بقلم -د. سامح فوزى
فى المنعطفات الحرجة التى يمر بها الوطن ينبغى أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ونطرح الأسئلة القريبة والبعيدة، ونحاول الإجابة عنها. يخشى البعض أحيانا، بدوافع وطنية، طرح الأسئلة المفرطة فى صراحتها حتى لا تؤثر على التماسك الاجتماعى رغم شعورها بأن هناك عوامل تهديد له، لكنها تفضل أن تدع الأمور تسير فى طريقها دون أن نعترضها بأسئلة صعبة، تفترض بالضرورة إجابات أصعب.
وهناك البعض، أحيانا مدفوع برغبة فى التكتيم، يلقى قنابل دخان منعا لإثارة الأسئلة الصعبة، بهدف التهوين من المشكلات، وإغلاق باب الحديث النقدى.
نتفهم الدوافع «الوطنية» للفريق الأول، ونرفض نوازع الفريق الثانى، لكن الأمانة تقتضى أن نطرح الأسئلة الصحيحة، ونبحث عن الأجوبة الصحيحة حرصا على وطن يحتاج إلى كلمة صريحة.. الوطنية هى التصدى للمشكلات قبل تفاقمها، الوطنية هى بعث روح الوطن فى النفوس، الوطنية هى مواجهة التطرف والإرهاب بجدية، الوطنية هى بناء دولة المواطنة والقانون، من هنا لا مجال سوى مواجهة النفس حرصا على المستقبل.
(١)الهوية المستيقظة
فى السبعينيات من القرن العشرين، وفى ظل توجهات سياسية يمينية، وتواصل العمالة المصرية مع الخليج، طفت هويات فرعية قاسية. عرفنا الأسماء «الإسلامية»، وعرفنا الأسماء «المسيحية». عرفنا الجماعة الإسلامية وعرفنا الجماعة المسيحية، عرفنا المتقابلات غير المتقابلة، حدثنا الرئيس السادات عن دولة العلم والإيمان، وتحدث عن «الإخوان المسلمين»، وتحدث عن «مدارس الأحد». انكمش المجال العام على المصريين جميعا، وحدث الإنكفاء القبطى فى الكنيسة خلف قيادة كنسية استثنائية تمثلت فى شخص البابا شنودة الثالث. شعر الأقباط بأن المجال العام يضيق عليهم، فاتسعت لهم الكنائس الضيقة، نشأت الثقافة التى تدور فى فلك الأقلية العددية الخائفة من تصاعد الإسلام السياسي، وتواطؤ السلطة.
صارت «الكنيسة» بالنسبة للقبطى فضاءه العام، والتقط النظام السياسى الخيط، وشجع الاتجاه فى أن يصبح الأقباط «كتلة واحدة» فى ظل قيادة كنسية واحدة، ينشغلون بالبيزنس، ويتجهون إلى الحياة فى الكنيسة، التى أصبحت المفاوض، والملجأ بالنسبة لهم. سار الأمر فى اتجاه مواطنة الأقباط كنسيا بأنه ضغط خارجى، واستيعاب داخلى، إلى أن فاض الكيل فى أواخر سنوات حكم الرئيس مبارك، وعرف الأقباط طريقهم إلى التظاهر داخل وخارج أسوار الكنيسة، وبدأوا يعبرون عن جراح المواطنة- الهوية التى تشكلت فى أعماقهم، تذكرنا أحداث «وفاء قسطنطين» و«كاميليا شحاتة» و»العمرانية» و»كنيسة القديسين»، الخ.
عقب ثورة ٢٥ يناير خرج الأقباط إلى المجال العام بكل صعوباته، وتعرجاته ما بين قوى مدنية وأخرى إسلامية، والتباسات أحداثه، وانتهى الأمر بهم إلى طريق ٣٠ يونيه مع قطاع عريض من المسلمين يريدون دولة وطنية مدنية، ولكن جراح المواطنة لم تندمل.
فى دروب الأحداث القاسية، المرة، تحدث ردة فعل جماعية تستيقظ فيها الهوية التى يشعر الناس أنها مهددة. لم يكن غريبا أن يكون الهتاف «بالروح بالدم نفديك يا صليب»، ملازما للحادث الإرهابى المروع الذى حدث بالقرب من دير الأنبا صموئيل المعترف بالمنيا. شعر الأقباط بمشاعر قاسية، رجالا ونساء وأطفالا، اختطفهم الإرهاب بقسوة. وبعد قتلهم، استحل أموالهم، وكان سؤال الهوية سابقا للقتل، حسبما أشار الناجون من هذه المذبحة، فقد سأل الإرهابيون زوار الدير فى الحافلة التى أقلتهم عن ديانتهم، ثم دعتهم تحت تهديد السلاح إلى ترك المسيحية، فلم يقبلوا فكان القتل ردا عليهم. مسألة القتل على الهوية تستدعى دائما ردة فعل من أعماق هذه الهوية، وعنوان الهوية المسيحية هى الصليب، وهو العنوان الذى دائما يستخدمه الإرهابيون فى وصفهم فهم فى نظرهم تارة «عبدة الصليب»، وتارة أخرى “الصليبيين الهالكين”، وبالتالى فإن «الصليب» عنوان الاعتداء على الهوية، و»الصليب» عنوان الدفاع عن الهوية. العلاقة بين الهوية الفرعية «المسيحية» والهوية العامة «المصرية» علاقة مركبة، فى لحظات المد الوطنى، والأحداث الجسام التى يمر بها الوطن، يشارك المسيحيون إلى جوار المسلمين بحيث ينسون «الهوية الفرعية» لحساب «الهوية العامة». فى أعقاب فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة اعتدى متظاهرون من الإسلام السياسى بتنويعاته على ما يقرب من مائة كنيسة ومنشأة مسيحية، فكان الرد «وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن»، ولكن حين يشعر المسيحيون أن حياتهم وكيانهم وأرواحهم مستهدفة لأنهم مسيحيون، هنا يكون رد الفعل اللا واعى فى أعماقهم «بالروح بالدم نفديك يا صليب». نعم فى أعقاب كل حادث إرهابى جلل سواء فى الكنيسة البطرسية (١١ ديسمبر ٢٠١٦م)، أو كنيستى مار جرجس فى طنطا والمرقسية فى الإسكندرية (٩ أبريل ٢٠١٧)، سعى النظام الحاكم إلى إشعار الأقباط بأن ضحاياهم هم ضحايا مصريون قبل أن يكونوا أقباطا، وأن مصر هى المستهدفة قبل الأقباط، وهدف الإرهاب هو وأد العلاقات الإسلامية المسيحية، كل ذلك بهدف الحفاظ على «الهوية العامة» فى المشهد، ولكن كل ذلك لا ينفى أن الضحايا أقباط، والقتلة إرهابيون يستهدفونهم بسبب مسيحيتهم، هذا هو التفسير المباشر فى الأذهان التى يصعب عليها أن تدرك الأهداف البعيدة، والغايات النهائية التى يسعى الإرهاب إلى بلوغها.
(٢)
هموم مستنسخة
المنيا التى وقعت فيها حادثة إرهابية أودت بحياة ما يقرب من ثلاثين شخصا، ما بين رجل وامرأة وطفل، لا تخلو ذاتها من مشكلات طائفية قاسية. حدث بها العديد من التوترات الدينية سواء التى تتصل ببناء كنائس فى قرى لا يجد فيها الأقباط أماكن للصلاة، أو خلافات بين مسيحيين ومسلمين تحولت بفعل الشحن والتحريض إلى توترات، كل ذلك، جعل البعض يتحدث عن المنيا، التى بها «دواعش الفكر» وعرفت فى الحادث الأخير «داعش التنظيم». ولا ننس أن الحادث جاء بعد جدل على خلفية حديث الشيخ سالم عبد الجليل الذى وصف المسيحية بأنها ديانة فاسدة، ورغم أن المؤسسات الإسلامية الرسمية استنكرت هذا الحديث، ولاسيما أنه يتناول حديثا عن العقائد فى وسائل إعلام سيارة، وهو لا يصح، فإن الدعوة السلفية اتجهت إلى تأييد سالم عبد الجليل، وأصرت على نقد العقيدة المسيحية من منطلق شرح وتبيان العقائد، وأصدرت بيانا فى ١٧ مايو، أى قبل عشرة أيام من حادث المنيا، تؤكد فيه على أن: «ما يطالب به البعض من أن يبين علماء كل دين عقيدتهم دون التطرق لعقائد الآخرين فغير ممكن عقلًا، وإلا فهل يُعقل ألّا يُدرس فى عقائد المسيحيين موقفهم من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو حتى موقفهم من الخلاف التاريخى بين الكنائس؟»
يعنى ما سبق أن السلفيين يعززون الخوض فى العقائد علنا، انطلاقا من الشرح والتحليل للعقائد، بما ينطوى على وصم العقائد التى تسبق الإسلام بالخطأ والزيغان، وأن هذا- فى منطقهم- لا يدخل فى باب الطعن فى العقائد، ولكن فى تفسيرها. وهى مسألة غريبة عن التراث المصرى المعتاد بعدم الخوض فى العقائد أو السجال الدينى، وليس بخاف أن مثل هذا الاقتراب يؤثر على العلاقات الإسلامية المسيحية فى المجتمع، ويجعل أساس هذه العلاقات «الموقف العقدى» أكثر منها العلاقات الإنسانية، والتفاعل الاجتماعي، والمصالح والمنافع المتبادلة.
بالطبع قد يصدر عن الأقباط ردة فعل غاضبة تجاه الخوض فى العقائد مثل حديث القمص مكارى يونان، والذى اتخذت الكنيسة قرارا بإيقاف اجتماعاته على خلفية تصريحات له اعتبرها البعض مسيئة للمسلمين، ولكن سيظل هناك شعور عميق لدى الأقباط بأن عقيدتهم مستباحة، أو أن هناك علاقات خاصة مع السلفيين، تتركهم الدولة فى موقفهم السلبى تجاه الأقباط مقابل دعم النظام. وهناك كم هائل من الآراء والفتاوى التى تطول الأقباط، وتصدر عن التيار السلفى فى كل المناسبات المسيحية تقريبا.
السلفيون الذين يطعنون فى العقيدة، ويمنعون بناء كنيسة، ويعترضون على قانون بناء وترميم الكنائس، يفعلون ذلك، أحيانا ضد توجهات الدولة. المثال الصارخ على ذلك أن رئيس الجمهورية يهنئ المسيحيين بأعيادهم، ويزور الكاتدرائية فى عيد الميلاد كل سنة، بينما السلفيون ينكرون ذلك، ويحرمون تهنئة المسيحيين بأعيادهم. هل يمكن أن تقام دولة مواطنة حقيقية، بينما يتم تخريب السياسات العامة التى تقوم بها الدولة تجاه تحقيق المواطنة؟، هل يمكن أن يظل السلفيون أصحاب قرار وتأثير وفعل بما يحرم المواطنون الأقباط أحيانا من حقوق المواطنة، وتستجيب لهم الدولة؟
(٣)
تحولات المزاج القبطى
لا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك تحولات فى المزاج القبطى. توالى الأحداث الإرهابية من القاهرة إلى طنطا إلى الإسكندرية إلى المنيا خلق مزاجا قبطيا غاضبا، وفى غضبه يتجه إلى مسارات عديدة:
غاضبا خائفا مما تحمله الأيام فى ضوء استهداف «داعش» للأقباط أكثر من غيرهم، ورغبتها المستمرة فى أن تدمى قلب المجتمع المصرى على فترات تتباعد حينا وتتقارب أحيانا، ويظل «الأقباط» فى مرمى نيران الفصائل الإسلامية الذين يعاديهم الحكم، وكذلك الذين يتعايش معهم من أحزاب إسلامية، وتشكيلات حركية مرتبطة بها.
غاضبا خائفا بعد أن أصبحت أهدافهم الثابتة يعتدى عليها (الكنائس) وأهدافهم المتحركة مستهدفة (الرحلات، والتحركات الجماعية)، ويخشى أن تكون هناك تحولات أكثر شراسة فى التعامل معهم سواء فى استهداف الأغنياء منهم، والعودة إلى موجة استحلال أموالهم.
غاضبا، وبخاصة الشباب، من شعور يتولد لديهم بأن «المؤسسة الكنسية» لم تعد توفر لهم غطاء الحماية، وقوة الخطاب المدافع عنهم، أيا كان صحة هذا الرأى من عدمه، إلا أنه يمثل واقعا ينبغى التعامل معهم.
غاضبا من الحكم، لا يزال يراهن عليه، لكن رصيده أقل من ذى قبل، وهناك شعور بأن الحكومة لا توفر لهم الحماية الكافية. مرة أخرى، أيا كان صحة هذا الشعور من عدمه، يظل شعورا عند البعض يحتاج إلى التعامل معه.
تحولات المزاج قاسية خاصة فى ظل مجتمع يموج بأزمات اقتصادية واجتماعية، يتولد الضيق والغضب بفعل عوامل كثيرة، مما يجعل المشهد كله معقدا.