بقلم – نجوان عبد اللطيف
فى تسعينيات القرن الماضى، كان الإرهاب يحاول فرض سيطرته وأجندته على الشارع المصرى، أحداث تفجير تارة تخص السياح وتارة أخرى تخص المدنيين، تفجير فى فندق فى الهرم وآخر فى أوتوبيس فى الأقصر.. فى مقهى فى ميدان التحرير.
اغتيالات أو محاولات الاغتيال ساسة وكتابا، فرج فودة، رفعت المحجوب، نجيب محفوظ، حسن الألفى، عاطف صدقى.
ووسط طوفان الإرهاب والعمليات القذرة، التى أودت بحياة الكثيرين وروعت الناس، كان المسيحيون هدفًا لجماعات الإرهاب التى ترفع لواء الإسلام، سواء الجهاد أو الجماعات الإسلامية أو المنشقين عنهما مثل جماعة شوقى الشيخ فى الفيوم وجماعة أخرى فى بنى سويف، استحلوا دمهم ومالهم وعرضهم.. عمليات سطو مسلح على محال الذهب، التى يمتلكها المسيحيون، وكانوا لا يتورعون عن قتل من يحاول التصدى لهم من العاملين أو الملاك.
التعرض للمسيحيين أو المسيحيات فى الشوارع، بالتحرش اللفظى، والذى تطور فى حالات كثيرة لاستخدام العنف ضدهم، هذا بخلاف عمليات كبيرة تحت مسمى الفتنة الطائفية فى الكشح بمحافظة أسيوط فى سنورس وأبشواى فى الفيوم، وطما فى سوهاج، أحداث راح ضحيتها عشرات المسيحيين، بخلاف حرق بيوتهم ونهبها.
تكفير المسيحيين أو من هم غير المسلمين واستحلال دمهم ومالهم وعرضهم هو جزء أصيل فى فكر جماعات الإسلام السياسى أيًا كانت اختلافاتهم الفكرية، ومهما ادعت بعضها أنها تقبل التعايش مع الآخر، بل وتضم بين صفوفها بعض المسيحيين، فهو نوع من التكتيك أو الخداع السياسى.
حركة داعش (الدولة الإسلامية فى العراق والشام) هى ليست متفردة فى موقفها المعادى للمسيحيين، الذى عبرت عنه مرة تلو الأخرى فى عمليات دموية عنيفة ضدهم سواء فى سوريا أو العراق أو ليبيا، ومؤخرًا فى سلسلة جرائم دموية حقيرة ضد مسيحيين مسالمين عزل أغلبهم من الأطفال والنساء.
بدأت «داعش» بالتعرض للمسيحيين فى مدينة الموصل العراقية التى سيطرت عليها فى يونيه ٢٠١٤، بالكتابة على مساكنهم عبارة (عقارات الدولة الإسلامية) فى إشارة واضحة لاستحلال ممتلكات المسيحيين ثم أصدرت بيانًا لمسيحيى الموصل، بثته على طريقة الأوائل، من خلال ميكرفونات تجوب الشوارع لبث الرعب فى نفوس المسيحيين، تخيرهم بين الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، ورغم حالة الرعب والفزع إلا أن المسيحيين رفضوا الامتثال لهذا التهديد، فما كان من داعش إلا أن أصدرت بيانًا آخر بدلت فيه موقفها إلى إنذار المسيحيين إما مغادرة الموصل أو القتل، ومهلتهم ٢٤ ساعة فقط، مما دفع المسيحيين بالفعل إلى مغادرة أملاكهم وأعمالهم فى أسوأ عملية تهجير قسرى طائفية، وغادر مسيحيو الموصل بلدهم، ولم تتورع داعش عن ملاحقتهم عند حدود المدينة والاستيلاء على كل ما يحملون من متاع وأموال وذهب، كما استولت على منازلهم، التى تركوها، وتحويل بعض الكنائس إلى جوامع، وتدمير البعض الآخر، بخلاف عمليات القتل لمن تواجد من المسيحيين حتى الأطفال ورفضوا النطق بشهادة الإسلام وأصبحت الموصل تقريبًا خالية من المسيحيين.
وذلك أثناء استيلاء داعش عليها قبل أن تتمكن قوات الجيش العراقى والحشد الشعبى مؤخرًا من مواجهتها وطردها من معظم أنحاء الموصل واستعادتها.
كان مسيحيو العراق يقدرون وقت احتلال الأمريكان لها بأكثر من مليون ونصف، نهاية ٢٠١٥ قدر عددهم بنصف مليون فقط، حيث هاجروا إلى تركيا والدول المجاورة مثل لبنان والأردن وأوربا ليشكلوا نسبة ٤٠٪ من المهاجرين العراقيين.
وفى سوريا أيضًا قامت داعش فى المناطق، التى فرضت عليها سيطرتها، بالتعرض للمسيحيين بالاستيلاء على أموالهم ومنازلهم، والقيام بعمليات قتل تجاههم وأحرقت العديد من الكنائس ودمرت الكثير منها خاصة فى مدينة الرقة واختطفت عددًا من الراهبات وأفرجت عنهن مقابل فدية كبيرة، وكان عدد المسيحيين فى سوريا قبل ٢٠١١ حوالى مليون ومائة ألف، وانخفض الرقم بعد ٤ سنوات ليصل إلى ٦٠٠ ألف مسيحى، نتيجة هجرة الكثيرين ومقتل العديد فى أتون الحرب بين المليشيات، خاصة أنهم كانوا هدفًا للعديد من المليشيات الإسلامية المتطرفة غير داعش.
وفى ليبيا فى عام ٢٠١٥ كانت عملية ذبح العمال المصريين (٢١ مصريا) بعد اختطافهم، وتصوير عملية ذبحهم على أحد سواحل ليبيا فى فيلم فيديو (رسالة موقعة بالدماء إلى أمة الصليب) من أبشع ماشاهدته الإنسانية ثم بدأت العمليات الموسعة ضد مسيحيى مصر بدأت ديسمبر ٢٠١٦ بتفجير كنيسة البطرسية بجوار الكاتدرائية، التى راح ضحيتها ٢٨ شهيدًا وعدد كبير من الجرحى ثم فى فبراير عندما قامت داعش بالهجوم على المسيحيين فى منازلهم وقتل رجالهم وأبنائهم أمام أعينهم وحرق منازلهم بوحشية مرعبة، مما أدى إلى تهجير قسرى لمعظم العائلات المسيحية التى هربت من أتون داعش فى العريش، إلى الإسماعيلية ومدن أخرى فى مصر، فى أول وأخطر عملية تهجر قسرى طائفية، ثم تفجير كنيستى طنطا والإسكندرية فى أحد الشعانين فى إبريل الماضى والتى راح ضحيتها ٤٤ شهيدًا مسيحيًا، وأخيرًا حادث المنيا، الذى قتل فيه ٢٩ شهيدًا بدم بارد من قبل مجموعة داعشية.
عمليات داعش ضد المسيحيين المصريين لديها أبعاد عديدة كما تناولها الكثير من المحللين السياسيين، يعد طائفى لا يمكن إنكاره وبعد سياسى، حيث يرى الكثير من التنظيمات الإسلامية ومنها الإخوان أن المسيحيين هو وقود ثورة الـ٣٠ من يونيه ضد نظام الإخوان وحكم محمد مرسى، ولا أحد ينسى تصريح القيادى الإخوانى خيرت الشاطر من مظاهرة الاتحادية الضخمة ضد حكم الإخوان قبل ٣٠ يونيه، التى أشار فيها، إلى أن المتظاهرين هم المسيحيون فقط.
فى بعض رسائل حركة داعش، التى تبث على النت وينشرها مؤيدوها، قالوا إن المسيحيين المصريين هم مشركون أولًا، وثانيًا ظهروا الغدر بالتحالف مع الغرب والحكومة المصرية، ولذا يجب أن يقتلوا.
ويشير مختار عوض، الباحث فى جامعة جورج واشنطن الأمريكية إلى أن أبو مودو الهرماسى أحد منظرى داعش فى دراسة له عن لماذا لم ينجح الجهاديون فى مصر (مشيرًا إلى فترة التسعينيات) وحدد مفاتيح النجاح الجهادى، والتى كان على رأسها راية (القتل الطائفى للمسيحيين من أجل إشعال المناطق الريفية) وأشار إلى أن الطائفية لها جذور عميقة فى المجتمع المصرى نجح الإسلاميون فى نشرها خلال العقود الماضية وساهمت فيها السياسات الحكومية، حيث يواصل الإعلام إثارة الكراهية ضدهم دون رقابة «أبومودو الهرماسى» أن إثارة الفتنة الطائفية ستكون مفتاح الكشف عن واقع الصراع والتحريص على المشاعر الكامنة للمسلمين تجاه المسيحيين.
وأشار أبو يحيى المصرى أحد عناصر داعش الانتحارية فى رسالته (عملية الكنيسة البطرسية) إلى أن مسيحيى مصر يساندون النظام ويمدون له يد العون لتثبيته ليحكم فيها بغير شريعة الإسلام.
كان لزامًا على المجاهدين استهداف نصارى مصر وتنغيص عيشهم فى أى مكان وإدخالهم دائرة الصراع.
استهداف المسيحيين المصريين من قبل داعش هو استمرار لاستهداف الأقليات غير المسلمين السنة، داعش لم تترك الشيعة ولا الأيزيديين فى العراق ذبحت وشردت وهجرت الآلاف منهم كما فعلت مع المسيحيين، ولكن مسيحيى مصر أيضًا من وجهة نظر داعش هم الذين ساندوا ٣٠ يونيه وخارطة الطريق، وهو ما يقتنع به المسيحيون أنفسهم، فمازالت كلمات الشاب أبانوب، الذى هاجر قسريًا من العريش بعد قيام داعش بذبح عدد ربما يصل إلى عشرة من المسيحيين فى بيوتهم، قال لى: إننا ندفع ثمن تمسكنا بديننا وتـأييدنا للنظام، وتساءل أبانوب، ماذا سيفعل النظام لحمايتنا؟
من حق المسيحيين أن يحزنوا وأن يغضبوا ومن حقنا أن نشعر بالخوف على مستقبل مصر، «أبومودو الهرماسى» قال: إن الجهاد لم يسيطر على العراق وسوريا واليمن إلا بعد استهداف الأقليات ويقول نصًا: لا تذروا أى مسيحى كافر فى مصر حتى تهددوا حياته».
فى خمسة شهور خمس عمليات ضد المسيحيين وأكثر من مائة شهيد، إنهم يتحركون وبسرعة لتصبح مصر سوريا أو العراق.. ونحن نحتاج فكرا جديدا وأسلوبا جديدا للمواجهة.