كهرمان ومرجان .. أقدم صنايعى يروى أسرار «السبح» اذكر الله
تحقيق: محمود أيـوب - أشرف التعلبى - شريف البرامونى
عدسة: سامح كامل
« ألا بذكر الله تطمئن القلوب» و «السبحة» أو «المسبحة» بالفصحى، طقس من طقوس الذكر خاصة فى شهر رمضان الكريم، يحرص كثيرون على أن تكون مصاحبة لهم فى يومهم تذكرهم وسط مشاغل اليوم بالذكر، وكأنها تهتف «أذكر الله»، لصناعة السبح أسرار لا يعرفها إلا أصحاب الصنعة القابضون عليها رغم أنها كما يقولون «ما بتأكلش عيش ، وعايشين يوم بيومه».
صناعة السبح اليدوية مثلها مثل باقى الصناعات الحرفية المرتبطة بالتراث تعانى من الإهمال، لكنها رغم ذلك تحتفظ بعراقتها ويقبل عليها من يعرفون قيمتها وتقف صامدة فى وجه غزو السبح الصينى والتركى.
صناعة السبح هى إحدى الصناعات الحرفية التقليدية، لها ورش صغيرة يعمل بها عدد محدود من الحرفيين، ولصناعة السبح اليدوية فى مصر تاريخ عريق نظراً لارتباطها بأداء مناسك الحج والعمرة جعلها مباركة وقد خصصت لإنتاجها العشرات من الورش داخل مصر فهى الدولة الأكثر شهرة فى العالم العربى بتصنيع السبحة اليدوية، وهى من تقوم بتصديرها إلى دول العالم، ويوجد فى منطقة الحسين ما يقرب من ٥٠ ورشة لتصنيع السبحة وتصديرها إلى الخارج بشكل مستمر منذ عشرات السنين.
وتصنع السبحة من مواد مختلفة بدأت بالبذور والحجارة والطين والقواقع ثم تطورت إلى المعادن والعاج والزجاج والخشب المعطر، وتعد أشجار الأبانوس والعود والصندل والورد والسندونوس والعضم من أفضل الأنواع المستخدمة فى صناعة السبح، كما يعد خشب كوك جوز الهند من أفضل الأنواع أيضا، وهى فى حجم ثمرة الكمثرى، ومنها الكوك الأصلى فى حجم ثمرة الخيار، وهو الخشب الذى يقال إن سيدنا نوح استعمله فى تصنيع سفينته قبيل الطوفان، وتصنع السبح أيضا من الكهرمان والخامات النادرة فأنواعها الأشهر الكهرمان والمرجان والفيروز واليسر والفضة والبرونز واللازورد والذهب والأبنوس والكوك وأنواع أخرى من الخامات الخلائط الحديثة مثل البلاستيك على أنواعه والبوليستر.
هنا فى منطقة الحسين بحى الجمالية أشهر سوق للسبح يقبل عليه السائحون العرب والأجانب لدقة صناعتها وزخارفها .. ابتعدنا قليلاً عن أصحاب محال بيع السبح، واتجهنا إلى المنبع الذى تصنع فيه السبحة.. داخل حارات ضيقة مليئة بالزخارف والتحف يظهر عليها العراقة والأصالة، وتحديداً فى وكالة «المكواة» بشارع «قصر الشوق» وهى منطقة مليئة بالورش الحرفية التقينا بعم كمال محمود شيخ مشايخ صناعة «السبح اليدوية» فى ورشة صغيرة لا تتعدى العشرة أمتار بصحبة أولاده الثلاثة يجلس على آلته البدائية التى تشبة آلات «الفراعنة» يستخدمها فى استخراج حبات السبحة ومن خلفه أشكال وأنواع مختلفة من السبح التى يصنعها على عينه.. يجلس بجواره ولده “عمرو” على ألة يستخدمها فى تطريز السبحة بالكهرمان والفضة.. جلسنا على الأرض بجواره ليروى لنا أسرار السبحة اليدوية بعد أن أوشكت على الاندثار بسبب قلة الصنايعية وعدم اهتمام الناس بقيمة الحرف اليدوية.
.. «أنا أقدم خراط فى صناعة السبح وطلعت أجيال كتير” بهذه الكلمات بدأ عم كمال ، حديثه معنا.. مضيفاً:” أنا شغال فى المهنة من وأنا عندى ١٠ سنوات وأخذت الصنع من جدودى».
عم كمال محمود الرجل الستينى من عمره يتحدث عن صناعة السبح اليدوية قائلاً: إحنا بنصنع السبح من خامات كتير لكن أبرزها عظام الجمل وشجرة الكوك، وشجرة الأبانوس، وجميعها مواد خام ربانية ليس للبشر تدخل فيها، فثمرة الكوك تأتى لنا من أفريقيا والهند، والأبانوس من السودان، وهذه المواد لا تستخدم فقط فى صناعة السبح ولكن تدخل فى صناعة الحلى وإكسسوارات زينة المرأة.
يستخدم عم كمال صناعة السبح الكوك كميات قليلة من ١٠ إلى ٢٠ كيلو يتم شراؤهم من التجار المجاورين له، مؤكداً أن سعر كيلو الكوك قديماً كان مرتفعاً لكن بعد انتشاره بكثافة أصبح سعره منخفضا جداً.
وعن صناعة السبح الصينية تحدث قائلاً:”السبح الصينية بلاستك وزجاج ملهاش أى لازمة، لكن السبح اللى إحنا بنصنعها كلها مواد خام ربانية، فالعظام وشجرة الكوك مواد خام ربانية ليس للبشر تدخل فيها.
أما عن كيفية صناعة السبحة من العظام يضيف: «يتم شراء عظام الجمل من محلات اللحوم، بعدها يتم تقطيع العظام إلى قطع صغيرة من خلال منشار كهربائي، بعدها يتم صنفرة القطع الصغيرة على فرشة كهربائية، بعدها يتم استخراج حبات السبحة من العظام وتخريمها بعد تنعيمها على ألة يدوية، بأشكال مختلفة بعضها يتم تطعيمه يدوياً بالفضة والأحجار الكريمة والصدف والكهرمان، وأبرز السبح التى يتم تطعيمها «اليسر» ، و «العاج».
وعن صناعة السبح من الكهرمان قال: «الكهرمان أغلى من الدهب، ومفيش حد بيشتريه دلوقتى، لكن صناعته نفس صناعة السبح العظام والكوك والأبنوس مش بيختلف عنهم كتير، وجميع المنتجات التى تصنع يتم تتصديرها».
أما عن أنواع السبح يقول عم كمال: «سبح الفطران وهى خامه مثل خامة الكهرمان، والسبح المستكة وخامتها كانت تأتى قديماً من ألمانيا أو “العنبرويت الألمانى، لكن عندما أغلق المصنع، باتت خامتها منعدمة، وسبح «الكهرمان» و «اليسر» وتأتى خامته من الخارج ويتم تطعيمها فى مصر، بالإضافة إلى سبح العظام والكوك.
الألة اليدوية التى يعمل عليها عم كمال وهى مرحلة ما قبل التطريز تثير العجب فهى ألة بسيطة مكونه من قطعتين، واحدة مثبته على الأرض مكونة من قطعتين تشبه شكل الغراب وعمود من الحديد بالإضافة إلى قطعة كبيرة من الخشب أما الأخرى يمسك بها عم كمال فى يده «مقوسة» وهى تشبه ألة المنشار مكونة من قوس وعصفورة خشب، يحركها الصانع للأمام وللخلف ويلتقط حبات صغيرة وكبيرة مكعبة ويقوم بنحتها بالشكل المطلوب مستديرة أو بيضاوى أو اسطنبولى زيتونه ثم يقوم بثقبها وتلميعها.
يقاطعنا عم كمال بلغته البسيطة قائلاً: «دى ألة من زمان الزمن.. زى شغل الفراعنة بتاع زمان»، يضع عم كمال القطعة التى يريد أن يستخرجها حبات صغيرة من العظام بعد تقطيعها على منشار كهربائى إلى قطع صغيرة ثم يقوم بوضعها على الألة المثبتة على الأرض بين قدميه ويقوم ببرمها ليخرج منها أشكال مختلفة، وبعد أن ينتهى من عملية البرم يقوم بوضعها فى مادة الأكسجين كمطهر للعظام من الشوائب الموجودة فى العظام وتبييضه.
«الشغل اليدوى ناس معينة اللى بتطلبه مش أى حد بيفهم فيه، لأن الشغل اليدوى صنعة»، هكذا يصف هم كمال زبائنه ويتساءل فى استنكار: «يعنى الصينى يعمل اللى أنا بعمله ؟! «لما يتنطط ما يعرفش يعمله»، حاولوا يصنعوا «العقد الفل» اللى بعمله من العظام معرفوش يعملوه»، واللى بيشترى الصينى بيسترخص وعايز المنظر، إنما اليدوى دا شغل له قيمة ومش أى حد بيفهم فيه ويقدره، فالشغل الصينى لا مادة ولا خامة ولا صنعه، أما الشغل اليدوى خاماته ربانية كل ما تقعد معاك تحلو وتزيد قيمتها، سعر السبحة تبدأ من ٥٠ جنيها وفى سبح بتوصل ٣٠ ألف جنيه وأغلى أنواع السبح الكهرمان، والألماني».
عملية التطعيم مرحلة أخيرة لكنها فى ذات الوقت لها أهمية لبعض السبح التى تحتاج إلى تطعيمها بالفضة والكهرمان والصدف التى يعطيها قيمة مضافة، يقول عمرو كمال الابن الأوسط ً لشيخ المهنة: «كل السبح التى تتم صناعتها من المواد الطبيعية مثل العاج والكوك والخشب والعظام، يمكن تطعيمها بالزخارف، بالفضة أو بأحجار كريمة، وبالتالى كل الأنواع يتم تطعيمها ما عدا السبح المصنوعة من البلاستيك، لأن قيمتها محدودة، و ليس لها قيمة مادية لرداءة الخامات المستخدمة فى تلك الصناعة».
وعن نوعية زبون هذه السبح يضيف عمرو قائلاً: «غالبية من يترددون علينا من دول الخليج، فالمواطن العربى يقيم ما نقوم به سواء فى استخدام المواد الطبيعية أو فى التطعيم بأفضل الخامات، والدافع الثانى أن هذه السبح باهظة الثمن نظراً للمواد الخام النادرة التى تصنع منها وقيمة العمل اليدوى».
وحول اندثار الصناعة اليدوية للمهنة يقول: «كل الحرف اليدوية تنقرض بسبب ضعف الطلب عليها، وسبب غلاء الخامات، وعدم وجود تسويق جيد، بالاضافة إلى أن الدولة لا تهتم بالمشغولات اليدوية، فى حين أن هناك اقتصاد دول قائم على هذه الحرف، واغلب ورش صناعة السبح أغلقت بسبب الظروف التى تحدثت عنها، لأن فى النهاية الصنايعى أو صاحب الورشة منتظر مائة جنيه لبيته، ومن هنا يدفعه هذا إلى غلق ورشته أو عدم تعليم أبنائه الصنعة، وبعضهم ذهبوا للعمل كسواق توك توك، مضيفاً: «الأجانب يعشقون أبى، ويلتقطون معه الصور التذكارية، لأنهم يرون أنه صاحب يد ذهبية تنحت الخشب أو العظم أو العاج وتنتج سبحا أو حليا من (عقد وحلق) وهذا لا يقدر بثمن.
وعن مشاكل المهنة يضيف عمرو بالقول: «الدولة لا تسأل ولا تهتم بمشاكل صنايعية السبح، وعلى الدولة أن توفر المواد الخام بأسعار مناسبة، لإحداث نوع من الرواج لسوق السبح، ونستطيع المنافسة للسبح تركية الصنع، حيث إن تركيا هى المنافس الأول على مستوى العالم فى صناعة السبح اليدوية، مع اختلاف الوضع، ففى تركيا يتم دعم الحرف اليدوية ويساهمون فى اقتصاد الدولة، وهذا لا يحدث فى مصر.
يكمل عمرو حديثه بالقول: «نحن كصنايعية نعانى من إهمال الدولة، ليس لدينا إمكانيات لفتح معارض أو المشاركة فى معارض دولية، والمصريون هم أول من صنعوا السبح وكانت تسمى الحبات المقدسة، وليست دخيله علينا، وبفطرتنا قمنا بتطوير الصنعة، والصين رغم كل الإمكانيات والتكنولوجيا لا تستطيع أن تجارى الصناعة المصرية اليدوية فى فن صناعة السبح، مستائلاَ:”لماذا الدولة لا تهتم بشيوخ الحرف اليدوية وتكرمهم، وتحافظ على المهن من الضياع؟، فلا يمكن تعويض هؤلاء الصنايعية».
وطالب عمرو من الحكومة بتوفير معاش مناسب لوالده، قائلا:”أبى قضى ٦ سنوات بالجيش، ويعمل صنايعى سبح منذ خمسين عاما، إحنا بالعافية بنكفى نفسنا من السبح، هو مين بيشترى سبح يدوى دلوقتي، إحنا عايشين يوم بيوم».