17-3-2023 | 16:58
هبة عادل - شيماء محمود
الدراما والمجتمع.. طرفا المعادلة الخالدة التى تقوم عليها جميع أشكال الفنون، فالدراما والمجتمع هى علاقة «رايج – جاى»، إذا جاز التعبير، كل يعطى للآخر وكل يستمد من الآخر أيضاً.. وفى دراما الجريمة أيضاً إذا جاز التعبير لطالما اهتم صناعها بأن يقدموا أعمالاً يحاكيها بعض أصحاب النفوس الضعيفة ويقلدونها فى الواقع أما الآن فقد صرنا نسمع ونرى ونطالع عبر وسائل الإعلام المختلفة جرائم أبشع من إمكانية تصويرها وأن نجدها فى أعمال فنية، ونتصور أن قلماً لكاتب يستحيل عليه نقلها، أو أن كاميرا المخرج تطاوعه على تصويرها ونقلها للجمهور، فقد سمعنا عن هذين الوالدين اللذين اُنتزعت من قلبيهما الرحمة وتركا رضيعهما على فراشه حتى مات وتحللت جثته، وهذا المجرم الذى أحرق سيدة عجوزاً وهى تصلى لأنها أبلغت عنه، حيث رأته يسرق شقة جارتها، إلى آخره من جرائم بشعة ما أنزل الله بها من سلطان.. حتى أصبحنا نقول إحنا فى حلم ولا فى علم ؟.. فهل من الممكن أن نرى هذه الجرائم البشعة في فيلم أو مسلسل.. هل يقبل صناع الدراما صنع أعمال بهذه الوحشية والفجاجة ؟، هذا ما سنتعرف عليه فى تحقيقنا التالى...
بدأ المؤلف باهر دويدار حديثه رافضاً فكرة تنفيذ أعمال العنف والانتقام على الشاشات.. مؤكدا إن هناك دائرة تجمع بين الواقع والدراما.. وهناك تأثير متبادل بينهما.. لكن أصبح تركيز الدراما على تيمة الانتقام والعنف يزداد بشكل كبير يوما بعد آخر خاصة وأنها محببة للجمهور لما لها من أبعاد نفسية وسلوكية وتبرز قدرات تمثيلية عالية أيضاً لدى الممثل الذى يلعبها ولكنها تضر بالتأكيد قيم الناس السامية .. وأضاف: حالة النبل التى دائما تميز البطل أصبحت تقل فى الأعمال مما تسبب ذلك فى تغذية نزعة العنف عند الناس بدلا من التسامح.. خاصة مع قلة التأكيد على ضرورة أن تحكم القيم والمعايير النبيلة المجتمع ، إضافة إلا أنه من أخطر ما يكون اللجوء إلى الانتقام دون اللجوء للقانون والعرف العام.. وكأنك تعطى المشاهد المبرر والدافع أن ينفذ فكرة الانتقام إذا ما وضع فى موقف مشابه.. أما على المستوى الشخصى فأنا لا أحب أن أقدم على مشروع دون التفكير فى ردود الفعل وتأثيره على الناس.. حتى وإن نفذت عملا عن قصة حقيقية فلابد من دراسة الرسالة النهائية التى سيتلقها الجمهور.. فعلى سبيل المثال عندما تم تحويل رواية «اللص والكلاب» إلى فيلم كانت عن قصة حقيقية لكن التناول نبه وحذر من الانسياق للوقوع فى الخطأ وكذلك فيلم «دائرة الانتقام» لم يحفز الناس تجاه العنف.. ومع ذلك أنا أميل لأخذ النماذج الإيجابية بشكل عام لأن المصريين على مر التاريخ بهم مئات من النماذج التى يحتذى بها.. وأقرب إلى التسامح ..فلماذا لا نركز على خلق مثل أعلى للشخصيات الناجحة التى تجاوزت الصعاب بشكل شريف مثل المسلسلات التى تربينا عليها مثل «رحلة المليون» و«لن أعيش فى جلباب أبى» فهى قصص نجاح لناس بسيطة استطاعت التألق بشكل شرعى ووصلت لأعلى المراتب.
ويقول المؤلف أحمد عبد الله: الخيال أساسه واقع، فهو الملهم الأول، الذى نطور منه ومن تلك الأحداث والافكار لنضيف لها بعدا درامياً، والآن أصبح استقبال الناس لمثل هذه الحالات عادى لأنهم يشاهدوه كل يوم فى الأخبار أو على مواقع التواصل الإجتماعى نظرا لانتشار وسائل التواصل الاجتماعى بخلاف وسائل الإعلام التقليدية، ومع ذلك فإن الخيال الإنسانى خصب فى محاولة اكتشاف العوالم الأخرى وما تحمله بواطن الأرض وعالم الفضاء، لكن الواقع يظل أكثر تأثيرا وإغراء للخوض فيه، فمثلا شخصية البلطجى التى أثرت على رؤية الناس فى اكتشاف عالم جديد لم نكن نعرفه من قبل من خلال طرحها دراميا، وأنا عندما قدمت أفلام «كباريه» و«ساعه ونص» و«المحكمة» وغيرهم كنت أميل فى كتابتى للمشكلات الإجتماعية التى تمس المجتمع لأنني مؤمن أن تأثير الواقع أكبر، فمثلاً فى «ساعة ونص» ظللت متابعاً لصفحات الحوادث والقضايا الاجتماعية التى استلهمت منها الكثير كنوع من أنواع تسليط الضوء.. وأرى أنه أمرا مهما حتى يعطى عمقا أكبر للدراما المقدمة.
أما المؤلف والمخرج عصام الشماع، فأكد أن التأثر بالواقع دائماً هو الأساس، فالواقع نشأ أولاً عندما اصطاد الإنسان البدائى وقاتل من أجل العيش، ثم صور تجاربه على جدران الكهوف ومع التطور جاءت جميع الفنون من بعد ذلك للتعبير عن هذا الواقع، ومن هنا تم تصوير الواقع من خلال السينما والتليفزيون، هذا بخلاف اللاوعى الإنسانى الذى يحوى مكبوتات وصراعات لم يستطع تنفيذها فى الواقع، فترجمتها الفنون بمختلف أنواعها، ولا شك أن الواقع شديد العنف عبر كل العصور وحتى الحضارات، أما قياس مدى التعبير عنه هو قياس طبقا للثقافة المرتبطة بالطبقة الوسطى والتى تحكمها معايير وأعراف، لكن فى الفن لا يوجد مقياس بل للمبدع الحق فى أن يعكس الواقع بشكل فنى وفقا لوجهة نظره ونحن كصناع أعمال جزء من هذا المجتمع.. لكن المبدعين الحقيقيين يستطيعوا استشراف القادم وتحليل هذا الواقع بشكل ضمنى وفنى وبذلك يخرج الفن عن المألوف.
فيما أكد المخرج أحمد خالد أمين أن الواقع أشد ألماً من الدراما.. فالحوادث التى نتابعها يوما بعد يوم ليست جديدة.. والدراما طبيعى أن تتأثر بالواقع بشكل أو بآخر على سبيل المثال فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة» من روائع الكاتب الكبير وحيد حامد الذى تأثر عندما شاهد مصورا فى الواقع يصور الناس فى الشارع بمقابل، فأبدع حالة فنية خاصة من هذا المثير، ومع ذلك فمناقشة هذه القضايا والحوادث من خلال الأعمال الفنية غيرت قوانين وصححت مفاهيم مثل فيلم «اريد حلا» وفيلم «المغتصبون» التى تم استلهامها من ملف قضايا حقيقية..الفكرة فى كيفية تناول هذه الأعمال والرسالة التى ستحملها للمشاهد فعلى سبيل المثال تم تقديم المناطق الشعبية فى عدة أفلام لكن اختلف تناولها من عمل لآخر، فعند مقارنة فيلم «الكيت كات» بفيلم «حين ميسرة» نجد اختلافاً كبيراً رغم أن العملين ناقشا مشكلات المناطق العشوائية.
وأضاف: الصناع ينفذوا ما يريده الناس والناس تنتظر دائما أعمال مغايرة لذا وجدنا مسلسل «بـ100 وش» كموضوع ناجح جداً خاصة مع الظروف التى تسببت فيها جائحة «كورونا» فجعلت الناس تتعاطف مع النصابين واللصوص.. وهو أمر بالطبع غير محمود على إطلاقه ولكن يجب مراعاة الحذر فى تناول أعمال الجريمة على الشاشة.
ويرى المخرج مصطفى الشال أن التأثير متبادل بين الواقع والدراما، فهناك أعمال كان ملهمها الرئيسى قصص واقعية.. وهناك حوادث تأثرت بأعمال فنية.. لكن ليس كل الحوادث التى نراها فى الواقع تصلح تقديمها على الشاشة، لأن صناع العمل يحملون مسئولية تأثر الأجيال الجديدة مما يرونه ويتأثرون به، فعلى سبيل المثال توصيل فكرة أن السرقة والنصب أمر سهل، أو الانتقام بين الناس يكون بالأيدى وليس باللجوء للقانون سيجعل الجمهور يتأثر بشكل سلبى بهذه الأفكار، لذا أرى أن ليس كل الحوادث والقضايا تصلح لتقديمها بشكل مباشر من خلال الدراما التى تدخل البيوت ولو عُرض على عمل يحمل رسالة سلبية لن أقبله، ومع ذلك من الممكن تقديم مساحة أوسع من هذه الأفكار فى السينما نظرا لنضج الفئة العمرية التى تدخل السينما.. لكن التلفزيون لابد أن يحمل معايير خاصة ومحددة نظرا لدخوله للأسرة من أعمار وفئات مختلفة.
وتقول الناقدة الفنية ماجدة موريس: الحقيقة أن طول عمر الدراما هى التى تأخذ من المجتمع وليس العكس، حتى أن اول ما يتعلمه كاتب السيناريو أن يقال له اكتب من الحياة، اكتب ما تراه حولك، اكتب من الواقع، أما الآن وقد أصبحت الحياة صعبة لدى البعض، فقد زادت بالفعل معدلات الجريمة فى بعض الأماكن وبعض الأوقات، وزادت نوعيات معينة من الجرائم عنفا وتوحشا وصرنا نسمع عن جرائم مرعبة يمارسها مرتكبوها بلا أدنى ضمير واجدين لأنفسهم كل المبررات لأفعالهم الوحشية، ومن ثم بات من الصعب فى تصورى نقل ذلك ومحاكاته دراميا وسيجد المؤلف نفسه أمام أشياء يصعب عليه كتابتها ونقلها دراميا للجمهور.
ويقول د. محمود بسطامى.. الاستاذ بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية:
للأسف الكثير من منظومة القيم اختلف ومفاهيم الأسرة والشرف والأمانة والصدق والنزاهة تغيرت، والدراما بدلا من العمل على اصلاح هذه القيم عبر أعمالها أصبحت تصدر رسائل عكسية وتنقلها بشكل يزيد من تدهور الحالة ولا أعتقد أن دور الدراما أن تنقل الواقع كما هو، خاصة أن معظم الكتاب لا يلجأون لمتخصصين يرجعون إليهم وهم بصدد الكتابة عن موضوع معين خاصة إذا كان يتعرض للجرائم وأهمية البحث والدراسة حول أسبابها ودوافعها وأتذكر أن الكاتب الراحل وحيد حامد وأيضاً أسامة أنور عكاشة وغيرهما كانوا يأتون إلى المركز ويقرأون بالساعات حول الموضوع الذى سيكتبون عنه فى حرص ليس فقط على محاكاة الواقع ولكن لوضع حلول لإشكالياته، وهذا ما لم يعد يحدث حالياً، فكل من قرأ خبرا فى جريدة ينقله حرفيا للشاشة دون مراعاة لتأثير ذلك على المتلقين الذين هم متفاوتون فى كل شيئ وبالتالى فنجد أن الجرائم ذات الصبغة الوحشية التى يستهجنها الضمير، وهى حالات نادرة وفردية، لكن مع نقلها درامياً يصبح هذا النقل وذلك التعميم خطيراً جداً، حيث يصنع من الحالات الشاذة حالات عامة ومع تكرار العرض والنقل يستبيح كل من تسول له نفسه أن يقدم على ما يشبهها بعدما تشبع وجدانياً بكونها أمراً عاديا ويحدث هنا وهناك .