الشهر الماضى أهدانى د. حسن البيلاوى كتابه الضخم «نقد الأيديولوجيا فى التعليم»، الذى يقع فيما يقرب من 500 صفحة، والصادر عن دار المحروسة، تصفّحت فهرسه وموضوعاته، وهى فى غاية الأهمية لمَن يهتم بالتعليم وقضايا الفكر والمجتمع، ووضعته على رأس الأولويات للقراءة فور أن أنتهى من انشغالى بأعمال أكاديمية.
وعدت له منذ أيام، وهو كتاب عميق المعنى والهدف، لأنه يشرح ويوضح فى كلمات لا تحتمل التأويل عن ماذا يحدث فى التعليم وضرورة نقد السرديات أو الأيديولوجيات المهيمنة ثقافيا والتى يدور فى فلكها التعليم منذ سنوات وربما عقود، فيسأل د. حسن فى مقدمته عن أى تربية نريدها، وأى تنمية نتطلع إليها، ويتفرع عن ذلك عدة أسئلة هامة ومركزية، وضعها فى ستة أسئلة جوهرية، تدور فى فلك المجتمع أو مساهمة المجتمع بمؤسساته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى تحقيق إدارة ديمقراطية للتربية فى المجتمع والهدف منها، ولعل من أهمها هو نشر التنوير وإعمال العقل فى المشترك بين الجمهور، وهو أحد الأهداف الكبرى للعملية التعليمية. فعلى سبيل المثال، النهضة والإصلاح الدينى فى أوروبا مع عصر النهضة، ثم مع ارتباط ذروته بعصر التنوير والعقلانية ارتبطت أيضا بالتقدم الصناعى والعلمى، وفى القلب منه اختراع المطبعة، وأدى ذلك الاختراع وتأثيره -ربما هو الاختراع الأهم فى القرون الماضية- إلى نشر التعليم وتشجيع القراءة، حتى يتمكن كل فرد من قراءة الكتاب المقدس بنفسه، وفى التراث ومن دون تدخل رجال الدين، وكانت سلطتهم الكنسية والروحية هى المهيمنة على العمل والعقل معا.
وهنا حدثت الثورة الفكرية والتنوير بعد عصور الانغلاق والتسلط فى القرون الوسطى، وردا على محاكم التفتيش وامتلاك الحق الإلهى والدينى بواسطة رجال الدين.
ويصبح تحقيق هذا الشرط وهو التنوير والحرية الفكرية من الأولوية بمكان لمجتمعنا المصرى، وكما يرصد د. مراد وهبة؛ إذ يقول: «إن تفشى حركات الإرهاب هو نتيجة، وذلك حينما تفشل القوى الظلامية فى نشر أفكارها داخل العقول ومؤسسات المجتمع ومنها التربية؛ إذ إن الفكر الأصولى فى حده الأدنى تطرف، وفى حده الأعلى عنف وإرهاب وإباحة قتل المختلف».
ويذكر «د. حسن» فى كتابه تأثير الهيمنة الثقافية، وهو مصطلح أكده المفكر والتربوى الإيطالى جرامشى الذى حارب الفاشية، وأنها قوى الهيمنة تمارس تأثيرها على الناس، وعلى حياتهم، وتتوقف قوة الهيمنة، كما يتم حاليًّا فى الواقع المصرى من محاولات الأصولية المتدثرة بالدين من عرض أجندتها الخاصة، باعتبارها المصلحة العامة وإعادة الإنتاج والاستمرار لمعتقدات من خلال المؤسسات التربوية، أو كما يقول د. أحمد زايد فى كتابه الهام «صوت الإمام» إن بعض رجال الدين الدعاة صاروا قيادات اجتماعية فى السياسة وفى التربية.
ملاحظة: «لا أعلم لماذا تذكرت عند قراءة هذا الجزء من كتاب نقد الأيديولوجيا، فى طرح مشروع الكتاتيب حاليا، تحت مقولات عامة وربما ملتبسة، وتحتاج إلى التفكيك والشفافية عن مغزى عودة اسم الكتاتيب فى عصرنا الحالى، ولم نفهم أو يُجِب أصحاب المشروع لمَن هذا المشروع المطروح ومَن المستفيد منه، وتفاصيله الدقيقة فى الالتحاق والتطبيق حتى تتم قراءة موضوعية للمشروع، أو حتى نقد له تتجاوز مجرد إحياء الماضى فى اسم كان له دوره وقتها، ولكن الآن ما تفاصيله الدقيقة؟، لا أعلم، خاصة أن الفضاء العام فى التعليم الآن يطرح فكرة الكتاتيب مع طرح أن تكون مادة التربية الدينية مادة لمجموع الدرجات فى سنوات الدراسة، وقبلهما طبع كتب دراسية للطلاب فى الأخلاق من وزارة الأوقاف. ولهذا لا يمكن فصل الأفكار والمشروعات عن بعضها بعضا، وهل الأوقاف بديل للتربية والتعليم؟»، انتهت الملاحظة لى.
ويتساءل البيلاوى فى كتابه عن خصائص النسق (التعليم) الذى نريده فى إطار التنوير، ويجيب أن ذلك يتطلب رؤية مستقبلية واضحة وشاملة، رؤية معرفية واجتماعية، لأن التغيير عملية كلية غير قابلة للتجزئة، ولا تتم فرديا أو نوع من الهندسة الاجتماعية الشاملة، ولذلك لا بد من إعمال نسق التنوير من الاعتماد على الرؤى المستقبلية وخطط على مستوى كل مدرسة؛ أى وضع سياسات وخطط تنفيذية على ارض الواقع (وأضيف أيضا يمكن قياسها).
ويضيف المؤلف بكتابه أن قضية تطوير أو إصلاح التعليم لا يمكن أن تنحصر فى عبارات لمقولة التجديد للمناهج الدراسية، فاللحاق بركب الحضارة والتقدم وتوطين المعرفة العلمية فى المجتمع كله هو أمر غير ممكن فى غياب مناخ ثقافى وعلمى ينطوى على نماذج معرفية توفر الرؤى المغايرة أو حق الاختلاف، لأن ثمة فارقا بين نقل المعرفة، وتوطين المعرفة، فالتغيرات الحديثة فى بنية الاقتصاد والتكنولوجيا تتطلب تغييرات مجتمعية وفى بنية المؤسسات وفى القوانين التى تحكم السلوك، فقد تمتلك بعض الدول باحثين ممتازين فى أبحاثهم، ولكن من دون الأُطر والبنية الثقافية والمؤسسية الداعمة لن يتحقق التأثير المطلوب فى حركة تقدم المعرفة والابتكار والتجديد.
ويعلمنا التاريخ أن الجامعات الأوروبية منذ نشأتها الأولى ما زالت هى المحرك فى إنتاج ونشر المعرفة، ولم تنحصر فى تخصصات ضيقة لأعداد الخريجين كقوى عاملة، على الرغم من ضغوط الثورة الصناعية والتكنولوجية؛ لذلك يكثر الحديث الآن حول العلوم والتخصصات البينية بين العلوم بمفهوم وحدة المعرفة، فليس هناك الآن معرفة مستقلة بمفردها حتى فى الهندسة والطب، وإنما هناك تداخل بين النظريات فى العلوم الإنسانية والتطبيقية؛ أى بين ما هو نظرى وما هو عملى.
للحقيقة الكتاب به جهد معرفى وبحثى يستحق أكثر من مقال لا سيما فى الجزء المتعلق بالتعليم الفنى أو المهنى والتكنولوجى، الذى سأخصص له مقالا منفردا لاحقا.