تحديات الأمن القومى المصرى الاستجابة الإقليمية.. مبدأ الأمن الجماعى وحق الدفاع عن النفس
بقلم: د. رضا شحاتة
عقيدة الأمن القومى لدولة ما، لاسيما فى عالمنا المعاصر، إنما تحددها وتضبط معاييرها وترسم لها آفاقها ونطاقاتها، مصالحها الحيوية ممثلة فى أرضها وشعبها ومواردها وحدودها البرية والبحرية وفضاءاتها الإقليمية، مثلما تؤثر سلبًا وإيجابًا البيئة الجيوستراتيجية المحيطة بها من محاور للعدائيات بدءًا من تلك الرافضة لوجودها أو المنافسة لدورها، أو المنازعة لقيادتها وريادتها أو المتآمرة على كيانها الوطنى ـ الطامعة فى شبر من أراضيها أو حصة من مياهها المهددة لمصادر قوتها الشاملة، العسكرية والاقتصادية وثرواتها الطبيعية.
ـ عقيدة الأمن القومى لمصر هى أيضًا التى تفرض متطلبات وعناصر قوتها وشروط استخدامها وهى ليست استثناءً من هذا التعريف، الذى يستوحى جوهر عقيدة الأمن القومى لمصر من جغرافيته الطبيعية والسياسية ومن مخزون تجاربها التاريخية ومن القراءة الواعية لمحددات هويتها الوطنية عبر العصور، التى جعلت من مصر دائمًا قلب هذه المنطقة ومؤشر استقرارها أو انحدارها إلى عصور الفوضى والتخلف.
ـ خريطة العدائيات التى هددت مصر تغيرت اليوم عما كانت عليه بالأمس مع تغير العلاقات الدولية من جغرافية الاستعمار إلى جغرافية الاستقلال والتحرر الوطنى ومن سقوط الخلافة العثمانية بعد خمسة قرون إلى دخول قوى الاستعمار الغربى الذى قسم الأراضى والبلدان العربية، وكانت مصر هى واسطة العقد فى الوطن العربى، حيث استأثر بها الاحتلال البريطانى عقودًا طويلة، كما استأثرت دول أوربية أخرى ببلاد الشام وفلسطين وبلاد المغرب والسودان، كما قفزت الصهيونية العالمية منذ مائة عام بوعد بلفور على أرض فلسطين بمزاعم زيفت التاريخ واغتنمت فترة بلغ فيها الضعف العربى أدنى مراتبه ولم يفق العرب من هذه الغفوة التاريخية إلا وكانت جغرافية العداء قد رسخت فى قلب الأرض العربية، وأصبحت تستنزف القوى الذاتية العربية المصرية والسورية والفلسطينية والأردنية والعراقية حربًا وراء حرب منذ الحرب العالمية الثانية، ولم تزل، وراحت حتى اليوم تغلف جغرافية العداء بأغلفة السلام المخادع، لتظل مصادر العداء والتهديد الوجودى لهذا الكيان العربى كامنة تنفجر فى أى وقت تستشعر فيه القوى المعادية بهزال هذه الأمة لتحويل هويتها القومية العربية إلى سراب تبدد مع التاريخ.
ـ هذه العدائيات، التى باتت تهدد الوجود العربى اليوم، أدركت أن مصادر قوة هذه المنطقة تكمن فى تراثها وهويتها وحضارتها التى جمعتها عبر القرون، التى قادت فيها الجزيرة العربية حركة التقدم وحملت مشاعل الريادة لتنتقل فى عصور لاحقة إلى دمشق، ثم إلى بغداد ثم لتقوم فى قاهرتنا قوة تدافع عن كيان هذه الأمة وتصد عنها غزوات الرعاة من آسيا الوسطى، ولتدفع عن أراضيها حملات أوربية أبحرت يومًا عبر أساطيل سماها العرب حروب الفرنجة لتحتل بيت المقدس، التى حافظ عليها العرب مفتوحة الأبواب والأديرة والكنائس والمعابد والمساجد لكل أتباع الأديان السماوية وأبناء إبراهيم عليه السلام.
ـ أدركت عدائيات اليوم أن ضرب هذا الكيان العربى فى مقتل لا يكون إلا بغزو وإسقاط حضارته بل بنسف هذا الفكر المستنير، الذى نقل حضارة اليونان وقوانين الرومان وعلوم الأندلس وفنونه إلى جامعات أوربا ونقل إليها عقلانية ابن رشد ومقدمة ابن خلدون وإبداعات الرازى وإسهامات ابن سيناء فى الطب والحسن بن الهيثم فى الفيزياء وأصول الكيمياء لجابر بن حيان، وغيرهم من رواد النهضة العلمية الحديثة فى أوربا، التى ظلت مراكز العالم والتجديد والإبداع تنهل منها حتى القرن الثامن عشر..
ـ هذا التراث العربى لم يعرف (الظلامية) ولم يغلق نوافذ الفكر والعقل والاجتهاد، استوعب الأعراق ولم يعرف التعصب لمذاهب أو طوائف، تقبل الآخر واختلط بثقافات القوقاز وبلاد ما وراء النهر وفنون وآداب شبه جزيرة الهند وحضارة فارس وامتدت إسهامات العرب وفكرهم شرقًا وغربًا بفضل حضارتهم، التى قامت على الانفتاح والتسامح والتعايش، فكان علماء الحضارة الإسلامية ينسبون إلى بلدانهم، الخوارزمى، الأندلسى، الموصلى، والسيوطى، وهكذا فى ظاهرة مبكرة لعولمة التراث والحضارة العربية، التى شكلت حتى اليوم (الوجدان) والهوية العربية لآلاف السنين.
ـ عدائيات اليوم أدركت أن ينابيع هذه القوة الحضارية لدى العرب فى هذه المنطقة الاستراتيجية الحيوية من العالم، يجب أن تجف وأن تنضب وأن تستنفذ بالتشويه والهدم والتحريف والتدليس والافتراء والخلط ما بين الأصيل والمزيف حتى كتاب الله المنزل من لدن حكم عزيز لم يسلم من هذه الدسائس حتى تهتز وتنهار كل دعائم الوجدان العربى، بل حتى تفسد كل مكونات العقل العربى الذى تعلمت منه أوربا ـ دون أى مبالغة فى هذا القول ـ قرونًا طويلة.
ـ (الغزوة) التى انطلقت ذات يوم فى ٢٠١٤ بعد إعلان تنظيم ما يسمى «بدولة الخلافة» فى سوريا والعراق لم تستهدف الموصل فى العراق أو الرقة فى سوريا فقط، بل استهدفت حقًا نسف الفكر والهوية العربية المتوارثة والمتراكمة عبر تراث من حضارة عربية وإسلامية عريقة ظلت نقية خالية من شوائب دخيلة عليها، عادت إليها اليوم جماعات تسقط على العقيدة والفكر الإسلامى كل ما ظل يروج له أعداء هذه الأمة العربية حتى أصبحت الثقافة العربية توصف بثقافة العنف وثقافة التخلف وثقافة القتل والدم، وهى فى حقيقة الأمر ليست بالثقافة ولا بالفكر، التى باتت خلايا وشبكات التنظيم تروج له فى أدبياتها ومنشوراتها عبر التكنولوجيا المتقدمة لوسائل الاتصال المتعددة وبأعقد الأساليب وأكثرها تطورًا وحداثه حتى ترسم للعرب والمسلمين أحلك الصور وأكثرها سوادًا فى الذهنية والنفسية الغربية وحتى تضع العالم الغربى والعالم المسيحى كله فى معسكر وتضع العرب والمسلمين فى معسكر آخر، وهو بالضبط ما استهدفته كتائب الظلام الزاحف من العراق وسوريا إلى سيناء إلى ليبيا إلى عواصم أوربا إلى المدن الأمريكية وكتائب الظلام اليوم ليست عنها ببعيدة.
ـ القمة المثلثة التاريخية، العربية ـ الإسلامية ـ الأمريكية فى الرياض فى ٢٢-٢٣ مايو ٢٠١٧ إذا جاءت لتمثل نقلة هامة فى خريطة التحالفات الدولية والإقليمية فى مواجهة تحديات وجودية يمثلها خطر الإرهاب الزاحف من منطقة الشرق الأوسط والعديد من البلدان العربية والإسلامية إلى مختلف بقاع الدنيا، فى قلب الوطن العربى، فى مصر وفى شمال إفريقيا وبلاد المغرب وجنوب آسيا، وشرقى آسيا، كما تسلل إلى روسيا ومدن أوربا، وأصبح يمثل المصدر الأخطر على الكيانات الوطنية وعلى أمن الشعوب واستقرار الدول كبيرها وصغيرها، هذه القمة المثلثة كانت بالنسبة للغرب وبالنسبة لمصر نقطة انطلاقة جديدة لرؤية موحدة ولإرادة مشتركة، إرادة سياسية وإرادة قيادية وهى ليست إرادة القتال فحسب، التى يجب أن تكون أول شروط المواجهة مع الإرهاب، بل هى إرادة النصر، التى يجب أن تكون هى أولى الخصائص، التى يتحلى بها المقاتل العربى، بل (المواطن العربى) الذى يواجه خطرًا لا يهدد حدودًا وأرضا، بل يواجه خطرًا يهدد وجودًا وهوية ومصيرًا ومستقبلًا لا نغالى فيه إن قلنا بأن المعركة فيه هى أن نكون أو لا نكون.
ـ عناصر المقاربة الشاملة، التى كشف عنها الرئيس السيسى فى كلمته، التى جاءت عباراته فيها بمثابة «مشرط الجراح»، التى قام فيها بتشريح (الداء السرطانى)، الذى يضرب فى كيان هذا الوطن، من فكر سقيم، يغرسه وتروج له وتبث سمومه كتائب الظلام وشبكاته العنقودية وخلاياه المنتشرة وسط أجيال جديدة تاهت عن تراثها الحقيقى تلقنها جماعات العملاء، التى باعت أوطانها وضمائرها ثمنًا لعروشها، التى باتت تهتز تحت أقدامها كما تعهدتها بالتمويل لا دفاعًا عن قضية، ولا لتحقيق الشهادة ونيل شرف الجهاد بل من أجل حياة قصور الرمال والترف والبزخ والنفوذ ولعل المصطلح الأدق الأقرب إلى الوصف العلمى ليس هو ما يسمونه الجهاد، فكلمة الجهاد والمجاهدين أشرف وأطهر من أن تدنسها هذه الجرائم الملوثة بدماء الأبرياء، من أطفال ونساء وشيوخ، الوصف الأدق هو الارتزاق أو المرتزقة التى تقتل لمن يدفع أكثر طمعًا أو ضلالًا أو غفلة وحماقة.
ـ جماعات الظلام هذه إذ كانت تلقن الفكر العقيم، فهى أيضًا تتلقى المال الملعون من نهب وسرقة وابتزاز للشعوب المقهورة ثم تتلقى السلاح للقتل والذبح والنسف، لا للدفاع عن أرض أو عرض أو وطن ومقدسات لا لدرء الخطر عن الأوطان أو حماية الثغور والحدود أو طرد العدو وردع المعتدين، جماعات الظلام تلك، وكما طرح الرئيس السيسى فى تساؤل ووصف بليغ، إنما تجد الملاذ الآمن لفلولها وجرذانها فى فنادقها وقصورها ومقارها الاستخباراتية، التى يرفعون إليها تقاريرهم المفبركة بوصفهم أجُراء عملاء يتقاضون ثمنًا لدماء الأبرياء، الذين دبروا لاغتيال إنسانيتهم وبراءتهم داخل الكنائس أو المساجد أو فى ركن من أركان الطرقات العامة الآمنة التى يتسللون إليها من دروب جبلية تصلهم بقواعدهم فى أعماق التخوم المجاورة.
ـ هذه الأبعاد المتعددة فى أطروحة المقاربة الشاملة فى مكافحة الإرهاب، التى طرحها الرئيس السيسى للجوانب الفكرية والتسليحية والتمويلية، والتدريبية، والإيوائية الداعمة للإرهاب وجماعات الظلام، التى توفرها بعض دول المنطقة تفرض على أركان وأعمدة هذه القمة المثلثة فى الرياض، والتى تمثل القاهرة والسعودية والإمارات والكويت والبحرين، رؤوس الحرية فيها بالتنسيق مع إدارة الرئيس الأمريكى (ترامب)، الذى يمكن القول اليوم إنه يقود حملة غير مسبوقة فى مكافحة ظاهرة الإرهاب باستراتيجية تختلف عن استراتيجية (التردد وعدم الحسم وربما السكوت والرضا)، التى مارستها الإدارة السابقة هذه المقاربة المتكاملة، وهذه القمة المثلثة لابد أن تفرض وأن تحدد وفى وقت مبكر من الآن جدولًا زمنيًا لوضع استراتيجية المكافحة موضع التطبيق، خاصة أن ما تعرضت له مصر فى الحادث الإرهابى فى منطقة المنيا فى ٢٦ من مايو عشية الاحتفال بأقدس شهور العام فى التقويم الهجرى قدوم شهر رمضان المعظم، إنما يمثل جريمة أرادت بها جماعات الظلام أن تحيل أنواره الإيمانية إلى سحابات من الحزن والألم، الذى خيم على قلوب المصريين جميعًا باغتيال العشرات من المواطنين الأقباط الأبرياء وهم فى طريقهم إلى بيت من البيوت المقدسة ودور من دور العبادة وسط الصحراء المصرية النائية.
ـ هذه العناصر الظلامية المسماة بالإسلامية المتطرفة، إنما عمدت إلى تطوير مؤامراتها ومخططاتها، فاتجهت إلى تطوير تكتيكاتها وانتهاج الأساليب (غير المتناظرة) أى الاعتماد على (عناصر محدودة) العدد لتحقيق أخطر النتائج وأعمقها أثرًا وسط جماعات عريضة من السكان المدنيين، وبما يتسم بأكبر درجة من العنف والتأثير والتدمير، الأمر الذى يحتاج بالضرورة إلى إعادة تكييف ومواءمة طرق الاستجابة الأمنية فى خطط الردع أو المواجهة الاستباقية بما يتوافق مع مثل هذه التطوير فى الخطط والأساليب.
ـ ولعل الدروس الأولى من تحليل عمليات الجماعات والخلايا الإرهابية خارج مصر وداخلها، تدل على أن مسارح الحركة الإرهابية تشمل اليوم المدن القريبة والبعيدة، المناطق المأهولة وأحيانًا غير المأهولة والمسارح والأندية وبيوت الله والمدارس والمناطق المزدحمة وأحيانًا غير المتوقعة، ولعل تجارب المكافحة لجرائم الإرهاب فى بعض المدن الأمريكية كشفت عن أن دوريات المراقبة المتحركة المتخصصة فى الرصد وجمع المعلومات والتصوير والتحقيق تتيح فرصًا أكبر فى الكشف عن مصادر الخطر أو التهديد المحتملة، التى تتمثل فى المناطق (الرخوة أمنيًا) أو (المخلخلة أمنيًا) مثل النماذج المثالية لمناطق(الملاذات الآمنة، التى وصفها عن حق الرئيس السيسى) فى تهيئة مناطق الحماية والانطلاق فى نفس الوقت للجماعات الظلامية، التى تستهدف أمن مصر وأمن الدولة العربية المستقرة (مثل مصر) وتهديد كيانها الوطنى بمحاولة استنزاف دماء أهم شرايين جسدها القومى، وهو شريان الوحدة الوطنية، التى يضخ فيه نبضات قلب مصر دماء المصريين مسلمين ومسيحيين فى عروق هذا الوطن لتدب فيه الحياة فكرًا ووجدانًا ونشاطًا وينبض بكل مقومات القوة والحياة ويحميه من السقوط كما سقطت مثله أجساد وكيانات إقليمية بعد أن حولت الكيانات العربية حولنا إلى «الأرض الخراب»، التى تحدث عنها شعراء الغرب بعد الحرب العالمية الأولى.
ـ هذه الأرض أو الملاذ الآمن، أو الأرض الحاضنة للإرهاب، وإن كانت قد استحقت وتستحق ضربات وراء ضربات، كما تعهد الرئيس السيسى بقواتنا ونسورنا فى البر والبحر والجو فى لحظة نادرة من الغضب الوطنى النبيل والعميق، هذه الأرض الملاذ أو الأرض الحاضنة هى للأسف أرض شقيقة على حدودنا الغربية هى أرض ليبيا ومنطقتها الشرقية، ومدينتها (درنة)، التى شهدت من قبل عامين (٢٠١٥) مذبحة وحشية لأكثر من عشرين مصريًا من أقباط مصر الأبرياء (باسم الدين) أو القتل باسم الرب وليس ثمة لا فى الكتب السماوية، لا فى التوراة أو الإنجيل أو القرآن ما يبرر قتل النفس، التى حرم الله إلا بالحق.
ـ هذه البقعة التى ينطبق عليها وصف الرئيس السيسي، كما جاء فى مقاربته الشاملة لمكافحة الإرهاب بالملاذات الآمنة، تنطبق أول ما تنطبق على ليبيا التى سقطت فى أعماق الإرهاب والفوضى منذ نهاية حكم الرئيس الليبى القذافى عام ٢٠١١ وتصاعد الحروب القبلية والعشائرية والانقسامات السياسية بين مناطق شرقية ومناطق غربية وبين أقاليم جغرافية، كما كانت قبل الاستقلال ونشوء ليبيا المعاصرة، هذا التطور خلق خلخلة أمنية أو فراغًا أمنيًا تمددت فى ربوعه تنظيمات الدولة الإسلامية وشكلت عناصر أعدت وخططت وتفذت الهجمات الإرهابية فى باريس، وبروكسل ٢٠١٦ وتضاعف عدد التنظيم فى ليبيا ليقترب من ٦٥٠٠ مقاتل وامتدت سيطرتها لتشمل حوالى ٢٠٠ ميل من الخط الساحلى، وليس من أدنى شك أن الاخفاق العملياتى الاستراتيجى الفادح لخطط الناتو فى حملاته الجوية ٢٠١١ وبعد سقوط القذافى قد فتح الترسانة العسكرية الليبية وهى ترسانة ضخمة وحديثة ومتنوعة على مصراعيها غذّت الحرب الأهلية فى سوريا وغذت الجماعات الإرهابية فى سيناء، وفى صعيد مصر وفى وادى النيل، ولم تزل كما تجسد ذلك فى الإعداد والتنفيذ لجريمة المنيا الإرهابية عشية رمضان المعظم.
ـ هذا الملاذ الآن الذى تمثله ليبيا كما تقرر التقارير الأمنية الأمريكية استغلتها جماعات تنظيم (داعش) وأصبحت على مقربة أولًا من مصر ومن دول الساحل والصحراء الإفريقى ثم من دول جنوب المتوسط، وهذا يلقى بتبعات عسكرية وأمنية ضخمة على أجهزة تلك الدول لضرورة التنسيق وتبادل المعلومات والخبرات والإنذار المبكر، (تسير تقارير الأجهزة الأمنية الأوربية إلى أن أنصار داعش فى ليبيا تجاوزا ستة آلاف مقاتل، فضلًا عن مصادر دخلها كذلك، وهو بعد آخر فى مجموعة أبعاد المقاربة الشاملة فرض الضرائب على سكان طرابلس وابتزاز السكان ورجال الأعمال.
ـ مسئوليات الناتو اليوم لابد أن تتجاوز العمليات الجوية إلى حصار (داعش) ماليًا وتجفيف منابع تمويلها وتزويدها بالسلاح، بل ورفع الحظر المفروض لأسباب غير مفهومة على الحكومة الشرعية والجيش الليبى الوطنى، ولقد أدى استمرار هذا الوضع المتدهور إلى استشراء الخطر الإرهابى إلى تونس لتنضم أعداد جديدة من المتطوعين أو الإرهابيين المجندين الجدد إلى تنظيم الدولة الإسلامية...
ـ ولعل أخطر ما فى مصادر التهديد الذى يمثله التنظيم على مصر، وتونس وشمال إفريقيا عامة، بل والمدن الأوربية هو ما كشف عنه الشرطة البلجيكية من عثورها على مواد نووية تحت سيطرة تلك العناصر، التى تمكن أحدها من الوصول إليها فى واحد من مراكز الأبحاث النووية المتخصصة فى بلجيكا فى إنتاج النظائر المشعة، ومصدر الخطورة أن التسمم الإشعاعى قد يحدث إذا تم استخدام النظائر المشعة فى إنتاج ما يسمى «بالقنبلة القذرة»، وتم تفجيرها فى إحدى المدن الكبرى، وهو خطر ليس ببعيد عن أى مدينة تتمكن عناصر داعش من نقطة انطلاقها فى ليبيا من الوصول إليها.
ـ ليس فى هذا الاحتمال ما هو أخطر من التدليل على فداحة التهديد، الذى يمثله استمرار وجود ونشاط مثل هذه الجماعات فى ملاذات تظل آمنة تستغلها (داعش) فى التحرك شرقًا باتجاه مصر، التى بدأت منذ السادس والعشرين من مايو، وهو تاريخ يجب أن نتذكره جيدًا فى تنفيذ استراتيجية (الردع الاستباقى) بضربات جوية يمكن أن تتكرر كلما استشعرت مصر تهديدًا لأمنها القومى ومصالحها الحيوية وحياة شعبها، لكن السؤال الهام الآن بعد القمة المثلثة العربية الإسلامية ـ الأمريكية فى الرياض وتعهدات الرئيس ترامب وسلسلة الإدانات وبيانات التأييد والتضامن مع مصر، السؤال الهام هو متى تطبيق حلف الناتو الذى تكتوى دوله اليوم بنيران الإرهاب الذى يتحرك من ملاذاته الآمنة فى ليبيا، كما حدث فى مانشستر فى بريطانيا وتنفيذ إحدى خلايا هذا الملاذ الآمن الذى استمرت عناصر (نائمة) وكامنة فى بريطانيا لعشرات السنين لجريمة من أخطر جرائمها وسط الآلاف البريطانيين والعشرات من رجال الشرطة والأمن.
ـ الأمن الإقليمى المتوسطى الذى يؤثر فى الأمن القومى لمصر، والأمن القومى لتونس والجزائر والمغرب والأمن القومى لدول جنوب أوربا، فرنسا وايطاليا واليونان ودول الناتو، ومن ورائها قادة الأطلنطى خاصة بعد قمته الأخيرة فى بروكسيل التى إن كانت تؤكد حقيقة استراتيجية ملحة فهى الحاجة اليوم قبل فوات الأوان لدعم قدرات لدول الجناح الجنوبى وحصار خطر داعش قبل أن يتوطن فى الصحراء الغربية فى شمال إفريقيا والوثوب إلى قلب أوربا ليتوطن فى الجزر البريطانية، وقلب باريس وروما، وبرلين وغيرها من المدن الأوربية والقدرات المالية، التى يعمل وكلاء التنظيم الإرهابى ـ داخل المنطقة العربية وخارجها فى دعمها كما كشف عنها الرئيس السيسي، هذه القدرات تلعب دورًا بالغ الأهمية فى مضاعفة خطورة الإرهاب وارتفاع تكاليف مواجهته بسبب الدمار المادى والبشرى، الذى تحدثه عملياته واسعة التأثير والمدى فى الاقتصاديات الوطنية والعالمية.
ـ هذا المدد المالى للتنظيم وفر له الإمداد بالعناصر البشرية والمتطوعين الجدد ممن نسميهم بالمقاتلين الأجانب بلغ عددهم ٢٠٠٠ مقاتل شهريًا، لكن المسرح السياسى والعسكرى المتغير فى العراق وسوريا نقل بؤرة التركيز أو نقطة الجاذبية للمقاتلين الأجانب إلى ليبيا إلى صحراء سيناء أو العودة إلى مواطنهم الأصلية مدربين مزودين بالخبرات القتالية والعقيدة والفكر المتطرف كما تشير تقارير المخابرات البريطانية، التى بلغ من خطورة معلوماتها أنها أشارت وبالحرف إلى أن المقاتلين العائدين يستهدفون رفع علم داعش على مقر رئاسة الوزارة البريطانية (عشرة داونينج ستريت) فى لندن أو حتى فوق البيت الأبيض فى واشنطن.
ـ السلوك الإرهابى فى المدن الأوربية مانشستر ولندن وبرلين وبروكسل وباريس يؤكد أن الإرهاب دخل مرحلة جديدة متطورة نوعيًا وسلوكيًا تكتيكيًا واستراتيجيًا وانتقل من المحلية إلى العالمية، كما سبق القول.
ـ التحرك المصرى العربى اليوم مع الأشقاء فى السعودية والإمارات والكويت والبحرين، يمثل قاعدة انطلاق مفصلية فى استراتيجية مكافحة الإرهاب إذا تحقق التوافق الاستراتيجى الحقيقى بين هذا المثلث العربى الإسلامى الأمريكى مع استراتيجية جديدة للناتو يتجاوز فيه تحفظات لم تزل باقية لبعض اعضاء الناتو فى توحيد الخطط والسياسات إقليميا ودوليا ودبلوماسيا وثقافيًا واقتصاديا للتصدى لهذه التحديات الوجودية، التى تهدد الكيان والوجود والهوية العربية، وتهدد المصالح الحيوية والأمن والاستقرار والسلام على الصعيدين الأوربى والأمريكى.
ـ وبعبارة أخرى فان دور الناتو ليس واضحًا بما فيه الكفاية فى الأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط، وإن كان له بعض تجاربه فى التشاور والتعاون على مستوى نقل الخبرات والمعلومات، وربما التدريب والتعليم، لكن الشراكة الاستراتيجية التى ترقى لمستوى الدعم اللوجستى والعملياتى والتسليحى فى المرحلة القادمة لابد أن يتقدم إلى آفاق أوسع وألا يبقى الحديث عن العلاقة بين أمن الشرق الأوس والأمن الأوربى حبرًا على ورق ولا يخرج عن بيانات القادة وبيانات المؤتمرات وبعض القرارات غير القابلة للتنفيذ فى الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومع ذلك لعل أفعال الرئيس ترامب القادمة تؤكد أقواله قبل قمة الناتو فى ٢٥ مايو وعائدها وتؤكد ما حرص سكرتيره العام على تأكيده من الالتزام بالانضمام للتحالف الذى تقوده الولايات المتحدة فى مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية وان كان قادة اوربيين آخرين قد ألمحوا إلى أن الناتو لا يمكن أن يتحول وحده إلى القوة الضاربة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ـ الخطر الوجودى الذى يمثله تنظيم الدولة الإسلامية تجاوز تهديد الكيان العربى إلى تهديد استقرار الدول الأوربية وأمن شعوبها، وتجاوز تهديد منطقة الشرق الأوسط المضطربة إلى تهديده لمنطقة جنوب شرقى آسيا التى تحولت إلى ما يشبه التجمع أو نقطة الجاذبية للجهاز العصبى لتنظيم داعش الإرهابى فى شرق ووسط آسيا (الفلبين ـ وأندونسيا، ودول آسيا الوسطى فيمن يطلقون على أنفسهم (بجنود الخلافة) وهم منتشرون للأسف والحقيقة من خلال مواطنيهم فى منطقة الخليج العربى، وهى من أكثر المناطق العربية تعرضًا لاضطراب والفوضى والغليان إذا تحركت هذه العناصر (المجندة) فى تنظيم داعش ويكفى أن أدبيات داعش المنشورة باسم الرومية تشير إلى العناصر الإرهابية فى شرق آسيا ووسطهابأنها جنود الخلافة فى آسيا.
ـ هذه التحولات الاستراتيجية وسعت من شبكات وخلايا التنظيم ليس فقط فى العراق وسوريا وليبيا ومصر وشمال إفريقيا، بل فى قلب منطقة الخليج بحكم (العناصر الآسيوية) وهو مصدر خطر داهم على الأمن والاستقرار فى دول القمة المثلثة (السعودية، الإمارات الكويت البحرين) والأمن القومى المصرى المتضامن والمتأثر سلبًا وإيجابًا بالأمن القومى الخليجى.
ـ المقاربة المصرية الشاملة، استراتيجية المكافحة المتكاملة ضد التطرف الفكرى والجمود العقائدى وضد القوى الداعمة والحاضنة لعمليات التدريب وتوفير السلاح، والملاذ الأمن والمنافذ الإعلامية، التى تروج لدعايات سوداء تضلل الرأى العام إقليميًا أو عالميا، لم تزل للأسف تتمتع بمظلة أمنية توفر لها استمرار البقاء كنظم حاكمة تمارس تهديد الدول والكيانات المستقرة .
ـ هذه المقاربة المصرية الشاملة آن لها أن تواجه الإرهاب بقوة القانون الدولى وميثاق الأمم المتحدة الذى يتيح للدول الأعضاء ممارسة حق الدفاع عن النفس طبقًا للمادة « ٥١ « من هذا الميثاق فرديًا أو جماعيًا (مبدأ الأمن الجماعى) حين تتعرض للعدوان أو التهديد بالعدوان وهو ما فعلته مصر بقواتها الجوية وذراعها الطويلة ما سوف تمارسه إذا تعرض أمنها القومى وأمن شعبها وأرضها وحدودها مرة أخرى لتهديد أو خطر داهم داخل مصر أو خارجها