السبت 1 نوفمبر 2025

خيرية أحمد.. ضحكة مصرية قاومت الوجع حتى آخر لحظة

خيرية أحمد

1-11-2025 | 01:52

عنتر السيد
حين نذكر الضحك النظيف والكوميديا الراقية، تتقدم إلى الذاكرة فوراً صورة تلك السيدة الوديعة ذات الوجه المصرى الصافى، التى كانت تملأ الشاشة حضوراً وتترك فى القلب دفئاً إنسانياً لا يمحى. إنها خيرية أحمد، أو «خوخة» كما كان يناديها المقربون، الفنانة التى لم تضحك الناس فحسب، بل جعلتهم يرون فى شخصياتها اليومية مرآةً لأنفسهم، وأضفت على الفن الكوميدى روحاً نسائية راقية ظلَّت نادرة فى زمنها. رحلت فى مثل هذا الشهر من عام 2011، لكن ضحكتها لم ترحل، ولا زال صوتها يملأ الأثير فى الذاكرة كلما سمعناها تقول: «محمووود... إنت نمت يا حبيبي؟». لم تكن خيرية أحمد مجرد ممثلة كوميدية؛ بل كانت ظاهرة إنسانية وفنية فريدة، تنسج من المواقف البسيطة دراما ساخرة تنبض بالصدق، وتحول كل مشهد إلى درس فى فن التمثيل الحقيقى. ولدت سمية أحمد إبراهيم فى 15 من أبريل عام 1937، بمحافظة أسيوط، فى صعيد مصر، فى أسرة متوسطة، لكنها سرعان ما وجدت فى الفن طريقها إلى التعبير عن ذاتها، لتتحول إلى واحدة من أكثر النجمات تأثيراً فى تاريخ الكوميديا النسائية. من «المسرح الحر» إلى «ساعة لقلبك» بدأت خيرية أحمد مسيرتها الفنية فى أوائل الخمسينيات حين التحقت بفرقة «المسرح الحر»، وهناك تعلمت أسس الأداء المسرحى، ومهارة التفاعل مع الجمهور المباشر، لم تكن البداية سهلة، لكنها كانت تؤمن بأن الفن رسالة لا مهنة. فى تلك المرحلة، تعرفت على عدد من المبدعين الذين تركوا بصماتهم فى تاريخ الفن المصرى، وكان من أبرزهم إسماعيل ياسين وفؤاد المهندس، اللذان أثرا فى تكوينها الفنى لاحقاً. غير أن الانطلاقة الحقيقية جاءت من خلال انضمامها إلى فرقة «ساعة لقلبك»، التى كانت واحدة من أهم المدارس الكوميدية فى مصر والعالم العربى، عبر ميكروفون الإذاعة المصرية، صعد صوتها لأول مرة ليضحك الملايين ببراءة متناهية وإفيهات خفيفة الظل، من أشهرها «حودة حبيبي» و«محمووود.. إنت نمت يا حبيبي؟»، وهى جمل أصبحت جزءاً من ذاكرة الكوميديا الشعبية المصرية. فى «ساعة لقلبك»، أدت خيرية دور الزوجة البسيطة ذات القلب الطيب، التى تقع فى مواقف مضحكة مع زوجها (الذى أداه فؤاد المهندس)، فكونت معه ثنائياً فنياً ناجحاً امتد لاحقاً إلى السينما. فى المسرح.. كوميديا الحياة اليومية بعد نجاحها الإذاعى، انتقلت خيرية أحمد إلى خشبة المسرح، لتصبح أحد أركان الفرق المسرحية التى شكلت الوعى الفنى لجيلٍ كامل. انضمت إلى فرقة إسماعيل ياسين، ثم إلى فرقة نجيب الريحانى وفرقة أمين الهنيدى، وقدمت عشرات المسرحيات الناجحة مثل: «مراتى بنت جن»، «عبد السلام أفندى»، «الرضا السامى»، «المغناطيس»، «أختى سميحة»، و«نمرة 2 يكسب». كانت تمتاز على المسرح بحضورها القوى، وقدرتها على إدارة الكوميديا بتلقائية دون أن تتجاوز حدود الذوق أو السخرية. وفى الستينيات، ازدهرت مسيرتها المسرحية أكثر حين شاركت النجم محمد عوض فى سلسلة من الأعمال الجماهيرية مثل «الطرطور»، «طبق سلطة»، «نقطة الضعف»، «كلام رجالة»، «مهرجان الحرامية»، و«القصيرين». كانت خيرية أحمد تضفى على كل عمل روحاً خاصة؛ فحتى حين تجسد دور الزوجة أو الأم أو المساعدة، كانت تضفى على الشخصية بعداً إنسانياً عميقاً يثير التعاطف قبل الضحك. من تلميذة يوسف شاهين إلى نجمة الصف الأول دخلت خيرية أحمد السينما من الباب الواسع حين قدمها المخرج الكبير يوسف شاهين فى فيلم «ابن النيل» عام 1951، أمام عمالقة الفن فاتن حمامة وشكرى سرحان ومحمود المليجى، كان هذا العمل بمثابة شهادة ميلاد فنى مبكر لها. ثم عادت لتتعاون مع شاهين مرة أخرى فى فيلم «المهرج الكبير» عام 1952، قبل أن تبدأ رحلتها مع أفلام الكوميديا التى صنعت شهرتها. قدمت خلال مسيرتها أكثر من خمسين فيلماً، من أبرزها: «حماتى ملاك»، «عريس مراتي»، «الفانوس السحري»، «الطريق المسدود»، «الرباط المقدس»، «جمعية قتل الزوجات»، «عالم عيال عيال»، «صباح الخير يا زوجتى العزيزة»، «أميرة حبى أنا»، «احترسى من الرجال يا ماما»، «بمبة كشر»، «صايع بحر»، و«ظاظا». فى كل هذه الأعمال، لم تكن مجرد ممثلة تؤدى النص، بل كانت تعيد تشكيل الشخصية بروحها، لتتحول إلى كيان حى ينبض بالصدق والعفوية. الدراما التليفزيونية.. وجه الأم المصرية الأصيل مع دخولها مرحلة النضج الفنى، وجدت خيرية أحمد مكانها الطبيعى فى الدراما التليفزيونية، التى منحتها مساحة أكبر للتعبير عن جوانب إنسانية مختلفة. قدمت أكثر من ستين عملاً درامياً، منها: «العائلة»، «ساكن قصادى»، «أحلام اليقظة»، «الهويس»، «عفاريت السيالة»، «فى إيد أمينة»، «حدائق الشيطان»، «فرح العمدة»، «فريسكا»، «العميل 1001»، و«ماما فى القسم». تميز أداؤها فى هذه المسلسلات بالبساطة والتلقائية، إذ استطاعت أن تلمس وجدان المشاهد بأدوار الأم المصرية المكافحة، التى تحمل الهموم بابتسامة صافية وطيبة لا تتكلفها. رفيق الدرب.. ومستشارها الفنى على الصعيد الشخصى، ارتبطت خيرية أحمد بقصة حب فريدة من نوعها مع الكاتب الكوميدى الكبير يوسف عوف، الذى كان أحد أبرز كتاب الكوميديا فى مصر والعالم العربى. ففى بداياتها الفنية وأثناء عملها فى فرقة «ساعة لقلبك»، كانت بداية العلاقة بينهما، حيث جمعتهما روح الدعابة نفسها، والفكر المشترك فى تقديم الكوميديا الراقية التى تقوم على الموقف الذكى لا على السخرية من الناس. تزوجا وأنجبا ابنهما الوحيد كريم، الذى اتجه لاحقاً إلى الإخراج، كانت تعتبر يوسف عوف «رفيق الدرب ومستشارها الفنى»، وظلت إلى جواره فى مرضه حتى رحيله عام 1999، لتعيش بعده صدمة كبيرة تركت أثراً عميقاً فى نفسها. وداع «خوخة» خفيفة الدم فى أواخر سنواتها، أصيبت خيرية أحمد بالمرض، لكنها ظلت تواجه الألم بابتسامتها المعهودة، رافضةً الاستسلام للضعف أو الغياب. كانت تعمل وتصور حتى الأيام الأخيرة، مؤمنةً بأن الفنان الحقيقى لا يتقاعد من فنه ما دام قلبه ينبض بالحياة. وفى صباح 19 نوفمبر عام 2011، رحلت عن عمر ناهز 74 عاماً، تاركة وراءها فراغاً كبيراً فى قلوب جمهورها وزملائها. تكريم متأخر.. وبكاء من القلب رغم مسيرتها الطويلة ومكانتها فى قلوب الملايين، لم تكرم خيرية أحمد إلا مرة واحدة فقط خلال الدورة الـ14 لمهرجان القاهرة للإعلام العربى، وهناك لم تتمالك دموعها، فبكت على المسرح وهى تقول: «التكريم ده أغلى من أى جايزة، لأنه جاى من الناس اللى بحبهم». كان ذلك المشهد مؤثراً لكل من تابع حفل التكريم، فقد رأى الجمهور دموع فنانة وهبت عمرها للبسمة، ولم تنل التقدير الكافى إلا فى أواخر أيامها. إرث خالد فى وجدان المصريين برصيدٍ يزيد على 40 مسرحية، و50 فيلماً، و60 مسلسلاً، استطاعت خيرية أحمد أن تترك إرثاً فنياً خالداً يعبر عن هوية المرأة المصرية البسيطة. كانت نموذجاً للفنانة التى تضحك دون أن تهين، وتبكى دون أن تبالغ، وتجسد بصدق صورة الأم والزوجة والجارة والأخت فى وجدان المشاهد، حتى إن أعمالها حين تعرض حتى اليوم على الشاشة تملأ البيوت دفئاً وحنيناً من جمهور لا ينساها مهما مرت السنوات.