شرع المخرج أحمد عبد الله في كتابة فيلم 19 ب مع بداية انتشار وباء كورونا الفترة التي منحت البشر فرصة للتمهل و البعد عن الركض في حياة لا تسمح بالتقاط الأنفاس، أفكار كثيرة راودت عبد الله وحملته على كتباتها على الورق، لتصبح بعد ذلك شريطا سينمائيا مليء بالحميمية.
وحدي لكن ونسان
بشكل ما يشبه البيت حارسه، كلاهما وحيدان، ولكنهما، الرجل والبيت يتجاوزان وحشة الأيام بالأنس ببعضهما، وعندما يجلس الحارس ليحتسي كوبا من الشاي في صمت بجانب قطته يبدو تجسيدا لأغنية محمد منير "وحدي لكن ونسان".
عبر الأحداث ندرك أن الفيلا 19 ب هي محور حياة حارسها، لا يخرج منها إلا نادرا، لقد عاشا معا لعقود طويلة، وارتبطا ببعضهما البعض، وحتى بمرور الأيام وتساقط الأحباب كتساقط ورق التوت في حديقة البيت، ظل البيت سكنا للرجل الذي تقلص عالمه الخارجي شيئا فشيء، ولا يربطه به سوى الدكتورة التي تدعمه في رعاية حيوانات الشارع الضالة، وعم سكر حارس العقار المجاور، وابنته يارا.
الحيوانات بطلا في الحدوتة
وبخلاف البشر وجد الحارس العجوز في حيوانات الشارع الضالة أنيسا له في ليالي وحدته، وبينما يطعمهم الدجاج واللحم، يكتفي بكوب من الشاي مع خبز وقطعة جبن.
شكلت الحيوانات جزءًا أصيلا من حدوتة الفيلم، وشاركت بأداء تمثيلي صامت وأضفت بعدا من الحميمية على المشاهد فبدت وكأنها صديق يراقب حارس العقار ويهتم لأمره، وهو أمر استهلك وقتا وجهدا من صناع الفيلم لخروج المشهد بصورة تلقائية وأحيانا كانوا ينتظرون لأيام حتى يأخذون رد الفعل المناسب من الحيوان، تصبح هذه الحيوانات الرابط الذي يجعله متمسكا بالحياة فهو ملتزم تجاهها كأب حقيقي.
نشاز يعكر صفو الحياة الهادئة
في الخلفية تشكل أغنيات الزمن الجميل إطارا موسيقيا حالما عبر أصوات عبد المطلب وأم كلثوم وأسمهان، ومع الأحداث نرى كيف أصبح العقار 19 ب بمثابة درع للحارس العجوز ضد تغيرات الحياة وتقلباتها والشارع الذي لم يعد يشبه أي شيء أحبه وألفه من قبل، ولم يستطع التكيف معه أبدا.
الحارس العجوز منسجم تماما مع وحدته، التي تعكرها من وقت لآخر ضوضاء العالم الخارجي وزحامه، ومن وقت لآخر تنقطع الكهرباء التي يوصلها للبيت سلك متهالك بدوره، وتبدو كنذير لما سيحدث بعد ذلك.
مثل نشاز يقتحم نصر "السايس" في الشارع الحياة الرتيبة للحارس العجوز الذي يبدو مندهشا أكثر منه خائفا من هذا الاقتحام لمساحته الخاصة ولا يبدي انفعالا كبيرًا، رد الفعل هذا يشعر نصر بالانتصار ويجعله يدخل شيئًا فشيء إلى البيت حتى يحتله بينما يطرد الحارس نفسه من البيت ويكتفي بكنبة في العراء يراقب منها ما يحدث، يحاول الحارس طرد المقتحم بالحيلة أحيانا وبالثورة أحيانا، لكن القوة تغلب الشجاعة، ويقع الكلب المسكين عنتر ضحية لثورته ضد احتلال بيته.
علاقات غامضة
من خلال الأحداث نقترب أكثر من نصر الذي يبدو في البداية مجرد بلطجي خفيف الظل أحيانا، وقاس أحيانا أخرى، وهو شخصية غامضة ومركبة لا تستطيع تكوين موقف محدد تجاهها هل تكره أم تتعاطف معه أم تخافه، لكن وجهه الإنساني يظهر في محاولاته للتقرب من حارس العقار يحاول أن يشرح له كيف غيرته الأيام، وحوله الظلم إلى شخص يبطش بكل من يقترب من أمانه الشخصي، علاقة غامضة لا نفهم أبعادها كانت بين نصر وابنة حارس العقار التي تلفظه ولا تلتفت لمحاولاته لشرح سر تغيره وينتهي مشهدهما معا بصفعة.
علاقة غامضة أخرى يبدو أنها تربط حارس العقار بوالدة أو جدة الدكتورة التي تعتني معه بالحيوانات لقطة قصيرة جدا، أجاد فيها سيد رجب والفنانة منحة البطراوي التي قدمت بانفعالات وجهها وعينيها دون كلمة واحدة أداء لافتة يبدو وكأن الثنائي العجوز استعاد من خلال نظرتهما ماضيا مشتركا وأحداثا جميلة جمعتهما معا.
نهاية صادمة
يشتبك نصر مع حارس العقار ولأول مرة يبدي العجوز رد فعل قوي تجاه ما يحدث خلاله، يبدو وأن تراكمات كل المواقف مع نصر اندفعت مرة واحدة لينتهي الأمر بشجار يطعن فيه العجوز نصر في رقبته، بينما يكتب البيت نفسه نهاية حياة نصر ويجهز عليه بحجر يقتله على الفور.
أجاد كل الممثلين في أدوارهم، وعلى رأسهم سيد رجب الذي قدم أداء رصينا وهادئا قائم على الانفعالات والمشاعر الداخلية التي تظهر عبر الوجه وحركة الجسد، بينما كان مجدي عطوان في دور عم سكر حارس العقار المجاور اكتشافا حقيقيا، بوجهه المصري العطوف الذي يبدو صديقا مخلصا وصوتا للعقل في حياة حارس العقار.
أداء تمثيلي راقي
ومثلت ناهد السباعي دور الابنة باتقان وتلقائية اعتدنا عليها في معظم أدوارها، أما الدور الأجمل فكان لأحمد خالد صالح الذي أجاد دور البلطجي نصر بطبيعته المركبة التي تحتاج إلى فنان متمكن حيث أداها بشكل رصين ودون انفعالات زائدة، ومنحنا مشهده الذي يتحدث فيه عن الأسباب التي غيرته ودفعته للبلطجة نظرة جديدة لشخصيته ظهر من خلالها ضعفه وحاجته لمن يعطف عليه ويهتم بأمره، فهو بنفسه كان أقرب لحيوان ضال مثل الذي يعتني به صاحب العقار.
ينافس فيلم "19 ب" في المسابقة الدولية للأفلام الروائية الطويلة بالدورة 44 من مهرجان القاهرة السينمائي، والفيلم من كتابة وإخراج أحمد عبد الله،، وتصوير مصطفى الكائف، وأزياء ناهد نصر الله، ومونتاج سارة عبد الله، ومن بطولة سيد رجب، وناهد السباعي وأحمد خالد صالح وفدوى عابد ومجدي عطوان ومنحة البطراوي.