«سراج الدين» يسلم «الفقى».. مكتبة الإسكندرية ١٥ عاماً من التنوير
عرض وتحليل: محمود عزت : ممدوح مبروك
تحتفى مكتبة الإسكندرية هذا العام بمرور ١٥ عامًا على افتتاحها، وبما حققته من إنجازات بأيدى شباب مصرى تحمس لرسالتها، وعمل لها وللوطن وللإنسانية، حتى أصبحت مؤسسة دولية رائدة بين مثيلاتها فى العالم.
وفى الوقت الذى تنتهى فيه فترة رئاسة مديرها المؤسس، الدكتور إسماعيل سراج الدين، تبدأ المكتبة فى استقبال مديرها الجديد، الدكتور مصطفى الفقى، ليحمل راية مكتبة الإسكندرية نحو الأمام، مستكملاً ما قدمته المكتبة طوال السنوات السابقة، وساعيًّا نحو تقديم ما هو جديد من مشروعات ثقافية ومعرفية مبتكرة، تجعل مكتبة الإسكندرية فى الصدارة فى ظل أجواء المعرفة المعاصرة.
شهد يوم الثامن والعشرين من مايو مناسبة رفيعة المستوى، وهى الانتقال السلس لإدارة المكتبة، والجدير بالذكر أن ما تشهده المرحلة الجديدة فى مكتبة الإسكندرية من تسليم وتسلم للقيادة هو جزء من بناء المؤسسات، والثقافة المؤسسية، التى رسختها مكتبة الإسكندرية منذ تأسيسها، وهذا ما أعرب عنه الدكتور مصطفى الفقى خلال كلمته الأولى، مشيرًا إلى أن هذا الوقت ليس وقتا للخطب، بل العمل المتفانى والبناء على النجاحات التى حققها الدكتور إسماعيل سراج الدين، الذى ترك موقعًا دوليًا هامًا ليقوم بمهمة إدارة مكتبة الإسكندرية». وأضاف أن المكتبة سوف تعمل فى الفترة المقبلة على التوسع عربيا وإفريقيا، وتقف داعمة للدولة المصرية فى حربها ضد الإرهاب.
بدوره، أكد الدكتور إسماعيل سراج الدين، أن مكتبة الإسكندرية أصبحت على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية من المؤسسات القليلة، التى يعترف بها أقرانها فى القمة، كشريك وزميل ومنهم المكتبة الوطنية الفرنسية، ومكتبة الكونجرس.
ولفت الدكتور سراج إلى أن هذه الإنجازات قد حدثت بسرعة كبيرة، وبسواعد مصرية شابة، استطاعت أن تبنى هذه المؤسسة، وأن تحميها وتلتف حولها فى أوقات الأزمات.
وأوضح أن المرحلة الجديدة هى مرحلة تسليم وتسلم، وهو جزء من بناء المؤسسات، معربًا عن سعادته لاختيار الدكتور مصطفى الفقي، مديرًا جديدًا لمكتبة الإسكندرية، وأن هذا الصرح سيكون بين أيديه المتمكنة الآن، حيث تجمعهم صداقة كبيرة واحترام متبادل وثقة لا حدود لها.
ولطالما كانت مكتبة الإسكندرية سفيرة العالم فى الثقافة ومصدر إشعاع ثقافى وتنويري، فقد تركت مكتبة الإسكندرية بصمتها على الساحة الدولية فى هذا المجال، وقدمت كوادرها جهدًا جمًا فى توفير أدوات التواصل مع المواطن المصرى، وتمثيل الهوية الإنسانية فى العالم أجمع.
ومن الجلِّى أن مكتبة الإسكندرية من المؤسسات المصرية التى استطاعت فى العقد الأول من تأسيسها أن تحقق بأيدٍ مصرية شابة عددًا من الإنجازات المهمة ليس فقط محليًا أو إقليميًا، ولكن فى المقام الأول دوليًا، مما جعلها فى موقع الند مع أقرانها فى العديد من الدول المتقدمة، التى استطاعت أن تراكم إنجازاتها على مدى عقود مثل مكتبة الكونجرس، والمكتبة البريطانية، وغيرهما.
أما على الصعيدين الإقليمى والمحلي، فقد استطاعت مكتبة الإسكندرية أن تشغل المكانة الأولى بين نظيراتها فى الدول العربية، واجتذبت قطاعات واسعة من المثقفين والعلماء والباحثين فى المجتمعات العربية للمشاركة فى أنشطة مكتبة الإسكندرية، وتوسعت فى دوائر الاتصال والتواصل معهم، مما وفر لها رصيدًا عربيًا من الدعم ومشاركة المثقفين العرب، ومحليًا فى النظر إليها على أنها مؤسسة قومية، تتنزه عن الارتباط بأى قوى أو تيار سياسى.
وعلى سبيل المثال وليس الحصر نجد عددًا كبيرًا من المشروعات التى سعت مكتبة الإسكندرية فى إنجازها ولا زالت، فبرنامج المجابهة الفكرية للتطرف الإرهاب، وهو البرنامج الذى أطلقته مكتبة الإسكندرية منذ ثلاث سنوات، وتواصَل الجهد فيه بالتعاون مع العديد من المؤسسات العربية والدولية من مختلف المستويات، وعقَدَت العديد من الأنشطة المشتركة وتبادل الخبرات، وبناء الوعى المشترك، وتوسيع نطاق المعرفة بالإرهاب، والتجارب المختلفة فى مجابهته. وقد رافق هذا الاهتمام الدولى والإقليمى اهتمامًا على الصعيد المحلى فى مجال مكافحة الإرهاب اشتمل على دورات للثقافة الإسلامية، والعمل مع الشباب، والتعاون الكثيف مع المؤسسات الدينية فى مقدمتها الأزهر الشريف، الذى استضاف دورات مشتركة للثقافة العلمية لطلاب وأساتذة جامعة الأزهر.. وكذلك العمل مع المؤسسات الدينية على صعيد تجديد الخطاب الديني، مع التركيز على برامج الثقافة الإسلامية للشباب فى كل أنحاء مصر بهدف توضيح صحيح الدين الإسلامي، ونشر الثقافة الإسلامية الوسطية، والحيلولة دون انزلاق الشباب فى براثن الفكر المتطرف.. فالإرهاب خطر يهدد الإنسانية، ومستقبل مصر وسائر المجتمعات العربية، بل والعالم بأسره، يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمواجهة هذا الخطر الداهم، وبناء ثقافة التسامح، والتعددية، وقبول الآخر، ورفض التشدد والغلو والعنف.
كذلك تسعى مكتبة الإسكندرية لتوطين الثقافة العلمية والفكر العلمى المتقدم، وبناء القدرات المتميزة على استخدام أحدث الوسائل البحثية والتقنيات التحليلية لدراسة الحاضر واستشراف المستقبل، وترسيخ الدراسات المستقبلية فى مصر والعالم العربي، وذلك من خلال مركز متكامل للدراسات الاستراتيجية والإنسانية.
وفيما يخص مشروعات التوثيق الرقمية نجد مشروع تطوير واستكمال مشروع ذاكرة مصر المعاصرة وهى أكبر ذاكرة رقمية فى الوطن العربى على شبكة الإنترنت؛ حيث تضم أكثر من ١٥٠ ألف وحدة وثائقية متنوعة، يوثق الحياة فى مصر خلال القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين، من خلال أرشفة وتوثيق تاريخ مصر من خلال الصور، والأفلام، والطوابع، والعملات، والصحف، والمجلات، والوثائق، والدراسات التاريخية، التى كتُبت خصيصًا لهذه الذاكرة.
أما ذاكرة الوطن العربي، فتسعى مكتبة الإسكندرية لإطلاقها لتكون أكبر مكتبة رقمية تضم بين صفحاتها تاريخ العالم العربى بشتى صوره وفتراته الزمنية.
بيت السناري، وهو البيت الأثرى الكائن فى حى السيدة زينب والذى حصلت عليه مكتبة الإسكندرية ليكون منارة للعلوم والثقافة والفنون لخدمة جمهور القاهرة بتعدد فئاتهم العمرية والثقافية، فالبيت يقدم أنشطته وفاعلياته على مدار العام، فبيت السنارى يُعد مصغرًا من مكتبة الإسكندرية بكل فعالياتها وأنشطتها.
فيما يخص مشروع الرسائل العلمية، نجد أن هذا المشروع صُمم من أجل إتاحة الرسائل العلمية للباحثين، بالإضافة إلى دعم العملية التعليمية فى الجامعات؛ حيث تقتنى مكتبة الإسكندرية ما يقرب من ١٥٠.٠٠٠ رسالة علمية؛ وقد تم عمل الإجراءات الفنية من فهرسة وتصنيف وتسجيل أكثر من ٧٠ ألف رسالة بشكل رقمى من أجل إتاحة محتوى تلك الرسائل ضمن الخدمات الإلكترونية، التى تقدم البيانات فى المكتبة للباحثين.
واستمرارًا لحرص المكتبة على التواصل مع الجامعات المصرية جاء مشروع سفارات المعرفة ليكون بمثابة فروع لمكتبة الإسكندرية تنتشر جغرافيًا تقدم خدماتها لمرتاديها، وهو ما ينقل المكتبة بخدماتها إلى مختلف أنحاء جمهورية مصر العربية، خاصةً فى الجامعات والمراكز البحثية، حيث تمد مكتبة الإسكندرية سفارات المعرفة بالمواد العلمية والتكنولوجية والثقافية، وربطها بمقر المكتبة فى الإسكندرية لمتابعة المحاضرات والندوات، التى تعقد بالمقر، والمشاركة إلكترونيًا فى هذه الفاعليات، وبالفعل تم افتتاح سفارات المعرفة فى العديد من الجامعات المصرية منها: جامعة المنيا، وجامعة القاهرة، وجامعة الزقازيق، وجامعة المنصورة، وجامعة بنها، وجامعة الفيوم، وجامعة جنوب الوادى، وجامعة طنطا، وغيرها.
كذلك شبكات التواصل الإفريقية، التى تهدف إلى التواصل والتشبيك بين مجموعات الأكاديميين، والباحثين بالقارة الإفريقية، من أصحاب الاهتمامات المشتركة، لتبادل المعرفة فى المجالات المختلفة (الزراعة، البيئة، المكتبات، تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، الصحة العامة وطرق البحث).
إذا انتقلنا لقطاع التواصل الثقافى فسنجد عددًا من المشروعات والمبادرات المهمة، التى تعنى بنشر الثقافة والإبداع على نطاق واسع من المجتمع، فيقوم القطاع بالاشتراك مع Intel بتنظيم مسابقات على الصعيد الوطنى فى مجال ابتكار «إنسان آلى» Robot، يفوز فيها عادةً مدارس من صعيد وريف مصر، ويشارك الفائز فى مسابقات دولية ويحققون مراكز متقدمة، إن لم يفوزوا بالمركز الأول، كما ينظم القطاع مهرجان العلوم السنوى، والذى بلغ عدد المشاركين فيه هذا العام حوالى ٢٠ ألف طالب وطالبة من كافة مدارس مصر، وهو مهرجان يرسخ العلوم فى أذهان الأجيال الجديدة.
كما تضم المكتبة بين جنباتها العديد من المتاحف المتنوعة، والتى تقدم خدمات وأنشطة متنوعة تستهدف جميع الفئات العمرية والعلمية، هذا بالإضافة إلى العديد من قاعات العرض المتغيرة والثابتة المميزة لأعمال كبار الفنانين.
وهناك عدد من المبادرات الرقمية الفريدة يقوم بها قطاع تكنولوجيا المعلومات فى المكتبة، ترمى إلى تعميق إسهام المكتبة فى العالم الرقمي، مثل إطلاق مشروع CEDEJ لرقمنة مجموعة ضخمة من المقالات الصحفية بالتعاون مع مركز التوثيق والدراسات الاقتصادية، والقانونية، والاجتماعية، وإتاحتها للجمهور من خلال موقع إلكترونى على شبكة الإنترنت.
وكذلك متحف الآثار الافتراضى، الذى يقدم جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد لمتحف الآثار بمكتبة الإسكندرية وعرض العديد من القطع الأثرية بشكل افتراضى مزودة بعدة أدوات للاستكشاف والبحث، التى تخدم باحثى الآثار والمستخدم العادي.
كما يسعى فريق العمل بقطاع تكنولوجيا المعلومات لإنشاء جولة افتراضية ثلاثية الأبعاد الافتراضية لمكتبة الإسكندرية.
مكتبة الإسكندرية مؤسسة رقمية ١٠٠٪، فقد تم تحويل كافة المعاملات التقنية، والبحثية، والفنية، والإدارية، والمالية بمكتبة الإسكندرية من الصورة اليدوية إلى الصورة الآلية عبر برامج صممت خصيصًا بشكل رقمي، وتتعاون مكتبة الإسكندرية مع وزارة تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات فى هذا المشروع فى أبعاد متعددة، منها التدريب، وتفعيل التوقيع الإلكتروني، وغيرهما.
ولعل وجود العديد من المراكز البحثية المتخصصة العديدة بمكتبة الإسكندرية جعل المكتبة بمثابة مجمع علمى يضم عدة منابر لإجراء الدراسات العلمية والأبحاث فى مختلف المجالات، مثل: مركز دراسات الديمقراطية والسلام الاجتماعي، ومركز المخطوطات، ومركز الخطوط، ومركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى، ومركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط، ومركز الدراسات الهلنستية، ومركز الدراسات البيئية، ومركز الدراسات والبرامج الخاصة، ومركز دراسات الحضارة الإسلامى، ومركز الدراسات القبطية.
وفى الختام لا يمكن إغفال الإنجازات، التى حققتها مكتبة الإسكندرية فى مجال المكتبات، حيث تلقت مكتبة الإسكندرية إهداء من المكتبة الوطنية الفرنسية يقدر بـ٥٠٠ ألف كتاب باللغة الفرنسية مما جعلها تحتل المكان الرابع دوليًا فى المكتبات الفرنكوفونية. وكذلك الحصول على ٤٢٠ ألف كتاب من هولندا، وذلك لثقتها فى قدرة مكتبة الإسكندرية على الحفاظ على هذا التراث الثقافي.
كما أصبحت المكتبة شريكًا أساسيًا فى التجمعات العالمية لمكتبات القمة، ونذكر منها: الاتحاد العالمى للمكتبات الرقمية، والمكتبة الرقمية العالمية.. هذا بالإضافة إلى الحملة التى أطلقتها مكتبة الإسكندرية لإمداد مكتبة «آشور بانيبال» العراقية فى الموصل بمائة ألف كتاب، الأمر الذى يشكل إدراكًا منها بأهمية دورها فى دعم المؤسسات الثقافية العربية، التى أحرقتها نار الإرهاب، وأتت على ما فيها من تراث، وثقافة، وفكر.