانتِين)، أما امرأة فرعون فقد عرفها القرآن بتقواها وكونها كانت أداة لنجاة سيدنا موسى (وقاَلَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لّى ولَكَ لا تَقْتلّوهُ)، كما طالعتنا السيرة النبوية على الكثير من أمهات المؤمنين، ذاكرة مواقفهن البطولية وثباتهن فى الشدائد وسعيهن فى الخير وقدرتهن على إحلال الحق.
لكن النموذج المُلفِت والذى يعضد قدرة المرأة على القيادة هو نموذج الملكة (بلقيس) ملكة (سبأ)؛ تلك المرأة التى تولت إمارة وترأست الرجال فى عهدها؛ فحكمت اليمنيين فى ذروة تألق حضارتهم كدليل على أنها كانت تَمُلك الكثير من العقل الذى يؤهلها لتولي الحكم ولا سيما كون هذا الأمر يندرج تحت مسمى العار عند العرب منذ الأزل ،ومن آيات القرآن نفهم أنه عند قراءتها لكتاب سليمان لم يستفزها أمره بالخضوع ؛بل أعجبت به وراقتها تعبيراته ومضمونه (إنِّى أُلْقِيَ إلَىَّ كِتابُ كَرِيم)، فما استهانت به ولم تُعمِل العجرفة والغرور كخصال، فعرضت ما قرأت على وزرائها وأعوانها ولم تحرضهم على الحرب والقتال بل وجهت كلامها للحث على الطاعة ؛ بوصفها للكتاب بالكريم وبتسمية سليمان باسمه دون تصنيفه بالعدو .
ثم نجدها تضرب أروع الأمثال بتفعيل مبدأ الشورى ( قالَتْ يا أيُّها المَلَأُ أفْتُونِى في أمْرِى ماكُنْتُ قاطِعَةً أمْرًا حَتّى تَشْهَدُونِ) ؛فلم تتخذ قرار الحرب وإنما توجهت إلى استشارة معاونيها ضمانًا لنفسها من عاقبة الإقدام أو الأحجام وهو ما يسوقنا لتخيل لو كان ملك اليمن حينها رجل وردة فعله عند تلقى كتاب سليمان!،حتى إنها لما رأت من قومها تفويضًا لها -مما يدل على كون قدراتها كانت تفوق قدرات الرجال- ( قالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وأُولُو بَأْسٍ شَديدٍ والأمْرُ إلَيْكِ فانْظُرِى ماذا تَأْمُرِينَ)؛ وبرغم تصريحهم لها بقوتهم بررت لهم إحجامها عن قتال سليمان - دون التلفظ باسمه- وهو ما يعكس أعلى درجات الذكاء فى عدم استهدافه بخطاب عدائى فى تلك اللحظة؛ فقالت ( قَالَتْ إِن المُلُوك إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً افْسَدُوهَا وجَعَلُوا أعِزّةَ اهلِها أذلّة وَكَذَلِك يَفْعلُونَ)؛ وهذا تبرير يدل على كمال العقل وغيرتها على الحُرمات ولتبصرها بحتمية تغلب سليمان عليهم إن خاضت الحرب معه.
وحين تشككت كونه نبى مرسل وليس بملكٍ دنيوي؛ فاختبرته بما ابلغنا به الكريم (وإني مُرْسِلَة إِلَيْهمِ ْبِهَديّةٍ فَنَاظَرة بِمَ يَرْجِعُ الْمُرسَلُونَ) وهذا من حُسن تدبرها بمعنى اختبارها للرجل بالهدايا والنفائس فإن كان ملكًا دنيويًا تعاملنا معه من منطلق هذا وإن كان نبيًا لن يقيم وزنًا للمال ولازمناه فى أمر دينه، وأخيرًا قدمت تلك الملكة نفسها ومملكتها طواعيه لسليمان بعد تأكدها من نبوته بل وأقرت بين يديه بظلمها وظلم قومها إذ عبدوا ما لا ينفع ولا يضر من دون الله ( قَالَتْ رَبِّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسى وأَسْلَمْتُ مَعَ سليمانِ للهِ رَبِ العْالَميِنَ).
القرآن هو معجزة الكون ليوم الدين؛ يطلعنا بتدبره على نماذج كثيرًا ما ننادى بها ليومنا هذا، فنرى أى خطوة فى مسيرة المرأة للقيادة تتأرجح بين أصوات الاستنكار من بعض المُتشددين مُفسري الدين من منظور ناقصات العقل والدين ومقتطعين الآيات من سياقها ومُفسريها لخدمة معتقداتهم فقط، وتقابلها أصوات دعم من محرري المرأة والمنادين بحقوقها دون الانتباه لتكريم المرأة فى كتاب الله والذى ذكر فيه نموذج لقيادة المرأة مبجلًا عقلها فى أغلب آياته وأحكامه لذا يجب أن نحيا بمبدأ آية الله (أفلْا يَتدْبرون القُرآن).